الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب التاسع إذا ورد الأمر بعد النهي ماذا يقتضي
؟
إذا وردت صيغة: " افعل " بعد الحظر - وهو النهي فماذا تقتضي؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنها تقتضي الإباحة.
وهو مذهب كثير من العلماء منهم: الإمام مالك، وأحمد،
والشافعي في ظاهر كلامه، وهو اختيار بعض الحنفية، وأكثر الحنابلة
وأكثر الفقهاء.
وهو الحق؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: الاستقراء والتتبع للأوامر الشرعية الواردة بعد
النهي، فإق بعد استقراء وتتبع الأوامر الواردة بعد النهي في النصوص
الشرعية لم نجد أمراً ورد بعد الحظر إلا والمراد به الإباحة، ومن ذلك
قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) ،
وقوله: (فإذا تطهرن فأتوهن)، وقوله:(وإذا حللتم فاصطادوا) ،
وقوله صلى الله عليه وسلم:
"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها "،
وقوله: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي أما الآن فكلوا وادخروا ".
ما اعترض به على هذا الدليل:
الاعتراض الأول: أن هذه المواضع قد حملت على الإباحة بدليل،
وهو الإجماع.
جوابه:
أنا لا نعلم دليلاً على حملها على الإباحة إلا ورودها بعد الحظر
فقط، أما الإجماع فهو حادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والإباحة مستفادة من هذه الألفاظ في وقته.
الاعتراض الثاني:
أنه ورد أمر بعد حظر، والمراد به الوجوب كقوله تعالى:
(فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين)
جوابه:
لا نسلم أن الوجوب مستفاد من هذه الآية، وإنما استفيد وجوب
قتل المشركين بآيات أخر كقوله تعالى: (فإن قاتلوكم فاقتلوهم) ،
وقوله: (فقاتل في سبيل الله) .
الدليل الثاني: العرف والعادة دلَّ على أن الأمر بعد الحظر للإباحة
فلو قال السيد لعبده: " لا أكل من هذا الطعام "، ثم قال له بعد
ذلك: " كل منه "، فإن هذا الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة؛ لأنه
لو لم يأكل لا يذم، ولو أكل لا يمدح، وهذا هو حد الإباحة.
المذهب الثاني: إذا وردت صيغة الأمر بعد النهي، فإنها تقتضي ما
كانت تقتضيه قبل وجود النهي من وجوب، أو ندب، أو إباحة،
أو يتوقف فيها على الخلاف السابق الذكر، أي: أن الأمر بعد النهي
في زلة الأمر المبتدأ، وهو مذهب أكثر المتكلمين، وأكثر الحنفية،
وأكثر المعتزلة، وأكثر المالكية، وبعض الشافعية كالبيضاوي.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول. أن أدلة إفادة الأمر المطلق للوجوب عامة وشاملة لما
تقدمه حظر ولغيره، ولم توجد قرينة تصرفه عن مقتضاه الحقيقي
عندنا وهو الوجوب، فأشبهت بذلك صيغة الأمر التي لم يتقدمها
نهي، فيكون تقدم النهي على الأمر لم تؤثر عليه.
جوابه:
نحن نقول: إن صيغة الأمر تقتضي الوجوب إذا كانت متجردة
عن القرائن.
أما إذا وجدت قرينة صارفة من حمله على الوجوب إلى غيره،
فهذا يختلف.
وهنا لا نُسَلِّمُ أن صيغة الأمر متجردة عن القرينة، بل تقدم النهي
على الأمر قرينة دالة على أن المتكلم لم يستعمل صيغة الأمر للوجوب
بل استعملها للإباحة -.
أي: أن تقدم النهي على الأمر يعتبر قرينة صرفت الأمر من
الوجوب إلى الإباحة.
اعتراض على ذلك:
قال بعضهم: إن النهي لا يفيد الإباحة بلفظه ولا بمعناه؛ لأن لفظ
النهي يقتضي المنع والتحريم، ومعناه لا يوجب ذلك؛ لأنه لا يمتنع
أن يكون الشيء محرما، ثم يجعل واجباً، فينسخ التحريم
بالإيجاب.
