الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني أقسام الحقيقة
تنقسم الحقيقة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: حقيقة لغوية وضعية، وهي: الثابتة بالوضع.
أي: أن يضع الواضع لفظا لمعنى إذا أطلق ذلك اللفظ فهم ذلك
المعنى الموضوع له مثل لفظ " الأسد " يفهم منه الحيوان المفترس، فلا
ينقدح في الذهن - عند إطلاقه - إلا هذا المعنى، فيكون حقيقة،
وهذا هو المقصود بالحقيقة، وهي الأسبق إلى الذهن من الحقيقة
العرفية والشرعية.
***
القسم الثاني: حقيقة عرفية، والكلام عنها يكون فيما يلي:
أولاً: المقصود بالحقيقة العرفية هو: قول خص في العرف ببعض
مسمياته وإن كان وضعها للجميع حقيقة، مثل: لفظ " الدابة "،
فإن وضعها بأصل اللغة لكل ما يدب على الأرض من ذي حافر
وغيره، ثم هجر هذا المعنى، وصار في العرف حقيقة للفرس،
ولكل ذات حافر.
ثانيا: بيان كيف يصير الاسم عرفيا؟
يصير الاسم عرفيا باعتبارين هما:
الاعتبار الأول: أن يكون للاسم معنيان فيستعمله أهل اللغة لمعنى
واحد فقط دون الآخر، ويخصصونه به، ويعرف بينهم.
من أمثلة ذلك: المثال السابق وهو تخصيص " الدابة " في العرف
للفرس ولكل ذات حافر، مع أنه في اللغة يطلق على كل ما يدب
على الأرض.
مثال آخر: اسم " الفقيه " قد خصص عرفا بالعالم ببعض
الأحكام الفقهية الشرعية، مع أن كل من يفقه قول الآخر يسمى
فقيها بالوضع اللغوي، قال تعالى في ذلك:(فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا)
الاعتبار الثاني: أن يشيع استعمال الاسم في غير ما وضع له
أصلاً.
أي: في غير موضوعه اللغوي، ويكون بين الاستعمال اللغوي
والاستعمال العرفي مناسبة، فيشيع هذا الاستعمال بين الناس،
بحيث لا ينكره أحد.
من أمثلة ذلك: اسم " الغائط "، فإنه يطلق لغة على المطمئن
والمنخفض من الأرض، ثم استعمل عرفا في الخارج المستقذر من
الإنسان، وهذا الاستعمال وإن كان مجازاً، إلا أنه اشتهر وشاع
حتى صار هو المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق، ونسي الأول.
مثال آخر: اسم " الراوية " هو في أصل الوضع اللغوي يطلق
على الجمل الذي يسقى عليه الماء، ثم استعمل في وعاء الماء،
وتعارف الناس على هذا الاستعمال، وهذا الاستعمال وإن كان
مجازاً إلا أنه اشتهر وشاع حتى صار هو المتبادر إلى الفهم عند إطلاق
لفظ " الراوية "، ونسي المعنى الأول وهو الجمل الذي يسقى عليه
الماء.
ثالثا: أنواع الحقيقة العرفية:
الحقيقة العرفية نوعان:
النوع الأول: عرفية عامة، وهي التي لم تخصصها طائفة دون
أخرى.
وهي التي ذكرناها في الاعتبارين السابقين مع الأمثلة.
النوع الثاني: حقيقة عرفية خاصة وهي: ما خصته كل طائفة من
الأسماء بشيء من مصطلحاتهم مثل: اسم " النقض "، و " الكسر"
ونحو ذلك من قوادح القياس في اصطلاح الأصوليين، ونحو ذلك
مما اصطلح عليه أرباب كل فن.
***
القسم الثالث: حقيقة شرعية:
وهي: اللفظ المستعمل في الشريعة على غير ما كان عليه في وضع
اللغة كالصلاة مثلاً، فإنها في اللغة: الدعاء، فاستعمل هذا اللفظ
في الشريعة على الأقوال والأفعال المخصوصة، فصارت حقيقة فيها.
