الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول في الدليل الأول - من الأدلة - المختلف فيها
- الاستصحاب
-
تعريفه:
الاستصحاب لغة: استفعال من الصحبة، وهي الملازمة، وكل
شيء لازم شيئاً فقد استصحبه.
والاستصحاب اصطلاحاً هو: عبارة عن الحكم بثبوت أمر في
الزمان الثاني بناء على ثبوته في الزمان الأول؛ لفقدان ما يصلح
للتغيير.
أو تقول - بعبارة أخرى -: إنه استدامة إثبات ما كان ثابتا، أو
نفي ما كان منفياً حتى يقوم دليل على تغيير الحالة، أي: بقاء ما
كان على ما كان نفياً وإثباتاً حتى يثبت دليل يغير الحالة.
***
أنواعه:
الاستصحاب يتنوع إلى خمسة أنواع هي كما يلي:
النوع الأول: استصحاب البراءة الأصلية.
وهو: استصحاب العدم الأصلي المعلوم، وذلك كبراءة الذمة من
التكاليف حتى يقوم الدليل على التكليف بأمر من الأمور، فإذا لم
يقم دليل: بقى ما كان على ما كان، وهو أن كل شيء مباح
للإنسان؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة كما سبق أن ذكرناه في
"المباح "، ويسميه بعضهم:" عدم الدليل دليل على البراءة ".
ومن أمثلته من الشرع: أن لا ينتقض الوضوء بشيء يخرج من غير
السبيلين؛ لأن الأصل عدم النقض، فيستصحب هذا الأصل حتى
يثبت الدليل خلافه، ولم يثبت، فيبقى على الأصل من عدم - النقض.
مثال آخر: أن الوتر ليس بواجب، لأن طريق وجوبه الشرع،
وقد طلب الدليل فلم يوجد، فعدم وجود الدليل على الوجوب
دليل على عدم الوجوب، وأن الذمة بريئة منه، فهو إذن مندوب.
النوع الثاني: استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى
يثبت خلافه كالحل إن ثبت مرتبطاً بأمر ثابت، فإن ذلك يستمر حتى
يقوم دليل يُغيِّر ذلك كاستصحاب الطهارة إذا شك في الحدث، فإن
وصف الطهارة إذا ثبت وتأكدنا منها أبيحت الصلاة، فيستصحب هذا
الحكم حتى يثبت خلافه وهو الحدث.
ومثل: الكفالة، فإنه وصف شرعي يستمر ثابتا حتى يؤدي
الدين، أو يؤديه الأصيل، أو يبرئه المدين.
ومثل الحياة بالنسبة للمفقود، فإنها تستمر ثابتة حتى يقوم الدليل
على خلاف ذلك.
النوع الثالث: استصحاب ما دلَّ الشرع على ثبوته واستمراره.
مثل: انشغال الذمة بدفع قيمة الشيء المتلف وضمانه عند وجود
سببه - وهو الإتلاف - فإن هذه الذمة تكون مشغولة ويستمر ذلك
حتى يوجد ما يزيله، وهو: دفع قيمة المتلف، أو إسقاطه من قِبَل
المالك.
مثال آخر: إن ملك الإنسان لأرض - بسبب عقد الشراء - يستمر
حتى يوجد ما يزيله.
النوع الرابع: استصحاب حكم العموم والعمل به حتى يرد ما
يخصص ذلك العموم، واستصحاب العمل بالنص حتى يرد ما
ينسخه.
النوع الخامس: استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع.
وهو: أن يجمع العلماء على حكم في حالة ثم تتغير صفة
المجمع عليه، ويختلف المجمعون فيه، فيستدل من لم يغير الحكم
باستصحاب الحال.
مثاله: أنه انعقد الإجماع على صحة صلاة المتيمم الفاقد للماء،
فإذا وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه، وبذلك لا تصح
صلاته.
