الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى هذه الدرجة من العنصرية ومحدودية الأفق تهبط الفقرات السابقة بمعنى الربوبية .. ويبلغ الافتراء على الله ذروته في مفهوم التوراة المتداولة عن الربوبية. "لقد جعلوا من رب العالمين شيخ قبيلة"(1)
…
فالرب في التوراة ليس رب العالمين ولا رب الأكوان كلها إنما هو رب إسرائيل وحدها، ولهذا وفي آخر الزمان يأتي الله بكل الشعوب والأمم لتلحس تراب نعل حذاء إسرائيل
…
فالروببيه والعناية وإسباغ النعم هي أمور يجب أن تنفرد بها إسرائيل وحدها والله ليس رباً للشعوب والأديان الأخرى. فكل ما عدا شعب إسرائيل (جوييم) حيوانات وكل ما عدا الديانة اليهودية خزعبلات. وما عرضناه من الصور الغاضبة، الحاقدة، الساخطة الناقمة، في اطر من السحق والقتل والذبح، يعبر عن مفهوم بني إسرائيل القدماء للإله، وعن الصورة التي حملوها في نفوسهم عنه (2)، مما دفع توماس جفرسون وهو من أعظم الآباء المؤسسين لأميركا إلى القول في (الأفكار الحية) عن الإله الذي اقطع فلسطين (لشعب إسرائيل إلى الأبد)، بأنه فظ، حقود، مزاجي، ظالم (3). والهاً هذا شأنه "يختار شعباً ويمنحه امتياز اغتصاب وتدمير الآخرين، لا يمكن إن يكون إلها للبشر أجمعين، كما قال جان جاك روسو"(4).
فكرة المسيح المخلص ونهب أساطير الشعوب الأخرى
يذهب اغلب الباحثين إلى القول بأن اليهود أثناء فترة السبي البابلي اخذوا فكرة المخلص عن البابليين أو الفرس، فالديانة الزرادشتيه، التي وضع مبادئها زرادشت (660ـ583 ق. م) تبشر بظهور مخلص من بيت زرادشت، مرة كل ألف عام لكي يناصر (هرمازدا) اله الخير، على أخيه (الهرمان) اله الشر، كلما أمعن الفساد في الأرض واستفحلت الشرور. كما كان البابليون يعتقدون انه كلما استشرى الفساد في الأرض واستغرقت البشر حمأة الشرور والآثام عاد إليهم (ماردوك) ليطهرهم ويشيع الخير فيهم.
(1) إسرائيل .. البداية والنهاية - د. مصطفى محمود ص71
(2)
المسيح القادم .. مسيح يهودي سفاح - جورجي كنعان - ص146
(3)
حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص154
(4)
كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي ـ د. منى طلبهـ ص275
ويبرر هؤلاء الباحثين استنتاجهم السابق بالقول، انه بعد انتهاء مملكتي إسرائيل ويهودا على يد الأشوريين والبابليين، عاش اليهود في كنف الإمبراطورية الفارسية ثم تحت حكم السلوقيين ثم الرومان مجرد تابعين محكومين فحسب، لهذا لم يتمكنوا من إبداع أساطير ذات ملامح حضارية مستقره؟. ومما يؤكد ذلك أن وثائق بلاد النهريين ومصر وكنعان عن الخلق والجنة والطوفان وغيرها، يرجع تاريخها إلى الفترة من منتصف القرن الثامن والعشرين إلى حوالي القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد، هذا في حين أن أقدم مصادر التوراة يرجع تاريخها إلى منتصف القرن العاشر أو التاسع قبل الميلاد، ومن المعروف أن أول تدوين للعهد القديم حدث بعد وفاة النبي موسى عليه السلام بحوالي خمسمائة سنه أي حوالي القرن السابع قبل الميلاد (1).
يضاف إلى ذلك أن يهود السبي البابلي كان لهم النصيب الأكبر في تكوين الديانة اليهودية، حيث مارس اليهود شعائرهم الدينية وواصل كهنتهم أعمالهم الدينية بتحرير أهم فصول التوراة، والتمهيد لتدوين التعاليم اليهودية فيما سمي بـ (التلمود البابلي)، حتى أن السبي البابلي كان عاملاً قوياً في تطوير الديانة اليهودية في القرون التي تلت ذلك، حيث دونت خلالها أهم فصول التوراة، التي دونها الكهنة اليهود باللغة الآرامية. وحتى ما ورد في التوراة من مزامير وأمثال وأشعار وشرائع وما إلى ذلك من أساطير وقصص فهي أيضاً مستقاة من المصادر الأدبية القديمة لمختلف الثقافات التي اطلع عليها كتبة التوراة ومن المعتقدات والتقاليد الاجتماعية التي عاشوها ومارسوها فعلاً في فلسطين وبابل وهى كنعانية بابلية مصرية الأصل (2).