واختلف العلماء فيما استعمله الشارع من ألفاظ أهل اللغة مثل:
لفظ " الصلاة "، و " الصوم "، و " الزكاة) ، و " الحج "، هل
خرج به عن وضعهم أو لا؟ على مذاهب، من أهمها مذهبان:
المذهب الأول: أن الشارع نقل لفظ " الصلاة "، و " الصوم "،
و" الزكاة "، و " الحج " عن مسمياتها ومعانيها اللغوية إلى معانٍ أخر
بينها وبين تلك المسميات - بحسب اللغة - مناسبة معتبرة واشتهرت
بعد أن كانت لغوية، فصارت حقائق شرعية.
هذا مذهب جمهور العلماء.
فالصلاة في اللغة: الدعاء، والزكاة: النماء، والصوم:
الإمساك، والحج: القصد، فنقل الشارع هذه الألفاظ من معانيها
اللغوية السابقة واستعملها في معان أخر، وأعرض فيها عن الموضوع
اللغوي، فوضع لفظ " الصلاة " على الأفعال والأقوال المخصوصة،
ووضع لفظ " الزكاة " على إخراج مقدار من المال وإعطائه إلى قوم
آخرين بشروط خاصة، وكذا يقال في الصوم والحج.
فالشارع نقل اللفظ من معناه اللغوي إلى معناه الشرعي، وليس
نقلاً مطلقا، بل مع وجود علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي،
فمثل ما تصرف أهل العرف في بعض الألفاظ بنقلها عن معناها
الموضوعة له أصلاً، فكذلك الألفاظ الشرعية خصصت لفظة
"الصلاة"، واستعملت في دعاء مخصوص.
وهذا هو الصحيح عندي، لدليلين:
الدليل الأول: الاستقراء والتتبع للألفاظ الشرعية التي استعملها
الشارع: فإن الشارع قد استعمل لفظ " الحج "، و " الصوم "،
و"الإيمان "، و " الزكاة "، و " الصلاة " في معان لها علاقة بمعناها
اللغوي - كما سبق بيانه - فهو ليس نقلاً كليا للفظ، بل يوجد
ارتباط بين المعنى اللغوي، والمعنى الشرعي.
الدليل الثاني: القياس على فعل أهل اللغة في الألفاظ العرفية
كلفظ الدابة، حيث خصصوه في ذوات الأربع مع أنه يطلق لغة على
كل ما يدب على الأرض، ولم ينكر أحد هذا التصرف، فكذلك
فعل المشرع في لفظ " الصوم "، و " الإيمان " ونحوهما، والجامع:
أن كلًّا من فعل أهل اللغة وفعل المشرع ليس فيه نقلاً كليا للفظ، بل
يوجد علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي والعرفي.
المذهب الثاني: أن الشارع نقل لفظ " الصلاة "، و " الصوم "،
و" الزكاة " عن معناها اللغوية إلى معان شرعية نقلاً كليا، أي:
بدون أي علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، فهي معان مبتكرة
ابتكرها المشرع، يجوز أن لا يلاحظ فيها المعنى اللغوي، وإذا حدث
أن وجدت علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي: فهو اتفاقي،
أي: بطريق الصدفة، وليس مقصوداً.
ذهب إلى ذلك المعتزلة والخوارج، وبعض الحنفية كالسرخسي،
والدبوسي، والبزدوي، وبعض الحنابلة كأبي الخطاب.
دليل هذا المذهب:
أن الشارع قد نقل تلك الأسماء الشرعية، وتصرف بنقلها إلى
معان غير معانيها اللغوية: فالصلاة لغة هي الدعاء، واستعمل
الشارع هذا اللفظ لمجموع الأفعال الشرعية كالركوع، والسجود،
والتسبيح، والتكبير، والنية، وغيرها، فاهل اللغة. لم يكونوا
يعرفون هذه الصلاة ولا شروطها ولا أركانها، ثم صار اسم الصلاة
اسما لمجموع هذه الأفعال.
وكذلك لفظ " الصوم " هو لغة: الإمساك بصورة عامة، أي:
سواء كان عن الأكل والشرب ليلاً أو نهاراً، أو عن الكلام، كما
في قوله تعالى: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ،
واستعمل الشارع هذا اللفظ لإمساك مخصوص.
وكذلك لفظ " الزكاة " هو لغة: النماء، ثم جعله الشارع اسما
لإخراج جزء من المال طهرة له.
