الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
ظهور الحركة الصهيونية
بالرغم من أن الكتابات والدراسات المتعلقة بالحركة الصهيونية احتلت حيزاً كبيراً في الأدبيات العربية خلال القرن الحالي، إلا أنها في أغلبها لم تستطع وضع هذه الحركة في حجمها الطبيعي، وبيان دورها الحقيقي في قيام إسرائيل، حيث يعزو معظم الكتاب والمحللين ـ المهتمين بالقضية الفلسطينية ـ للحركة الصهيونية، القيام بالدور الرئيس في إقامة دولة إسرائيل، ويضفون على زعماء هذه الحركة هالة من العبقرية والدهاء والقدرة على المناورة واستغلال الفرص، واستعمال وسائل الضغط المختلفة على الحكومات وصانعي القرار، من خلال ما يقال عن سيطرة اليهود واللوبي الصهيوني على وسائل الإعلام والاقتصاد العالمي. واعتقد ان ما عرضنا له في السابق يكشف ولو جزئياً زيف هذه الدعاوى ويكشف ان دور الحركة الصهيونية وزعمائها لم يكن في أحسن الأحوال إلا كصدى للأفكار التي انتشرت بين المسيحيين البروتستانت.
ولذلك فإنه ليس من المغالاة في شيء القول "بأن الصهيونية غير اليهودية، كانت قد انتشرت في أوروبا، ووصلت فكراً وتخطيطاً إلى أعلى مراحل الصهيونية ـ أي مشروع الدولة ـ بينما كان اليهود أنفسهم، سواء في أوروبا الغربية أو أوروبا الشرقية، لا يزالون خارج النشاطات الصهيونية، وفي الكثير من الأحيان كانوا يقفون ضدها، كان بعضهم لا يستوعبها عقلياً، وبعضهم يرفضها دينياً أو نفسياً، وبعضهم لم يسمع بها بعد. ويمكن القول، بصورة عامة، إن اليهود كانوا آخر من اكتشف الصهيونية في أوروبا"(1). ويؤكد هذه الحقيقة رئيس الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو) بقوله: "كان التأييد للفكرة الصهيونية، منذ البداية بين من هم غير يهود، اكبر بكثير منه في الأوساط اليهودية"(2). وقد لاحظنا من خلال العرض السابق كيف أن المسيحيين البروتستانت بدؤوا يطالبون بإعادة اليهود إلى فلسطين منذ القرن
(1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 285
(2)
مكان تحت الشمس - بنيامين نتنياهو ص72
السادس عشر الميلادي، ولم يتركوا وسيلة لتحقيق ذلك، من خلال عقد اللقاءات وطرح المشاريع على رجال الدولة، والقيام برحلات استكشافية لدراسة فلسطين وتهيئتها لعودة اليهود إليها، هذا في حين كان اليهود آخر من يفكر في هذا الأمر.
"ويعود السبب في إحجام اليهود عن المشاركة والتجاوب مع هذه الدعوات إلى فقره تلموذية شهيره في الجزء المسمى "كيتوبوت" ص111 والتى تتردد في اجزاء اخرى من التلمود، حيث يقول الله انه فرض على اليهود ثلاثة مواثيق: اثنان منهما يتعارضان بوضوح مع المعتقدات الصهيونية وهما:
1 -
يجب على اليهود الا يتمردوا على غير اليهود.
2 -
يجب الا يقوم اليهود بالهجرة إلى فلسطين قبل مجئ المسيح.
3 -
والميثاق الثالث يفرض على اليهود عدم الصلاة بقوة طلباً لقدوم المسيح، حتى لا يأتي قبل موعده المحدد.
وقد قامت الغلبية العظمى من اهم حاحامات اليهودية التقليدية بتفسير المواثيق الثلاثة وواصلت اعتبار وجود اليهود في المنفى التزاماً دينياً للتكفير عن الآثام اليهودية التى جعلت الله يقوم بنفيهم" (1).