جوابه:
نحن لا نقول: إن لفظ النهي فقط أفاد الإباحة، وإنما حصلت
الإباحة به، وبما بعده من صيغة الأمر، كما لو استأذن العبد سيده
في فعل شيء، فقال له السيد:" افعل "، فإنا نحمله على الإباحة
بشيئين هما: " الاستئذان "، و " الأمر وهو قوله: افعل ".
الدليل الثاني: قياس الأمر على النهي في ذلك، بيانه:
كما أن النهي الوارد بعد الأمر يقتضي ما كان يقتضيه قبل الأمر
وهو: التحريم كذلك الأمر الوارد بعد النهي يقتضي ما كان يقتضيه
قبل النهي، وهو: الوجوب، ولا فرق.
جوابه: يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ الأصل المقاس عليه وهو قولكم: " إن
النهي الوارد بعد الأمر يقتضى ما كان يقتضيه قبل الأمر وهو:
التحريم "، بل إن النهي إذا ورد بعد الأمر فهو مقتض للكراهة
والتنزيه.
الجواب الثاني: سلمنا أن النهي إذا ورد بعد الأمر يقتضي التحريم
- كما قلتم -، فلا يجوز أن يقاس عليه الأمر الوارد بعد النهي،
وذلك لوجود الفرق بينهما.
ووجه الفرق: أن النهي آكد؛ لأنه يقتضي قبح المنهي عنه، وذلك
محرم، بخلاف الأمر، فإنه: استدعاء للفعل، وقد يستدعي
الشارع ما يوجبه، وما يستحبه، وقد يكون المراد به: الإذن بعد
المنع، وهو: الإباحة.
ويؤيد ذلك: أن النهي يقتضي التكرار، والفور، ولكنهم لا
يقولون ذلك في الأمر.
المذهب الثالث: الوقف وعدم الجزم بشيء مع الوجوب أو الإباحة.
وهو مذهب إمام الحرمين.
دليل هذا المذهب:
أن الأدلة متعارضة بعضها يثبت المذهب الأول، وبعضهم يثبت
المذهب الثاني، ولا مرجح لواحد منها على الآخر، فالقول برأي
معين تحكم وترجيح بلا مرجح، وهو باطل، فوجب الوقف.
جوابه:
أنه لا داعي لهذا التوقف مع قوة أدلتنا على أن الأمر بعد النهي
للإباحة وضعف أدلة أصحاب المذهب الثاني، فوجب القول بالإباحة.
بيان نوع هذا الخلاف:
الخلاف معنوي كما هو ظاهر، حيث إنه لد أثر في كثير من
الفروع الفقهية، ومنها:
1 -
حكم النظر إلى المخطوبة.
اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: إن النظر إليها مباح؛ لأنه أمر بعد نهي؛ حيث
نهي عن النظر إلى المرأة الأجنبية، ثم أمر بالنظر إليها في قوله صلى الله عليه وسلم:" اذهب فانظر إليها ".
القول الثاني: أن النظر إليها مندوب إليه؛ لأن الأمر وإن كان أمراً
بعد نهي لكنه معلل بعِلَّة تدل على أنه أريد بالأمر الندب، وهي:
قوله صلى الله عليه وسلم: " فإنه أجدر أن يؤدم بينكما ".
لعلك أيها القارئ تسأل وتقول: لمَ لم يحمل على الوجوب
أخذاً بالمذهب الثاني الأصولي.
والجواب: أن هناك قرينة صرفته عن ذلك، وهو قوله:
" فإنه أجدر أن يؤدم بينكما ".
2 -
حكم زيارة القبور.
اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أن زيارة القبور مباحة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
"كنتم نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها "، وهو أمر بعد نهي،
والأمر بعد النهي للإباحة.
القول الثاني: أن زيارة القبور مندوب إليها؛ لأن الأمر بزيارتها
وإن كان بعد نهي، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم علله بأنها يذكر الموت والآخرة "، وذلك أمر مطلوب شرعاً.