الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث في الدليل الثالث من الأدلة المختلف فيها قول الصحابي
تعريفه:
هو: ما نقل إلينا عن أحد أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من فتوى، أو قضاء أو رأي أو مذهب في حادثة لم يرد حكمها في نص، ولم
يحصل عليها إجماع.
حجيته:
أولاً: إذا قال الصحابي رأيا في مسألة مخالفا لرأي صحابي آخر،
فليس بحُجَّة إجماعا.
ثانيا: إذا قال الصحابي قولا، ثم ثبت أنه رجع عنه فليس بحُجَّة
إجماعاً.
ثالثا: إذا قال الصحابي قولاً ثم انتشر بين بقية الصحابة، ولم
ينكره أحد، فهذه حُجَّة لمن قال بأن الإجماع السكوتي حُجَّة، وقد
سبق.
رابعا: إذا قال الصحابي قولاً في مسألة اجتهادية ولم يتحقق فيه ما
سبق فقد اختلف العلماء هل هو حُجَّة أو لا؛ على مذاهب: من
أهمها ما يلي:
المذهب الأول: أن قول الصحابي حُجَّة مطلقا، أي: سواء وافق
القياس، أو لم يوافقه، وسواء كان الصحابي من الخلفاء الراشدين،
أو من غيرهم.
وهو مذهب أكثر الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وكثير من
الشافعية، وهو مذهب الإمام الشافعي في الجديد والقديم كما ثبت
عنه في كثير من فروعه.
وهو الحق عندي بشرط: أن يكون الصحابي المحتج بقوله وبفعله
هو: الصحابي الذي عرفته فيما سبق، وذكرته في كتابي " مخالفة
الصحابي للحديث "، وهو الذي لقي النبي صلى الله عليه وسلم، واختص به اختصاص المصحوب متبعا إياه مدة يثبت معها إطلاق:
" صاحب فلان " عليه عرفاً، بلا تحديد لمقدار تلك الصحبة مثل: الخلفاء
الأربعة، والعبادلة، وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاذ، وزيد، وأنس، وأبي هريرة، ونحوهم ممن جمع إلى الإيمان والتصديق ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم، فوعوا أقواله، وشهدوا أفعاله، وعملوا على التأسي والاقتداء به، أما غير ذلك الصحابي - وهو من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مرة أو مرتين، فلا يمكن أن يحتج بقوله؛ لعدم ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن يكون مثل هذا عالما يرجع إليه.
وقد اخترت هذا؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)
وجه الدلالة: أن هذا خطاب مع الصحابة بأن كل ما يأمرون به
معروف، والمعروف يجب القول به.
الدليل الثاني: أن قول الصحابي إن كان صادراً عن رأي واجتهاد،
فإنه يرجح على اجتهاد التابعي ومن بعده، فرأيه أقرب إلى إصابة
الحق وأبعد عن الخطأ، وذلك لأنه شاهد التنزيل، وحضر مع النبي
صلى الله عليه وسلم، وسمع كلامه مباشرة، وعرف طريقته في بيان الأحكام، ووقف من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومراده في كلامه على ما لم يقف عليه غيره مع اجتهاد وحرص على طلب الحِق، والقيام بما هو تثبيت لقوام الدين، مع فضل درجة ليست لغيرهم كما وردت الأخبار في ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم:
"خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ".
كل ما سبق له أثره في جعل الصحابة أعلم بتأويل النصوص،
وأعرف بمقاصد الشريعة، وبهذا ترجح رأي الصحابي على رأي
غيره، فقوله أوْلى بالاتباع من قول غيره.
الدليل الثالث: أن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه أحد
كان حُجَّة، فكذلك يكون قوله حُجَّة مع عدم الانتشار كقول النبي
صلى الله عليه وسلم ولا فرق.
المذهب الثاني: أن قول الصحابي ليس بحُجَّة مطلقا.
وهو مذهب كثير من الأشاعرة والمعتزلة، وبعض الحنفية كأبي
الحسن الكرخي، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو القول الجديد
- عن الإمام الشافعي، كما قال بعض الشافعية، ولكن الحق: أن
مذهب الإمام الشافعي هو المذهب الأول، وقد حققت ذلك في
كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ".
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الصحابي لم تثبت عصمته عن الخطأ والسهو
والغلط، فقد يجتهد في مسألة ويخطئ فيها، فإذا كان غير معصوم
عن الخطأ فيكون قوله متردداً بين الخطأ والصواب، ومحتملاً لهما،
فكيف نأخذ به وهو كذلك؟!
جوابه:
إن عدم عصمة الصحابي عن الخطأ والسهو والغلط لا يمنع من
اتباعه وتقليده، والاحتجاج بقوله، بدليل: أن المجتهد غير معصوم
عن الخطأ والسهو، ويلزم العوام تقليده.