فاليهود المتدينون يبنون آمال المستقبل من العبرة بالماضي. "فهم يفسرون التوراة، بان الإسرائيليين القدماء أضاعوا الأرض المقدسة بسبب ارتكابهم المعاصي ضد الآخرين، وبسبب تخليهم عن إلههم الواحد من أجل آلهة أخرى. واليهودية في جوهرها دين ميثاق وعهد وان اختلف هذا العهد من جيل إلى جيل، فهو دائماً يبقى عقداً بين الشعب والله. فالله وعدهم بالأرض، وبأن يعيشوا فيها عيشة ازدهار، لكن في مقابل ذلك، على اليهود من جانبهم أن يقوموا بتنفيذ الشروط الخلقية والمبدئية للعهد، كما يشرحها أنبياء الله في كل عصر. فالله وحده إذاً هو الذي يحكم على سلوك أبناءه اليهود، وهو وحده الذي يرى ـ في مرحلة ما ـ أنهم قد وصلوا إلى حد
(1) الاصولية اليهودية في اسرائيل- تأليف اسرائيل شاحاك - نورتون متسفينسكي - ترجمة ناصر عفيفي - ص51.
المثالية الخلقية، مما يستدعى تصحيح العهد، فيرسل لهم مسيحاً ليخلصهم من الشتات، ويعيدهم إلى الأرض المقدسة" (1).
وعقيدة المسيح المنتظر أو (النزعة المسيحانية)(2) لدى اليهود بدأت بالتكوين منذ بداية زوال (دولة) اليهود التي كانت قائمه في فلسطين، أي منذ هدم الهيكل الثاني ثم الهزيمة الكبرى التي لحقت باليهود في باركوخبا عام 132م. فمنذ ذلك الحين، فيما يروى مؤرخو اليهود ظهر الاعتقاد بمجيء (المسيح) الذي سوف يخلص بني إسرائيل من المنفى، ويعيد إليهم مجدهم التليد. "حيث اتخذ هذا الأمل المسيحاني شكل أمل مزدوج: أمل مزدوج في العودة إلى العصر الذهبي لليهود، وأمل في قيام عالم أفضل، مختلف كل الاختلاف عن عالمنا، وهذا الخلاص المسيحاني لن يحدث إلا عند نهاية الزمن. والتعجيل بمعجزة مجيء العصر المسيحاني لا يمكن أن يأتي إلا من الله، وما على الإنسان إلا أن يصلي لله ويحسن عمله أملا في ألا يتأخر الخلاص وكل محاولة للعودة إلى أرض إسرائيل قبل ظهور الإشارات الإلهية، كفر وهرطقة وثورة ضد الإله وعودة اليهود إلى أرض آبائهم شأن من اختصاص الإله وحده، ولا تتم بقرار من بنى البشر" (3).
كانت هذه هي النظرة التي حكمت تفكير اليهود منذ تدمير الهيكل للمرة الثانية وحتى بداية القرن التاسع عشر، حيث التزموا بهذه الرؤية الدينية طوال هذه الفترة، ولم يبذلوا أي جهد في سبيل العودة إلى فلسطين، وظلوا ينتظرون المسيح المنتظر لكي يخلصهم ويعيدهم إلى فلسطين بمعجزه إلهية، "حيث ملأت قصص المسيح المنتظر كثير من الثرات اليهودي القديم والحديث وكثيراً ما كانت سبباً في نزول بلايا ورزايا كثيرة باليهود في ادوار مختلفة ولا تزال هذه العقيدة إلى اليوم راسخة في نفوس الطبقات المتدينة من اليهود. واذا قام شخص وادعى انه المسيح المنتظر
(1) فلسطين، القضية، الشعب، الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ص 327
(2)
يشير الفكر المشيحاني إلى أن هناك شخصا مرسلا من الآلهة يتمتع بقداسة خاصة، إنسان سماوي، وكائن معجز خلقته الآلهة قبل الدهور، يبقى في السماء حتى تحين ساعة إرساله، وهو نقطة الحلول الإلهي المكثف الكامل في إنسان فرد، وسيأتي ليعدل مسار التاريخ اليهودي؛ بل والبشرى فينهي عذاب اليهود ويأتيهم بالخلاص. راجع دفاع عن الإنسان ـ د. عبد الوهاب المسيري
(3)
صراع اليهودية مع القومية الصهيونية - د. عبد الله عبد الدائم - ص 25 - دار الطليعة، 2000
الذي يحنون اليه منذ ازمان طويلة انكروا ادعاءه وسفهوا قوله ورفضوا الاذغان لما يدعوهم اليه. وكأن الامة اليهودية كانت ترمي لهذه الفكرة إلى غاية معنوية لا يريدون تحقيقها بوجه من الوجوه" (1).