لكن إذا لم يجد الماء قبل الدخول في الصلاة، ثم تيمم، ودخل
في الصلاة، فهل تصح صلاته استصحابا للأصل وهو: فقد الماء
قبل الدخول في الصلاة، أم لا تصح الصلاة لتغير الحال الذي كان
من فقد الماء قبل الدخول في الصلاة إلى وجوده أثناء صلاته؟
لقد اختلف في هذا النوع على قولين:
القول الأول: أن هذا النوع من الاستصحاب ليس بحُجَّة.
وهو مذهب كثير من العلماء، منهم: الغزالي، والقاضي
الباقلاني، وأبو إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، وابن عقيل،
وأبو الخطاب وشيخهما أبو يعلى، وأبو الطيب الطبري، وغيرهم.
وهو الحق، لأن الإجماع كان قائما حالة فقد الماء على صحة
الصلاة بالتيمم، لكن بشرط ألا تتغير حالة فقدان الماء بحالة وجود
هذا الماء؛ لأن الحالة التي أجمعوا عليها تخالف الحالة الأخرى
وليست مثلها، فالحالة التي انعقد عليها الإجماع كانت حالة عدم
وجود، وهذه حالة وجود فاختلفا.
القول الثاني: أن هذا النوع من الاستصحاب حُجَّة.
وهو مذهب ابن حامد، وابن شاقلا، والمزني، والصيرفي،
وأبي ثور، وداود الظاهري، وابن سريج، وابن خيران، وأبي
الحسين القطان.
دليل هذا القول:
أن المتيمم إذا رأى الماء أثناء الصلاة، فإنه يمضي في الصلاة؛ لأن
الإجماع قد انعقد على صحة صلاته ودوامها بذلك التيمم، فطريان
وجود الماء كطريان هبوب ريح، فنحن نستصحب دوام الصلاة
المجمع عليه إلى أن يثبت دليل يزيلنا عن هذا المستصحب.
جوابه:
إن هذا مخالف لحقيقة الاستصحاب وهي: بقاء ما كان على ما
كان حتى يأتي دليل يغير الحالة.
فالمجمع عليه هو: صحة الصلاة بالتيمم إذا استمر عدم وجود
الماء من أول الصلاة إلى آخرها ولم يوجد مغير.
ولكن هنا قد وجد شيء مزيل لهذا وهو وجود الماء، وعلى هذا:
فلا يبقى ما كان على ما كان، بل تغير من العدم إلى الوجود.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي، فعلى المذهب الأول يجب قطع الصلاة،
وإعادتها بعد الوضوء بالماء الذي رآه.
أما على المذهب الثاني: فلا يجب قطع الصلاة، بل تجزئه وإن
وجد الماء.
***
حجية الاستصحاب:
لقد ثبت بعد الاستقراء والتتبع لكلام العلماء في كتب الأصول
والفقه أن النوع الرابع - وهو: استصحاب حكم العموم حتى يرد ما
يخصِّصه، واستصحاب النص حتى يرد ما ينسخه - متفق عليه.
أما النوع الخامس - وهو: استصحاب حكم الإجماع في محل
النزاع - فقد اختلف فيه وقد سبق.
أما ما عدا ذلك من أنواع الاستصحاب فقد اختلف فيه على
مذاهب:
المذهب الأول: أن الاستصحاب حُجَّة في ثبوت الأحكام وعدمها.
وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لدليلين:
الدليل الأول: أن استصحاب الحال يفيد ظن بقاء الحكم إلى
الزمن الثاني، وكل ما أفاد ظن الحكم وجب العمل به؛ لأن العمل
بالظن الغالب متعين، فالاستصحاب يجب العمل به.
الدليل الثاني: أن الإجماع منعقد على أنه لو شك في حصول
الزوجية ابتداء حرم عليه الاستمتاع، ولو شك في خصول الطلاق
مع سبق العقد جاز له الاستمتاع، وليس هناك من فرق بينهما، إلا
أنْ الأول قد استصحب فيه الحالةْ الموجودة قبل الشك - وهي عدم
الزوجية وحصول العقد -.
