الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث عشر الأمر المطلق هل يقتضي فعل المأمور به
على الفور أو لا يقتضي ذلك
؟
إن اقترن بالأمر قرينة تدل على أن المأمور يفعل المأمور به لا على
الفور كأن يقول له: " اخرج في أي وقت شئت " فهو للتراخي
اتفاقاً.
وإن اقترن بالأمر قرينة تدل على أنه يفعل المأمور به على الفور كأن
يقول له: " اخرج الآن "، فهو للفور اتفاقا.
أما إذا لم يقترن بالأمر شيء يدل على الفور، ولا على غيره بأن
جاء الأمر مطلقا كان يقول له: " اسقني ماء لا أو " صم " أو " قم "
فهل يقتضي الفور أو لا؟
القائلون: إن الأمر المطلق يقتضي التكرار - وهو المذهب الثاني
من المطلب العاشر كما سبق بيانه - فإنهم يقولون: إن الأمر يقتضي
الفور؛ لأنه من ضرورياته؛ لأن تكرار فعل المأمور به يلزم أن يفعل
من أول ما صدرت لفظة الأمر إلى ما لا نهاية له على حسب قدرة
المكلَّف.
أما القائلون: إن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار - كما هو مذهب
كثير من العلماء وهو الذي رجحناه - فقد اختلفوا في الأمر المطلق
هل يقتضي الفور أو لا؛ على مذاهب:
المذهب الأول: أن الأمر المطلق يقتضي الفور، ولا يجوز تأخيره
إلا بقرينة.
وهو مذهب بعض الحنفية كالكرخي، والجصاص، وجمهور
المالكية، وبعض الشافعية كأبي بكر الصيرفي، والقاضي أبي حامد
المروزي، والدقاق، وأكثر الحنابلة، وهو ظاهر مذهب الإمام
أحمد، والإمام مالك، وهو الحق عندي؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) .
وجه الدلالة: أن في فعل الطاعة مغفرة، فتجب المسارعة إليها،
والمسارعة تقتضي إيقاع الفعل بعد صدور الأمر مباشرة.
اعتراض على ذلك:
قال قائل - معترضا -: المراد بالآية التوبة من الذنوب، وهذا لا
نزاع في أنه تجب المسارعة إله.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أن الآية خاصة بالتوبة، بل هي عامة
للتوبة وغيرها من الطاعات.
الجواب الثاني: سلمنا أن الآية خاصة بالتوبة من الذنوب، فإنها
عبادة قد وجبت على الفور بمطلق الأمر، فيقاس على ذلك بقية
العبادات.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) .
وجه الدلالة: أن الله تعالى قد مدح هؤلاء على المسارعة بفعل
الخيرات، فبناء على ذلك: يكون ترك المسارعة يذم عليه، وما يذم
على تركه هو الواجب.
الدليل الثالث: أن الأمر قد اقتضى الوجوب، فحمله على
وجوب الفعل عقيبه واجب؛ لأمرين:
أولهما: أنه إذا فعل المأمور به فور صدور صيغة الأمر يكون ممتثلاً
للأمر بيقين، دون شك.
ثانيفما: أنه بمجرد تأخير الفعل يكون معرضاً نفسه لخطر عدم
القيام به، ودرءاً لذلك واحتياطاً فإنه تجب المبادرة إليه.
الدليل الرابع: أن السيد إذا قال لعبده: " اسقني ماء "، فإن
سقاه على الفور استحق المدح بالاتفاق، وإن تأخر في امتثال الأمر،
ولم يسقه فور صدور صيغة الأمر، فإنه يحسن من السيد ذمه
وتوبيخه، فلما سأله عقلاء أهل اللغة عن سبب معاقبته لهذا العبد
قال لهم: إني أعاقبه؛ لأنه خالف أمري وعصاني؛ حيث إني أمرته
بأن يسقيني ماء، وتأخر في جلب الماء إلي، فهنا يُقبل منه هذا
العذر، ولا ينكر عليه، فهذا يدل على أن أهل اللغة قد اتفقوا على
أن الأمر المطلق يقتضي الفور.
اعتراض على ذلك:
قال قائل - معترضا -: نحن معكم أن الأمر هنا يقتضي الفور،
لكن ذلك دلَّ عليه قرينة وهي: أن السيد لا يستدعي ماء إلا وهو
عطشان فتأخره يضر به، فلذلك اقتضى التعجيل، وهذا ليس في
محل النزاع.
جوابه:
لا نسلم أن وجوب التعجيل ثبت عن طريق القرينة؛ لأن السيد
- لما سأله عقلاء اللغة عن سبب معاقبته - لم يعلل ذمه وتوبيخه
بالعطش، وإنما علله بأنه أمره بشيء فأخره عنه وعصاه بذلك، فدل
على أن لفظ الأمر يقتضي الفور.
الدليل الخامس: أن صدور صيغة " افعل " هو سبب للزوم الفعل
فيجب أن يقع الفعل عقيب صدوره، قياساً على عقد البيع والطلاق
والموت، بيان ذلك:
أن البائع إذا قال: " بعتك هذه الدار بكذا " ثم قال المشتري:
"قبلت "، فإن ملكية الدار تنتقل فوراً إلى المشتري دون تأخير.