لقد كانت تظهر بين الفترة والأخرى دعوات من بعض اليهود الذين يدعون أنهم المسيح المنتظر، فيلتف حولهم اليهود ويعقدوا عليهم الآمال ولكن سرعان ما يتضح كذب دعواتهم فتنهى هذه الدعوات بمقتل صاحبها أو تراجعه عن دعوته. "ففي عام 640 م ادعى يهودي من بيت ارامايا من قرية الفلوجة بالعراق، انه المسيح المنتظر، وقد تجمع حوله حوالي 400 شخصاً من مختلف المهن وحرقوا ثلاث كنائس، وقتلوا عمدة المنطقة، ولما بلغ خبر هذا المسيح وأعوانه السلطة أرسلت ثلة من الجيش أعملت فيهم بطشاً وتقتيلاً وقبض على المسيح المنتظر وأعدم"(2). ومن أولئك الأدعياء في الشرق الإسلامي خلال القرون الوسطى، دجال ظهر في الشام في آخر خلافة عمر بن عبد العزيز، وآخر من بلدة شرين ادعى انه سيحقق معجزة استعادة فلسطين. وظهر يهودي آخر من بلدة أصفهان يدعى عبيد الله أبو عيسى الأصفهاني، ابتدأ دعوته في زمن آخر ملوك بنى أميه 744م، وقال:"إن عودة فلسطين لن تتم إلا بالقتال، واعد جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل من اليهود، وقد عاشت حركته فترة من الزمن في عهد أبو العباس السفاح، إلا أن الخليفة المنصور قضى على هذه الحركة وهزم جيش اليهود وفر أبو عيسى باتجاه الشمال"(3).
وفي حوالي 1160 م وفي عهد خلافة المقتفى لأمر الله العباسي حدثت فتنه كان سببها يهودي يدعى داود الروحي، كان قد ادعى أنه المسيح المنتظر. "وداود هذا نشأ في سواد الموصل ثم انتقل إلى بغداد حيث تفقه في علوم اليهود في مدارسهم الكبرى. وقد اختار بلدة العمادية شمال العراق ليعلن نبوأته فيها، إذ كان ينوى الاستيلاء على قلعتها الشهيرة بالقوة فبلغ خبر ذلك صاحب العمادية فقتله"(4).
(1) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام - د. اسرائيل ولفنستون -ص 122
(2)
العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة - ص407
(3)
اليهودية - د. احمد شلبي - ص214
(4)
العرب واليهود في التاريخ - د. احمد سوسة ص407
اما في العصر الحديث فقد ظهرت النزعة المشيحانية بين الجماعات اليهودية مع تطور المجتمعات الغربية وظهور النظام المصرفي الحديث والدولة القومية المركزية، "حيث فقدت كثير من الجماعات اليهودية الوظيفية وظائفها كتجار ومرابين، وتزايد بؤس أفراد هذه الجماعات وفقرهم، وعدم استطاعتهم التكيف مع التطور الذي شهدته أوروبا في عصر النهضة. وبالتالي زادت هامشيتهم وزاد الاضطهاد الواقع عليهم، ومن ثم ففي أوقات البؤس والضيق كانت الجماهير اليهودية تتذكر دائما الرسول الذي سيبعثه إله الطبيعة والتاريخ ليصلح أحوالهم"(1).