الدليل الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا -
فيما بينهم - في مسائل كثيرة، ومنها: مسألة " الجد والإخوة"،
و" العول "، و " التحريم "، و " بيع أمهات الأولاد " وغيرها، وقد
أجمعوا على جواز مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة انجتهدين
للآخر، فلم ينكر بعضهم على بعض تلك المخالفة، وهذا يدل على
أن قول الصحابي ليس بحُجَّة؛ إذ لو كان حُجَّة للزم كل واحد منهم
اتباع الآخر.
جوابه:
إن هذا الدليل ليس في محل النزاع؛ حيث قلنا - هناك -: إن
قول الصحابي اذا كان مخالفا لراي صحابي آخر فليس بحُجَّة إجماعاً.
المذهب الثالث: أن الحُجَّة في قول أبي بكر، وعمر، وعثمان،
وعلي - رضي اللَّه عن الجميع -.
وهو مذهب بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسُنَتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي ".
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سُنَته وسُنَّة الخلفاء
الراشدين - أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - وهو أمر مطلق،
والأمر المطلق يقتضي الوجوب، فاتباع أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال الخلفاء الأربعة واجب، فيكون حُجَّة.
جوابه:
إن الأمر بسُنَّة الخلفاء الأربعة لا يدل على أن قول هؤلاء حُجَّة،
بل إن تخصيص هؤلاء بالذكر يحتمل احتمالين هما:
الاحتمال الأول: أنه أراد اتباع سيرتهم، وعدلهم، وسياستهم
للرعية، والصبر على الدعوة، وتحمل الأذى، وإذا كان الأمر
كذلك فإن جميع الصحابة يتميزون بذلك، فهم كغيرهم من الصحابة
في ذلك.
الاحتمال الثاني: يحتمل أنه أراد أن قولهم حُجَّة.
وإذا تطرق إلى الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال.
المذهب الرابع: أن قول أبي بكر حُجَّة، وقول عمر حُجَّة فقط
دون غيرهما.
وهو مذهب بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
قوله صلى الله عليه وسلم:
"اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ".
وجه الدلالة: كما سبق في الحديث السابق.
جوابه:
هو نفس الجواب عن دليل أصحاب المذهب الثالث.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي له ثمرة؛ حيث إن من قال: إن قول
الصحابي حُجَّة - وهو المذهب الأول - أضافوا هذا الدليل إلى
أدلتهم؛ فاستدلوا به على إثبات أحكام شرعية لبعض الحوادث فقالوا
- مثلاً -: تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون مستدلين بقول عمر
رضي الله عنه: " اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة "،
وبفعل عائشة رضي الله عنها حيث كانت تلي يتيماً اسمه عبد
الرحمن بن القاسم فتخرج عنه وعن أخيه زكاة مالهما.
وكذلك استدلوا بهذا الدليل - أعني قول الصحابي - على عدم
وجوب الزكاة في الحلي؛ حيث إن ابن عمر كان لا يخرج على حلي
بناته وجواريه الزكاة.
كذلك استدلوا به على أن سجود التلاوة سُنَّة؛ حيث إن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قرأ سجدة وهو على المنبر يوم الجمعة
فنزل وسجد وسجد الناس معه، ثم قرأها في الجمعة الأخرى
فاستعد الناس للسجود فقال: على رسلكم، إن اللَّه لم يكتبها علينا
إلا أن نشاء فلم يسجد.
كذلك استدلوا به على إثبات أحكام شرعية كثيرة.
أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن قول الصحابي
ليس بحُجَّة - فلم يجعلوا قول الصحابي أو مذهبه أو فعله من الأدلة
المعتبرة.
فلم يوجبوا الزكاة في مال الصبي والمجنون؛ لأنهم لم يأخذوا بما
ورد عن عمر، ولا بما ورد عن عائشة، وقالوا: إن الزكاة عبادة
يشترط فيها التكليف.
وأوجبوا الزكاة في الحلي، ولم يعملوا بما ورد عن ابن عمر،
واستدلوا بعموم قوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، وبغير ذلك من الأدلة.
وكذلك أوجبوا سجود التلاوة، ولم يعملوا بما ورد عن عمر،
واستدلوا بما روي عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: " السجدة على من سمعها وعلى من تلاها ".
وعلى ذلك فقس قول أصحاب المذهب الثالث والرابع.
***
مسألة: إذا اختلف صحابيان في مسألة على قولين، فهل
يجوز للمجتهد الأخذ بقول أحدهما بدون دليل؟
سبق أن علمنا أن الصحابي إذا قال قولاً في مسألة اجتهادية ولم
يخالف فيه قول صحابي آخر، ولم ينتشر في بقية الصحابة، فإن
هذا القول يكون حُجَّة، وهو المذهب الأول الذي رجحناه.