وكذلك " الحج " هو لغة: القصد مطلقا، ثم جعله الشارع
واستعمله في قصد مخصوص في أماكن مخصوصة في أزمنة
مخصوصة.
فالشرع تصرف في جميع تلك الألفاظ ونقلها إلى معان غير
معانيها اللغوية، حتى إنه لا يعقل من إطلاق اسم " الصلاة "، أو
"الصوم "، أو " الزكاة "، أو " الحج " إلا الصلاة المخصوصة
شرعاً، والزكاة المخصوصة شرعا، والصوم المخصوص شرعا،
والحج المخصوص شرعا، فيكون المشرع - بذلك - قد نقلها إلى
استعمال جديد.
جوابه:
نسلم أن الشارع قد تصرف في تلك الألفاظ، ونقلها إلى
استعمال جديد، وهذا من باب التجوز، فتكون تلك الألفاظ
مجازات لغوية، والتجوز لا يكون إلا بعلاقة بين المعنى الأصلي
والمعنى الجديد، فالمشرع لما اختار لفظ " الصلاة " ليجعله دليلاً على
العبادة المعروفة إنما فعل ذلك لوجود علاقة بين معنى الصلاة لغة،
ومعناها شرعاً، لأن كلًّا منهما دعاء، فالصلاة في الشرع يوجد فيها
حقيقة الدعاء، بل إن كل الصلاة دعاء؛ حيث إن الدعاء مخ العبادة.
وكذلك لفظ " الصوم " إنما اختاره الشارع لوجود علاقة بين المعنى
اللغوي له والمعنى الشرعي؛ لأن كلًّا منهما إمساك، وكذلك الزكاة،
وكذلك الحج.
وهكذا كل لفظ قد نقله الشارع من معناه اللغوي إلى معناه
الشرعي نجد بين المعنيين نوعاً من الارتباط والعلاقة بينهما.
المذهب الثالث: أن الشارع لم ينقل تلك الألفاظ من اللغة إلى
الشرع، ولا يجوز ذلك، بل الاسم باق على ما كان عليه في
اللغة، لكن الشرع ضم إليه أفعالاً، واشترط له شروطا، فمثلاً:
الصلاة لغة: الدعاء، ولم ينقل الشارع ذلك اللفظ من معناه
اللغوي إلى الشرعي، ولكن ضم إليه أفعالاً وأقوالاً لا بد منها،
واشترط له شروطا لا تصح الصلاة إلا بها مثل: الركوع، والسجود،
والقيام، والجلوس، والذكر، وكذلك الصوم فهو لغة: الإمساك،
ثم زاده الشارع اشتراط النية، وهكذا.
وهذا مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني، وكثير من الأشاعرة،
وبعض الفقهاء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن اللَّه تعالى قد وصف القرآن بأنه عربي بقوله
تعالى: (إنا جعلناه قرآنا عربيا)، وقوله:(بلسان عربي مبين)
وظواهر هذه الآيات يوجب كون القرآن كله عربيا، مستعملاً فيما
استعملته العرب، وإلا كان خطابا لهم بغير لغتهم، وبذلك يبطل
دعوى تصرف المشرع بنقل أسماء على غير إطلاق اللغة.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن اشتمال القرآن على ألفاظ شرعية قليلة لا
يخرجه عن كونه عربيا، فالعبرة بالأعم الأغلب، ولذا لا يمتنع أن
يقال: إن هذه اللحية سوداء وإن كان فيها بعض الشعيرات البيضاء.
الجواب الثاني: أن استعمال الشرع لبعض هذه الألفاظ في غير ما
وضعته له العرب لا يخرج القرآن عن كونه خطابا بلسان العرب:
فالعرب قد استعملت بعض الألفاظ في غير ما وضعت له، مثل
استعمالهم لفظ " البحر " للعالم، ولم يقل أحد: إن هذا إخراج
للخطاب عن لغة العرب.
الدليل الثاني: أنه لو كانت بعض الأسماء اللغوية قد نقلت إلى
أحكام شرعية لوجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يوقف الأمَّة على نقل هذه الأسماء توقيفا تقوم به الحُجَّة على المكلَّفين ليقطع عذرهم، فيكون بطريق يفيد العلم الضروري أو النظري، وما دام أنه لم يثبت شيء من
ذلك، ولا أجمعت الأُمَّة عليه، ولا دلَّ العقل الجازم على ذلك،
فيبقى على النفي الأصلي، فلم ينقل شيء من الاستعمال اللغوي إلى
الاستعمال الشرعي.