كما يرى البعض أن كتاب التوراة هو في مجمله، لا يخرج عن إطار التراث العربي (مع الفارق) الذي كان يحفظ مدوناً في الذاكرة لعشائر عربيه عاشت أحداثاً معينه في منطقة بدويه جد ضيقه من شبه الجريرة العربية، وان كثيراً من مدوناته إنما كانت
(1) أساطير التوراة الكبرى وتراث الشرق الأدنى القديم - د. كارم محمود عزيز ـ ص242ـ243 - - دار الحصاد للنشر والتوزيع /دمشق- ط1 1999
(2)
العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة ص268ـ369
جزءاً من ذلك التراث الذي تناقلته الأجيال جيلاً بعد جيل. فقصة التكوين البابلية وقصة الطوفان هي نفسها التي تحدثت عنها القيم المسمارية قبل ألفي عام من أحداث التوراة، وقصة أيوب، والأمثال والمزامير، والأناشيد، كانت كلها بعضاً من التراث المتداول، جمعه مدونو التوراة إلى جانب أخبار تلك العشائر البدوية العربية في منطقة عسير من شرق بلاد غامد في شبه جزيرة العرب (1).
ويكشف فرويد عن النهب اليهودي من الديانة المصرية عند حديثه عن ثنائية العقيدة الدينية عند اليهود فيقول: "أن كلمة (أدوناي) في العبرية ـ وهى اسم الرب في العقيدة الموسوية ـ هي تحريف لكلمة آتون المصرية ـ أي إله التوحيد. ويعرض العلامة ديورانت في (قصة الحضارة) الفارق بين ديانة التوحيد الموسوية من جهة، وديانة أحبار التوراة في وقت لاحق من جهة أخرى فيقول: إن تراتيل إخناتون في تصوير الإله ليست من أولى قصائد التاريخ الكبرى فحسب، وإنما هي شرح بليغ لعقيدة التوحيد، إذ يرى أن إلهه هو رب الأمم كلها. وفي مديحه له يذكر مصر قبل غيرها من البلاد التي يوليها كلها عنايته. ويعلق (ديورانت) على ذلك بقوله: إلا ما أعظم الفرق بين هذا وبين العهد القديم، عهد اله القبيلة
…
الخاص بفئة معينة. ثم يضيف ديورانت فيقول: ثم انظر إلى ما في القصيدة من مذهب حيوي حينما يقول: أن "آتون" لا يوجد في الوقائع والانتصارات الحربية
…
وإنما في أزهار الأشجار، وفي جميع صور الحياة والنماء .. وليس كيهوه رب الجيوش، بل كان رب الرحمة والسلام" (2).
وهكذا فأنه يمكننا بسهولة ملاحظة أن النهب في الأسطورية السومرية/ البابلية، كان على نطاق واسع، مثلما كان من الأسطورية المصرية والاختلاف الوحيد بين أسطورتي الخلق البابلية واليهودية أن البابلية حسمت الصراع بين الإله (مردوخ) وقوى الفوضى الأولى (تيامات وجيشها) بانتصار مردوخ الكامل عند بدء الخليقة، بينما جعلت الأسطورة اليهودية الصراع مستمراً ومتواصلاً إلى أن يحسم في آخر
(1) العرب الساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل ـ د. احمد داوود ص95 - طباعة دار المستقبل /دمشق- ط1 1991
(2)
رسائل حضارية في مواجهة اليهوديةـ الأب فوتيوس خليل ـ ص66
الأيام بالانتصار الأخير الوارد في سفر الرؤيا. ولهذا نجد أن (بزوغ) السماء الجديدة والأرض الجديدة بدلاً من سماء الأيام الأولى وأرضها، الذي وقع في أسطورة مردوخ وتنبأ به سفر الرؤيا لن يكون إلا في (آخر الأيام) في الأسطورة اليهودية، نظراً لتأخير المعركة الأخيرة مع التنين انتظاراً لمجيء المسيح المنتظر والعصر الألفي السعيد. ولن يكون ذلك إلا بتحقيق مخطط للخليقة وتسيد شعبه المختار الأخص على العالم بعد القضاء على كل أعدائه الأمميين أي من يتظاهرون أنهم بشر وهم في حقيقتهم سائمة (1).