أما الثاني، فقد استصحب فيه الحالة الموجودة قبل الشك - أيضا -
وهي العقد عليها، فلو لم يعتبر الاستصحاب، وكان غير مفيد لظن
البقاء للزم استواء الحالين: التحريم والجواز، ولوجب أن يكون
الحكم فيهما واحداً، وهو: حرمة الوطء أو إباحته وهو باطل
بالإجماع.
الدليل الثالث: أن الحكم حين ثبت شرعا، فالظاهر دوامه لما
تعلق به من المصالح الدينية والدنيوية، ولا تتغير المصلحة في زمان
قريب، وإنما تحتمل التغيير عند تقادم العهد، فمتى طلب المجتهد
الدليل المزيل ولم يظفر به، فالظاهر عدمه، وهذا نوع اجتهاد،
وإذا كان البقاء ثابتاً بالاجتهاد، فلا يترك باجتهاد مثله بلا ترجيح.
المذهب الثاني: أنه ليس بحُجَّة مطلقاً، لا في ثبوت الأحكام ولا
عدمها.
وهو مذهب كثير من الحنفية، وبعض الشافعية، وبعض المعتزلة
كأبي الحسين البصري، وجماعة من المتكلمين، والمشهور من
الحنفية: أنه ليس بحُجَّة في الإثبات، وهو حُجَّة في النفي والعدم.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الأحكام الشرعية كالطهارة والحل لا تثبت إلا
بدليل منصوب من قبل الشارع، وأدلة الشرع هي: الكتاب،
والسُّنَّة، والإجماع، والقياس إجماعا، فما لا يكون منها لا يكون
دليلاً شرعياً، والاستصحاب ليس بواحد منها، فلا يكون دليلاً
شرعياً يحتج به.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الحكم الثابت بالاستصحاب: البقاء، والبقاء
لا يكون حكماً شرعيا، فلا يحتاج إلى دليل شرعي.
الجواب الثاني: لو سلمنا أن البقاء حكم شرعي، فالاستصحاب
دليل شرعي؛ لما بيناه من أنه يفيد الظن، وما يفيد الظن: يكون
دليلاً شرعيا.
الدليل الثاني: لا يوجد ظن في بقاء الشيء على ما كان مع جواز
القياس، فإنه يجوز أن يقع قياس بنفي حكم ما كان.
جوابه:
إنا نقول بأن الاستصحاب لا يستدل به ولا يفيد ظن الحكم عندنا
إلا بعد استقراء الأدلة المتفق عليها وهي: الكتاب، والسّنَّة،
والإجماع، والقياس، وعدم وجدان ما يعارض الأصل.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي؛ حيث أثر في كثير من الفروع
الفقهية، ومنها:
1 -
ما خرج من غير السبيلين هل ينقض الوضوء؟
اختلف على قولين:
القول الأول: إنه لا ينقض الوضوء، واستدل أكثر أصحاب هذا
القول بالاستصحاب، حيث قالوا: إن الأصل عدم النقض،
فيستصحب هذا الأصل حتى يثبت الدليل بخلافه.
القول الثاني: إنه ينقض الوضوء، ولم يستدل أصحاب هذا
القول بالاستصحاب، بل استدلوا بنصوص ثبتت عندهم،
ومنها: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم:
"الوضوء من كل دم سائل ".
والمسألة فيها تفصيلات أخرى ليس هذا مكانه.
2 -
المفقود هل يرث ويورث؟
اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: إن المفقود يرث غيره ولا يورث؛ لأن المفقود قبل
فقده كان حياً، فيجب استصحاب حياته حتى يظهر خلافها، والحي
يرث غيره، ولا يرثه غيره.
القول الثاني: إنه لا يرث ولا يورث؛ لأن كونه حيا قبل فقده لا
يلزم حياته بعد فقده، فلا يثبت الإرث بذلك، وكذلك لا يورث؛
لأن الأصل عدم الإرث، والعدم الأصلي لا يحتاج إلى الإرث.