وقد ظهرت آخر هذه الدعوات الميشيحانية في عام 1648م عندما ظهر شاب يهوى يدعى (سبتاى زيفى) من أزمير بتركيا لم يتجاوز عمره الثانية والعشرين، حيث أعلن أنه المسيح المنتظر. وما أن أعلن دعوته حتى تبعه عدد كبير من اليهود المتحمسين، واستمر في نشر دعوته في الأوساط الدينية اليهودية في العالم، فصار له أعوان كثيرون. "وفي سنة 1666م غادر أزمير مع جمهور من أعوانه متجها نحو اسطنبول لممارسة سلطته كملك، ولكن الباخرة التي كانت تقله مع أعوانه داهمتها عاصفة شديدة اضطرها إلى اللجوء إلى مضايق الدردنيل، ومن هناك سيق مكبلاً بالحديد إلى اسطنبول، فسجن، إلا أن سجنه زاد من الإقبال علي دعوته، فأمر السلطان محمد الرابع بنقله إلى سجن أدرنه، وأقنعه بالعدول عن دعوته بعد أن تحداه أن يمنع طلقات الرصاص من اختراق جسده، فما كان من (سبتاى زيفى) إلا أن ادعى الإسلام وغير اسمه إلى (محمد أفندي) "(2). وتعد حركة شبتاي تسفي "أهم الحركات المشيحانية التي هزت اليهودية الحاخامية من جذورها حتى لم تقم لها قائمة بعد ذلك، وهو ما مهد الطريق لظهور الحركة الصهيونية التي ترفض القيود الدينية وترفض الأوامر والنواهي وتعلي الذات القومية"(3).
هكذا كان حال اليهود طوال تاريخهم الطويل حائرين بين الدعوات الميشحانية وبين قيود حاخاماتهم التى تمنعهم من العوده إلى فلسطين بدون انتظار المسيح
(1) دفاع عن الإنسان ـ د. عبد الوهاب المسيري ـ عرض/ نشوة نشأت - الجزيرة نت
(2)
مقارنة الأديان ـ د. أحمد شلبي ص 223
(3)
دفاع عن الإنسان ـ د. عبد الوهاب المسيري ـ عرض/ نشوة نشأت - الجزيرة نت
المنتظر. ففي القرن الثالث عشر قام الحاخام اليعازر بن موشيه الزعيم الروحى للتجمع اليهودي في المانيا بتحذير اليهود الذين يهاجرون بكثافه إلى فلسطين من ان الله سيعاقبهم بالموت. وفي نفس الوقت تقريباً قام الحاخام عيزرا في اسبانيا بكتابة ان اليهودي الذي يهاجر إلى فلسطين انما يهجر الله الذي يوجد فقط في الشتات، حيث يعيش اغلب اليهود وليس في فلسطين. وفي منتصف القرن الثامن عشر كتب الحاخام الالماني الشهير يوناثان ايبشوتز "ان الهجرة المكثفة إلى فلسطين حتى مع موافقة كل دول العالم هي امر محظور قبل مجئ المسيح"(1). وبناء على هذه الصهيونية المسيائية المتدينة (إن جاز التعبير)، لا يوجد سبب على الأرض ـ مهما تكن أهميته ـ يستدعى العودة إلى صهيون، إلا أن يكون السبب هو الأمر الإلهي. فالعودة مرتبطة بسلطة الله التي لا تناقش. ولذلك فالصهاينة المتدينون يتهمون، كل من نادى بالعودة إلى فلسطين بدون انتظار عودة المسيح المنتظر، بالهرطقة، أي الكفر. ومن هنا تختلف هذه الصهيونية الدينية، عن الصهيونية السياسية التي قرر رجالها في مؤتمر بازل سنة 1897م العودة إلى الأرض المقدسة، ولم ينتظروا المعجزة الإلهية. "فالصهاينة المتدينون لا يرون في إي مؤتمر سياسي طريقاً للعودة، وهم، أكثر من ذلك ـ لا يرون حتى في عذاب الهولوكوست ومعسكرات النازية سببا للعودة. فالعودة إن لم تقترن بالإرادة الإلهية ـ بقدوم المسيح الجديد ـ هي عودة باطلة (2).
ولقد رأينا كيف أن اليهود أنفسهم أحجموا عن المشاركة في تأييد أو دعم دعوات المتدينين البروتستانت لهم من أجل العودة إلى أرض فلسطين، حيث كانت هذه المشكلة من أشد الصعاب التي واجهها الصهاينة غير اليهود (البروتستانت). ولكن مع بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، ولأسباب كثيرة أهمها، تنامي التيار المسيحي البروتستنتي الداعم لأماني اليهود بالعودة إلى فلسطين، بالإضافة إلى ازدياد اضطهاد اليهود في أوروبا، ظهر عدد من المفكرين اليهود الذين نشروا العديد
(1) الاصولية اليهودية في اسرائيل- تأليف اسرائيل شاحاك - نورتون متسفينسكي - ص 52 ترجمة ناصر عفيفي.
(2)
فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 327