فأحبار اليهود وكهنتهم لم يكتفوا بنهب أساطير الشعوب الأخرى، بل عملوا على تشويهها ومسخها إشباعاً لأحقادهم الدفينة علي شعوب المنطقة والبشرية، ومحاولة منهم لإخفاء هذه السرقة والنهب المنظم لتراث الشعوب الأخرى. فهناك مزامير عديده استوحت من الطراز الكنعانى كما تشهد بذلك نصوص رأس شمرا، حيث أنه بناء على حل رموز النصوص العديدة التي وجدت في رأس شمرا، (أوغاريت القديمة)، يستنتج أن الكلمات والتعابير العبرية التي كان يشتبه العلماء في أن لها معاني دينية، ظهر أنها متصلة بأفكار العبادة في اللغة الكنعانية، وأن جميع القوانين، والطقوس والاحتفالات، والأغاني، والأمثال الإسرائيلية، استعيرت من العموريين والكنعانيين الذين كانوا يعيشون في البلاد قبل أن يأتي العبرانيون إليها (2). كما ان هناك مزامير اخرى ولاسيما المزمزر 104 كأنها نسخ للأناشيد المصرية. .. وفي ظل هذا الجو من التلفيق والتوفيق ستولد الاسفار الخمسه (التكوين والخروج واللاويون والعدد والاشتراع) وهى نواة التوراة التى تتضمن جوهر العقيدة اليهودية. كما ان الاساطير المتصلة بالخلق قد اقتبست في جوهرها من الاساطير القديمة فيما بين النهرين، ولا سيما من الحكايات الآشورية- البابلية، فحكايات خلق العالم والفردوس الارضي والطوفان قد سبق أن وجدت مدونة في عبارات قريبة جداً من عبارات التوراة في الاشعار السومرية أو في ملحمة جلجامش، التى ترجع إلى الالف الثاني ق. م (3).
(1) قراءة سياسية للتوراة ـ شفيق مقار ـ ص165
(2)
القدس في العصر البرونزي (1000 - 3000 ق. م) "، ضمن كتاب القدس في التاريخ، ص 41 - 40، وينظر ص 43 - 42.
(3)
فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم ص77 - 81
وفي كتابه (العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم) يناقش (د. بشار خليف) اختلاقات التوراة وانتحالاته لتراث المشرق العربي في شقيه الرافدي والكنعاني، ويقدم إضاءة على تيار فكري تاريخي جديد في إسرائيل ظهر في الثلث الأخير من القرن العشرين بما يسمى المؤرخون الجدد في إسرائيل والذين أحبطهم التنقيب الأثري في فلسطين في العثور ولو على دليل بسيط عن تواجد حضاري مهم للعبرانيين والوارد في التوراة، ما أدى إلى نقدهم ونقضهم للروايات التوراتية .. حيث يشير إلى مقولة الباحث الإسرائيلي (زئيف هيرتزوغ (:
"إن الحفريات الأثرية المكثفة في أرض (إسرائيل) خلال القرن العشرين، قد أوصلتنا إلى نتائج محبطة، كل شيء مُختلق، ونحن لم نعثر على شيء يتفق والرواية التوراتية. إن قصص الآباء في سفر التكوين (إبراهيم - يعقوب - اسحق) هي مجرد أساطير. نحن لم نهبط إلى مصر، ولم نخرج منها. نحن لم نته في صحراء سيناء. نحن لم ندخل إلى فلسطين بحملة عسكرية. وأصعب الأمور أن المملكة الموحدة لداود وسليمان التي توصف في التوراة بأنها دولة عظمى، كانت في أفضل الأحوال مملكة قبلية صغيرة. إنني أدرك باعتباري واحداً من أبناء الشعب اليهودي وتلميذاً للمدرسة التوراتية، مدى الإحباط الناجم عن الهوة بين آمالنا في إثبات تاريخية التوراة، وبين الحقائق التي تتكشف على أرض الواقع"(1). ويشير المؤلف إلى أن طروحات هذا التيار سوف تؤدي إلى انهيار المدرسة التوراتية الأثرية (2).
فالأدلة العلمية كثيرة قاطعه لم تعد تترك مجالاً لأدنى شك في أن كثير من حكايات التوراة، نهبت من أساطير الشعوب الأخرى حيث أنه وفي وجه هذه الأدلة، لم يعد يجدي الإنكار، ولذا صار اعترافاٌ عاماً. لكن (شطارة) الشعب المختار ودعاته وتبعية أتباعه الأمميين جعلتا من غير المقبول أن يعترف بالنهب دون أن يستغل ذلك
(1) عالم الآثار الإسرائيلي " زئيف هيرتزوغ " صحيفة هآرتس 28/ 10/1999 - نقلاً عن السفير اللبنانية 1/ 11/1999
(2)
العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم - د. بشار خليف - دار الرائي للدراسات والترجمة - دمشق 2004.