3 -
هل تجب الدية في الشعور؟
اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: إنه لا تجب الدية في الشعر؛ لأن الأصل عدم
وجوب الدية إلا بتفويت النفس، فيستصحب هذا الأصل حتى يأتي
دليل بخلاف ذلك.
القول الثاني: إنه تجب الدية في الشعر؛ واستدل أصحاب هذا
القول بقياس الشعر على الأعضاء التي تجب في ذهابها الدية كالإذن
بجامع: أن كل منها. فيه تفويه ت منفعة.
***
مسألة: النافي للحكم هل يلزمه الدليل؟
إن هذا الموضوع له علاقة بدليل الاستصحاب؛ لأن بعض
المذاهب فيه قد استدل ببعض أنواع الاستصحاب، لذلك جعله
الأصوليون هنا.
ولكي نبين ذلك نقول:
لقد اتفق العلماء على أن المثبت للحكم يلزمه الدليل.
ولكن اختلفوا فيما إذا نفى بعض المجتهدين حكما من الأحكام،
فقال: هذا الحكم لا يثبت عندي فهل يطالب بدليل على هذا؛ على
مذاهب:
المذهب الأول: أنه يطالب بالدليل، ويلزم الدليل مطلقاً.
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو: الحق؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
وجه الدلالة: أن اليهود والنصارى لما نفوا وقالوا: لن يدخل
الجنة إلا نحن: أمر اللَّه - تعالى - بأن يطالبهم بالدليل على هذا
النفي، وهذا يفيد أن النافي يلزمه الدليل.
الدليل الثاني: أن نفي الحكم دعوى، والدعوى لا تثبت إلا
بدليل.
الدليل الثالث: أنه لو لم يلزم النافي الدليل للزم من ذلك: أن
لا يطالب أحد بأي دليل على دعواه، مما يؤدي إلى دعوى أحكام
بلا أدلة، بيان ذلك:
أن المثبت للحكم يمكنه أن يعبر عن المقصود الذي يريد إثباته بعبارة
نافية، فإذا أراد - مثلاً - إثبات أن فلانا قادر يقول - بدل ذلك -:
" فلان ليس بعاجز "، فيستطيع كل مدع للعلم، وأهل الأهواء أن
يدخلوا مع هذا الباب، فلا يذكروا أدلة على ما يقولون فتختل
الشريعة، وإذا كان هذا يؤدي إلى عدم الاستدلال للأحكام فهو
باطل " لأن ما أدى إلى الباطل فهو باطل، فثبت: أنه لا بد للنافي
للحكم من دليل سداً لذلك.
المذهب الثاني: أن النافي للحكم لا يلزمه الدليل مطلقا.
وهو مذهب داود الظاهري، وبعض العلقاء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم:
"البينة على من ادَّعى، واليمين على من أنكر ".
وجه الدلالة: أن الشارع جعل على المدعي البينة والدليل، ولم
يجعل على المدعى عليه بينة، والسبب في ذلك: أن المدعي مثبت
للحكم، والمدعي عليه ناف لذلك الحكم.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن المدعي عليه لا يطالب بالدليل،
بل قد طالبه الشارع بالدليل، وقد ورد ذلك بنص الحديث، فألزم
الشارع المنكر باليمين، واليمين دليل على نفيه، وإنما خص المدعي
عليه - وهو النافي - باليمين؛ لأن معه ظاهراً يدل على صدقه من
براءة الذمة إن كان المدعى عليه ديناً حتى يظهر ما يشغلها، ومن
ثبوت يده وتصرفه إن كان المدعى عليه عيناً.
واحتمال الكذب في هذه اليمين لا يمنع ولا يبطل كونها دليلاً
يستدل بها على نفي وإنكار هذه الدعوى؛ لأن الكذب يحتمل في
قول الشاهدين أيضا.
الجواب الثاني: سلمنا أن الشارع أسقط عن المنكر - وهو النافي -
الدليل، ولكن لم يسقطه عنه؛ لأن النافي لا يلزمه الدليل، وإنما
أسقطه عنه إن ادعى عليه عينا في يده بسبب وجود اليد على هذه
العين وتصرفه المطلق فيها، فاليد دليل الملك،
قال كثير من الفقهاء: " وإذا لم يكن للمدير بيِّنة، فالعين للمدعى عليه مع اليمين؛ لأن الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه ".