كذلك الطلاق: فإن الزوج إذا قال: " فلانة طالق "، فإنه يقع
فوراً.
كذلك إذا مات إنسان فإن ميراثه ينتقل إلى الورثة مباشرة، وهكذا.
فهذه الأمثلة وغيرها: الحكم يقع - عقيبها؛ لأنه أقرب الأوقات
إليها، فكذلك الأمر يجب أن يقع الفعل في أقرب الأوقات إليه،
وذلك لأن كل لفظ اقتضى معنى يجب أن يقع ذلك عقيبه.
الدليل السادس: القياس على العزم، وبيان ذلك:
أن الأمر يتضمن: " الأمر بالفعل "، و " الأمر بالعزم عليه "،
و" الأمر باعتقاد وجوبه ".
والعزم، واعتقاد وجوب الفعل واجبان على الفور.
فيقاس عليهما: الفعل، بجامع أن الأمر صدر بهما جميعاً.
فيجب - على هذا - فعل المأمور به على الفور.
المذهب الثاني: أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، بل يجوز تأخير
فعله أي: أن الأمر المطلق يقتضي الامتثال من غير تخصيص بوقت.
وهو مذهب أكثر الحنفية، واختاره المغاربة من المالكية، وهو
مذهب أكثر الشافعية، ونسب إلى الإمام الشافعي، وهو رواية عن
الإمام أحمد.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قياس الزمان على الآلة، والمكان، والشخص،
بيان ذلك:
أن قولك: " اقتل " يلزم منه أمور ثلاثة: مكان يقتل فيه، وآلة
يقتل بها، وشخص يقتل، وقلنا ذلك؛ لأنه لا يمكن أن يفعل القتل
بدون مكان، وآلة، وشخص يقتل، ويجزئ أي مكان وآية آلة،
وأي شخص بدون تحديد، فيصير ممتثلاً بقتل أي شخص في أي
مكان، وفي أية آلة.
فكذلك الزمان لم تتعرض له صيغة الأمر، ولكنه. يلزم لامتثال
الأمر؛ لأنه لا يمكن أن يمتثل الأمر إلا بزمن معين، فيصير المأمور
ممتثلاً إذا قتل بأي زمن، بدون تحديد.
جوابه:
إن قياس الزمان على الآلة، والمكان، والشخص قياس فاسد؛
لأنه قياس مع الفارق، والفرق بينهما من وجهين:
الوجه الأول: أن عدم تعيين الزمان لإيقاع الفعل يؤدي إلى
تفويته، وإضاعته، بخلاف عدم تعيين المكان والآلة والشخص، فإنه
لا يؤدي إلى تفويته؛ لأنه قد يكون في الزمن الأول مصلحة، أو
درء مفسدة لا تكون في الزمن الثاني أو الثالث، فلو أخره لفات
ذلك، بخلاف المكان والآلة والشخص، فإن المصلحة لا تختلف
باختلاف الأمكنة، والآلات، والأشخاص الكفار.
الوجه الثاني: أن الزمان الأول أوْلى لفعل المأمور به فيه؛ بدليل
ما بيَّنا وذكرنا من الاحتياط، وتحقيق الإيجاب، والسلامة من
الخطر، والتيقن والقطع بأن المأمور قد خرج عن العهدة بخلاف
الأمكنة، فإنه لا مزية لأحدها على الآخر، وكذلك الأشخاص لا
مزية لأحدهم على الآخر، وكذا الآلات لا مزية لإحداها على
الأخرى.
الدليل الثاني: قياس الأمر على الخبر، بيان ذلك:
أنه إذا قال: " سأعطي زيداً درهماً "، فإنه إخبار عن إيقاع الفعل
في المستقبل، ويكون ممتثلاً إذا أعطى زيداً بأي وقت شاء بدون
تحديد، فكذلك الأمر فلو قال:" أعطني الكتاب "، فإنه طلب
الفعل في المستقبل بدون تعيين أي زمن له، ولهذا لما صد المشركون
المسلمين عام الحديبية قال عمر لأبي بكر رضي الله عنهما:
أليس قد وعدنا اللَّه تعالى بالدخول بقوله تعالى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) فكيف صدونا؛ فقال أبو بكر: " إن الله
تعالى وعدنا بذلك ولم يقل بأي وقت "، فهذا كله يقتضي أن الخبر
لا يقتضي الوقت الأول، فكذلك الأمر بجامع: أن الفعل فيهما
يكون في المستقبل.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن قياس الأمر على الخبر قياس فاسد؛ لأنه قياس
مع الفارق، والفرق بينهما من وجوه:
الوجه الأول: أن الخبر يحتمل الصدق والكذب، أما الأمر فلا
يحتمل ذلك؛ حيث إنه حث، ووجوب، واستدعاء.
الوجه الثاني: أن الخبر من الحكيم لا يوجد إلا بعد أن قد تيقن
الحكيم أنه يكون المخبر على ما أخبر فيه، فلا غرر عليه في التأخير.