جوابه:
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين بياناً تاما المعاني التي نقلت الألفاظ إليها، فبيق المقصود بالصلاة: بصلاته صلى الله عليه وسلم بأصحابه وقال: " صلوا كما رأيتموني أصلي "، وبين المقصود بالحج وقال:
" خذوا عني مناسككم "،
وبين تفاصيل ومقادير الزكاة وشروطها، وبين المراد بالإحسان، والإسلام، والإيمان بحديث جبريل عليه السلام
ونقل هذه الألفاظ وما تدل عليه الصحابة رضي الله عنهم.
بيان نوع هذا الخلاف:
الخلاف هنا معنوي له أثره في الفروع الفقهية؛ حيث إن الصلاة
والصوم والزكاة والحج إذا وجدت في كلام الشارع مجردة عن
القرينة، محتملة للمعنى اللغوي وللمعنى الشرعي، فعلى أيهما
يحمل؛ فبناء على المذهب الأول والثاني - وهو: أن تلك الأسماء منقولة
من اللغة إلى الشرع - فإن تلك الأسماء تحمل على الحقيقة الشرعية،
دون اللغوية، ويكون المعنى واضحا لا إجمال فيه، لأن العادة: أن
كل متكلم يُحمل لفظه على عرفه، فتلك الألفاظ - أعني: الصوم،
والصلاة، والزكاة، والحج - تحمل على المقصود والمراد الشرعي،
فنحمل لفظ " الصلاة " على الصلاة الشرعية، ولفظ " الزكاة " على
الزكاة الشرعية وهكذا، ولا يجوز العدول عن ذلك إلا بدليل وقرينة
وذلك لأن عرف الشارع جار على بيان الأحكام الشرعية، دون
الحقائق اللغوية.
أما على المذهب الثالث - وهو: أن تلك الأسماء باقية على
دلالتها اللغوية، ولكن زاد عليها الشارع بعض الشروط والقيود - فإن
تلك الأسماء تحمل على المعنى اللغوي، ولا يجوز العدول عنها إلى
الشرعية إلا بقرينة، وهذا قياس هذا المذهب، وهو مذهب القاضي
أبي بكر.
ولكن بعض العلماء نقل عنه أن هذه الألفاظ - أعني الصلاة
والزكاة ونحوها - مجملة، وهو مذهب بعض العلماء كالقاضي أبي
يعلى، وبعض الشافعية، وبناء على القول بالإجمال تأثرت بعض
المسائل، ومن ذلك:
1 -
قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) اختلف في
المراد به هل هو المعنى الشرعي، أو المعنى اللغوي؟
فذهب كثير من العلماء إلى أن المراد بالنكاح هنا هو: المعنى
الشرعي، وهو: العقد؛ لأن النكاح حقيقة شرعية، ولفظ المشرع
يجب أن يحمل على معناه الشرعي، ولذا فإنه لو زنى الأب بامرأة،
فإن ذلك لا يوجب حرمة المصاهرة.
وذهب آخرون إلى أن المراد بالنكاح هنا هو المعنى اللغوي، وهو:
الوطء، فيكون المعنى لا تطؤا ما وطأها الأب بزنى أو غيره، ولذا
فإن من زنى بها الأب فهي موطوءة له.
2 -
قوله صلى الله عليه وسلم:
"توضئوا مما مست النار "
اختلف في المراد به، هل هو الوضوء الشرعي، أو الوضوء اللغوي؟
فمنهم من قال: إنه يحمل على المعنى الشرعي؛ لأن حمل لفظ المشرع على عرفه أقوى، ومنهم من قال: يحمل على المعنى اللغوي، ومنهم من
قال: إنه مجمل لوجود الاحتمالين، فلا يحمل إلا بقرينة.
3 -
قوله صلى الله عليه وسلم:
"الطواف بالبيت صلاة "
اختلف في ذلك هل المراد به: أن الطواف كالصلاة حكما في الافتقار للطهارة، فيكون المراد بالصلاة: الصلاة الشرعية، أو أن الطواف يشتمل على الدعاء الذي هو صلاة لغة.