الدليل الثاني: أن الأصل هو النفي الأصلي، فالعدم والانتفاء
ثابت؛ لأنه الأصل، فكيف يكلف النافي للحكم بالإتيان بالدليل
على هذا النفي وهو متعذر، فلا يمكن إقامة الدليل على براءة الذمة
من التكاليف؛ لأنها هي الأصل.
جوابه:
لا نسلم تعذر إقامة الدليل على النفي، بل يمكن إقامة الدليل على
النفي في الشرعيات والعقليات، بيان ذلك:
أولاً: إن كان النزاع في الشرعيات فيمكن إقامة الدليل على نفي
الحكم الشرعي من إجماع العلماء مثل: نفي وجوب صوم شوال،
أو نفي وجوب صلاة الضحى، فهذا النفي دليله الإجماع.
أو نفي الحكم لدليل من النص كقوله صلى الله عليه وسلم:
" لا زكاة في الحلي "
فهذا النفي دليله السُّنَّة.
أو نفي الحكم لدليل من مفهوم النص كقوله صلى الله عليه وسلم:
"في سائمة الغنم الزكاة "، فإن مفهومه هو: نفي الزكاة عن الغنم المعلوفة.
أو نفي الحكم لدليل من القياس مثل: نفي وجوب الزكاة في
الخضروات؛ قياساً على الرمان والبطيخ.
وإن عدمت الأدلة على نفي الحكم، فإنا نبحث عن مدارك
الإثبات، فإذا لم نجد رجعنا إلى الاستصحاب للنفي الأصلي، وهو
دليل عند عدم ورود السمع كما سبق أن ذكرناه.
ثانياً: أما إن كان النزاع في العقليات فيمكن إقامة الدليل على
الحكم فيه فنقول في الاستدلال في ذلك: إن إثباتها يفضي إلى
المحال، وكل ما أفضى إلى المحال فهو محال.
ويمكن الدليل عليه بالقياس الشرطي، وهو طريق التلازم الذي
سبق ذكره في المقدمة المنطقية، حيث إن كل إثبات له لوازم، فانتفاء
اللازم يدل على انتفاء الملزوم مثل قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) ، فانتفاء الفساد دليل على انتفاء إله ثان.
المذهب الثالث: التفصيل.
وهو إن كان الحكم عقلياً فيلزم النافي له الدليل.
وإن كان الحكم شرعياً فلا يلزمه الدليل.
حكى هذا المذهب القاضي أبو بكر، وابن فورك.
جوابه:
إن هذا التفصيل لا دليل عليه.
ثم إنا بينا فيما سبق أنه يمكن إقامة الدليل على النفي في
الشرعيات، وفي العقليات بالأمثلة.
المذهب الرابع: التفصيل من وجه آخر، وهو:
أن النافي إن ادعى أن نفي الحكم ثابت عنده بالضرورة، فإنه لا
يطالب بالدليل؛ لأن عدالته توجب صدقه، والضروري شأنه أن لا
يكون محل شبهة، وإن ادعى أنه ثابت عنده بالعلم النظري، أو
بطريق الظن فإنه يطالب بالدليل، لأن النظري أو الظني قد يشتبه
فيه، فالدليل يبين هل هو مثبت للعدم أو غير مثبمسا له لنزول
الشبهة.
جوابه:
أن نفي الحكم إن كان ضروريا فإنه لا يطالب بالدليل؛ لأن
الضرورة دليل، وهذا متفق عليه، وإنما الخلاف فيما إذا نفى حكما
لم يستدلْ على نفيه بالضرورة، فأنتم متفقون معنا على أنه يلزمه
الدليل، فالخلاف لفظي.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف لفظي؛ حيث إن الفروع الفقهية لم تتأثر بهذا الخلاف.