أما الأمر، فإنه يلزم المأمور فعلاً لا يعلم أي وقت يوقعه، فكان
إيقاعه في أول الوقت أحوط؛ لأمرين:
أولهما: أن في التأخير خطر وغرر؛ لأنه ربما فاجأه الموت قبل
الفعل فيأثم.
ثانيهما: أن الآمر لو أراد التأخير لأخر الأمر بالفعل.
الوجه الئالث: أن مقصود الخبر أن يكون صدقا، وأي وقت أخبر
به وفعله تحقق المقصود، أما الأمر فالمقصود: الإيجاب، والإيجاب
لا يتم إلا بالإيجاد، والتأخير إلى غير غاية، يلحقه بالنوافل، وهذا
لا يجوز.
الجواب الثاني: أن جميع الصحابة ومنهم عمر - رضي اللَّه عن
الجميع - فهموا التعجيل، ولهذا امتنعوا من نحر الهدي، وإنما
حمله أبو بكر على التراخي بقرينة: ثبوت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وما يأتي به عن اللَّه، والتأخير والتراخي يجوز بقرينة، وهذا لا خلاف فيه، أما إذا تجرد عن القرائن فإنه يقتضي الفور.
الدليل الثالث: قياس الأمر على اليمين، بيان ذلك:
أنه لو قال: " واللهِ لأصومن "، فإنه يبر بيمينه إذا صام في أي
وقت شاء، فكذلك الأمر، فإذا قال:" افعل "، فإن المأمور يكون
ممتثلاً إذا فعل المأمور به في أي وقت فعله.
جوابه:
إن قياسكم الأمر على اليمين قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق،
ووجه الفرق
: أن اليمين خير فيها بين أن يفعل، أو لا يفعل ويكفر،
أما الأمر فإنه لم يخير المأمور بين الفعل وتركه.
الدليل الرابع: أن المأمور يسمى ممتثلاً إذا فعل المأمور به في أي
زمن، فتعيينكم الزمن الأول تحكم منكم لا دليل عليه.
جوابه:
إن قولنا: فعل المأمور به يجب أن يكون بعد صدور الأمر به
مباشرة لم يكن بلا أدلة، بل بادلة من النقل والعقل وإجماع أهل
اللغة واللسان كما سبق بيانه.
المذهب الثالث: التوقف في ذلك حتى يقوم دليل يرجح المراد هل
المقصود الفور، أو التأخير.
وهو اختيار بعض الشافعية.
دليل هذا المذهب:
أن الأمر ورد استعماله في الفور مثل: الأمر بالإيمان، وورد
استعماله في التراخي كالأمر بالحج، والأصل في الاستعمال
الحقيقة، فكان الأمر حقيقة في كل منهما على انفراد، فهو مشترك
لفظي بين الفور والتراخي، فلا يفيد واحداً بخصوصه إلا بقرينة،
فإن لم توجد القرينة على أحدهما بخصوصه توقف في فهم المراد منه
حتى تقوم القرينة.
جوابه:
إن قولكم: " الأصل في الاستعمال الحقيقة " إنما يصح إذا كان
اللفظ لا يتبادر منه عند الإطلاق معنى من معانيه، أما إذا كان اللفظ
يتبادر منه معنى بخصوصه، فلا يقال ذلك.
فلا يصح هذا القول فيما نحن فيه؛ لأن الأمر المطلق يتبادر منه
عند الإطلاق خصوص الفور، فكان اللفظ حقيقة فيما يتبادر منه،
مجازاً في غيره، والمجاز خير من الاشتراك اللفظي؛ وذلك لعدم
احتياجه إلى تعدد في الوضع والقرائن كما سبق.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذا معنوي؛ حيث تأثر بسبب هذا الخلاف كثير من
مسائل الفروع، ومنها:
1 -
هل قضاء ما فات من رمضان يجب على الفور أو لا؟
اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أن القضاء يجب على الفور، وإذا أخره بدون عذر
يأثم، ولا يجوز فعل النوافل من الصيام حتى يؤدي ما عليه من أيام
رمضان.
القول الثاني: أن القضاء لا يجب على الفور، بل يجوز تأخيره
بلا إثم، ويجوز فعل النوافل من الصيام وإن لم يقض ما عليه.
2 -
هل يجب الحج فور استطاعة المسلم، أو يجوز تأخيره؛
اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أن الحج واجب على الفور، فلا يجوز تأخيره،
فإن أخره لغير عذر فقد أثم؛ لقوله تعالى: (ولله على الناس حج
البيت) ، والأمر للفور.
القول الثاني: أن الحج يجوز تأخيره بغير عذر؛ لأن الأمر لا
يقتضي الفور.
3 -
إذا بلغ المال النصاب، وحال عليه الحول، فهل يجب
إخراج الزكاة على الفور أو لا؟ على قولين:
القول الأول: أن الإخراج يجب على الفور، وإن أخر ذلك فهو
آثم؛ لأن الأمر الوارد في قوله تعالى: (وآتوا الزكاة) للفور.
القول الثاني: أن الإخراج لا يجب على الفور، بل يجوز تأخيره
بدون إثم؛ لأن الأمر لا يقتضي الفور.