الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس في الدليل السادس - من الأدلة المختلف فيها -
سد الذرائع
تعريفه:
الذرائع: جمع ذريعة، وهي لغة: كل ما يتخذ وسيلة وطريقاً
إلى شيء غيره، وسدها: منعها، وحسم مادتها.
وهي في الاصطلاح: كل وسيلة مباحة قصد التوصل بها إلى
المفسدة أو لم يقصد التوصل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالباً،
ومفسدتها أرجح من مصلحتها.
فسد الذرائع هو: حسم مادة وسائل الفساد بمنع هذه الوسائل
ودفعها.
أو تقول هي: التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة.
حجية سد الذرائع:
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن سد الذرائع حُجَّة يعمل به، ويستدل به على
إثبات بعض الأحكام الشرعية.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد حرم سب الأصنام التي يعبدها
المشركون - مع كون السب حمية لله، وإهانة لأصنامهم - لكون
ذلك السب ذريعة إلى أن يسبوا اللَّه - تعالى -، وكانت مصلحة ترك
مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لأصنامهم، فلذلك أمرنا بترك
يسب أصنامهم؛ لأنه يؤدي إلى سب اللَّه تعالى: وهذا هو سد
الذرائع.
الدليل الثاني: أنه أشير على صلى الله عليه وسلم بقتل من ظهر نفاقه فقال:
" أخاف أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه "، فلم يرغب
النبي صلى الله عليه وسلم في قتل المنافقين مع قيام الداعي لذلك، وذلك سداً للذرائع؛ حيث إنه سيقال: إن محمداً بدأ يقتل أصحابه، فيوجب ذلك النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، وممن لم يدخل فيه،
ومفسدة التنفير أعظم من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم
من مصلحة القتل.
الدليل الثالث: إجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ حيث إنه
ثبت في وقائع أنهم استدلوا بسد الذرائع، من ذلك: أن عمر بن
الخطاب نهى عن الصلاة تحت شجرة بيعة الرضوان، ثم قطعها سداً
للذرائع؛ حتى لا يعود الناس إلى أعمال الجاهلية.
وأن بعض الصحابة كعمر، وعليّ، وابن عباس أفتوا بقتل
الجماعة بالواحد، وإنما فعلوا ذلك لئلا يكون عدم القصاص منهم
ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء، كل ذلك فعلوه من غير نكير،
فكان إجماعا.
المذهب الثاني: أن سد الذرائع ليس بحُجَّة.
وهو لبعض الشافعية وبعض المتكلمين.
دليل هذا المذهب:
أن الأدلة قد حُصرت في حديث معاذ وهي: الكتاب، والسُنَّة،
والإجماع المبني عليهما، والاجتهاد، ولا يصح من الاجتهاد إلا
القياس الذي يتضمن المصلحة، وهو مقاس على ما ثبت بالأصول
الثلاثة: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، أما سد الذرائع فلم يكن
مع تلك الأدلة، إذن لا يحتج به.
جوابه:
إن الأخذ بسد الذرائع راجع إلى الأخذ بالمصلحة المرسلة - يؤيد
ذلك تعريفنا لسد الذرائع - والمصلحة المرسلة التي أخذنا بها هي
المصلحة الملائمة في الجملة لمقاصد الشارع - ولا تخرج عنها كما قلنا
في شروطها - هناك -، وإذا كان سد الذرائع لا تخرج عن مراعاة
المصلحة، والمصلحة حُجَّة، فإنه يجوز الأخذ بسد الذرائع.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي؛ حيث إنه انبنى على الخلاف في اعتبار
الذرائع والقول بسدها، وعدم اعتبارها، وعلى التوسع بالأخذ بها،
والتضييق في اعتبارها خلاف بين الفقهاء في كثير من الفروع الفقهية،
ومنها:
1 -
أن الإمام مالك قد استدل بسد الذرائع على أن الشخص لو
مات وعليه زكاة لم يؤدها ولم يوص بإخراجها من الثلث، فإنه لا
يلزم الورثة إخراجها عنه من تركته، لأنه لو ألزمنا الورثة بذلك
لأدى ذلك بأن يترك الإنسان أداء زكاة ماله طول عمره اعتماداً على أن
الورثة سيخرجونها بعد موته، وربما يتخذ ذلك ذريعة للإضرار بهم.
وخالف في ذلك الإمام أحمد والشافعي، حيث ذهبا إلى أنه يلزم
الورثة إخراجها وإن لم يوص المورث بذلك؛ قياسا على دَين
الآدميين؛ حيث إن الزكاة حق مالي واجب، فلا تسقط بموت من
هو عليه كالدَّين ولا فرق، ولم يأخذ بسد الذرائع؛ لأن القياس
أقوى منه.
2 -
أنه لو اشترك جماعة في الصيد، فإن الإمام مالك قال: إنه
يجب على كل واحد منهم جزاء كامل، واستدل بسد الذرائع،
حيث إنه إذا سقط جزاء جملة، ووجب جزاء واحد: كانت العقوبة
سهلة، واتخذ ذلك ذريعة إلى قتل المحرم من الصيد؛ إذ يلجأ كل
من أراد ذلك وهو محرم إلى الاشتراك مع غيره؛ لتخفيف الجزاء عن
نفسه.
أما الإمام الشافعي وأحمد فقد ذهبا إلى أنه يجب جزاء واحد على
الجميع مستدلين بقوله تعالى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ،
فأوجب اللَّه المثل، والجماعة قتلت صيداً واحداً، فيلزمهم مثله،
والزائد خارج عنه، فلا يجب، وهو - أيضا - مروي عن بعض
الصحابة، فهذا الاستدلال هو مفهوم الآية، وعمل بعض الصحابة
أقوى من الأخذ بسد الذرائع.
3 -
أنه لو تزوج المريض مرض الموت، فإن النكاح غير صحيح
عند الإمام مالك، واستدل بسد الذرائع، لأنه يتهم بقصد الإضرار
بالورثة بإدخال وارث جديد فيمنع منه، حتى لا يتخذ ذريعة للتشفي
من الورثة، وإدخال الضرر عليهم.
أما الإمام أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، فإنهم ذهبوا إلى أن
النكاح صحيح، إلا أنه يكون بمهر المثل فيما إذا أصدقها أكثر من مهر
المثل، واحتج هؤلاء بالقياس، حيث قاسوا النكاح على البيع
والشراء، فكما أن بيعه وشراءه صحيح، فكذلك نكاحه، وقوى
بعضهم ذلك بفعل بعض الصحابة، فهذا أقوى من سد الذرائع.