وعلى هذا يجوز العمل به بدون دليل يعضده.
لكن إذا قال صحابي قولاً في مسألة، وخالفه صحابي آخر في
نفس المسألة بقول آخر، فهل يجوز للمجتهد الأخذ بقول أحدهما
بدون دليل؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يجوز الأخذ بقول أحدهما بدون دليل، بل
لا بد من دليل، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين:
الدليل الأول: أن القولين لا يمكن أن يكونا خطأ، ولا يمكن أن
يكونا صوابا، بل إن أحدهما صواب والآخر خطأ، ولا يمكن معرفة
القول الصواب، والقول الخطأ إلا بدليل خارجي، إذن لا يمكن
الأخذ بأحد القولين بلا دليل، بل لا بد من الدليل.
الدليل الثاني: القياس على قول اللَّه تعالى، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم،
بيان ذلك:
أنه إذا تعارضت آيتان في نظر المجتهد، إحداهما تفيد الجواز،
والأخرى تفيد المنع، فإنه لا يمكن أن يرجح أحد الحكمين إلا بدليل
ومرجح خارجي، كذلك لو تعارض حديثان في نظر المجتهد، فلا
يمكن أن يرجح أحدهما ويعمل به إلا بمرجح آخر ودليل خارجي.
فإذا كان الأمر كذلك في الكتاب والسُّنَّة، فكذلك قول الصحابي
إذا تعارض مع قول صحابي آخر: فإذا تعارض قول صحابي مع
قول صحابي آخر في نظر المجتهد، فإنه لا يرجح أحدهما ويعمل به
إلا بدليل خارجي عنهما.
المذهب الثاني: أنه يجوز الأخذ بقول أحدهما بدون دليل بشرط:
أن يظهر هذا القول المأخوذ به، ولم ينكر منكر القائل به.
وهو اختيار بعض الحنفية.
أما بعض المتكلمين كأبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم، فقد قالوا:
إن كان هذان القولان قد حدثا للصحابة قبل وقوع الفرْقة بينهم،
واختلاف الديار بهم: جاز الأخذ بقول أحدهما من غير اجتهاد في
صحته، وإن كان قد حدث بعد وقوع الفرْقة بينهم لم يجز الأخذ إلا
أن يدل دليل على صحته غير قول الصحابي.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: الوقوع؛ حيث وقع أن امرأة غاب عنها زوجها،
ثم جاء وهي حامل، فرفعها إلى عمر، فأمر برجمها، فقال معاذ:
إن يكن لك عليها سبيل، فلا سبيل لك على ما في بطنها، فقال
عمر: احبسوها حتى تضع، فوضعت غلاما له ثنيتان، فلما رآه
أبوه قال: ابني، فبلغ ذلك عمر، فقال عمر: " عجزت النساء أن
يلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر ".
وجه الدلالة: أن عمر رجع إلى قول معاذ رضي الله عنهما
في هذه القضية بدون أن يستعلم رأي غيره، مع وجود بعض الصحابة
الذين هم من أهل الاجتهاد، فهذا يدل على جواز الأخذ بأحد قولي
الصحابة بدون دليل.
جوابه:
إن عمر رضي الله عنه قد أخذ بقول معاذ؛ لأنه ظهر له
رجحان قول معاذ واجتهاده - لما ذكر أن ما في البطن لا ذنب له حتى
تعاقبه، حيث إن العقوبة تخص المذنب فقط - فصار قول معاذ هو
الحق - وذلك بالدليل، لا أنه رجع إلى قول معاذ تقليداً بلا دليل،
فعمر قد اتبع الدليل المرجح، ولم يتبع قول معاذ المجرد.
الدليل الثاني: أن اختلاف الصحابة على قولين في مسألة معينة هو
إجماع ضمني بينهم على صحة القولين، وهذا يجوز الأخذ بكل
واحد منهما بلا دليل بالاتفاق.
جوابه:
إن اختلاف الصحابة على قولين لا يدل على ما ذكرتم، بل يدل
على أنهم سوَّغوا وأجازوأ الأخذ بالأرجح منهما، ولا يمكن أن يتبين
الراجح منهما إلا بالاجتهاد في القولين معا، ولا يمكن الاجتهاد إلا
بالأدلة.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي؛ حيث إنه إذا اختلف صحابيان في مسألة
معينة: أحدهما قال: يجوز فيها كذا، والآخر قال: لا يجوز،
ولم يوجد دليل يرجح أحدهما على الآخر، فبناء على المذهب
الأول فإنه لا يجوز الأخذ بالقولين معا ويتساقطا، ويجتهد في المسالة
وكأنها حادثة جديدة.
أما على المذهب الثاني: فإنه لا يجتهد في المسألة، بل يؤخذ
بأحد القولين ويستدل به على المسألة.