الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث هل للأمر صيغة موضوعة في اللغة
؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن للأمر صيغة موضوعة لغة له، وتدل عليه
حقيقة بدون قرينة كدلالة سائر الألفاظ الحقيقية على موضوعاتها
ومعانيها، وهي صيغة فعل الأمر:" افعل " مثل: " اكتب ".
والمضارع المجزوم بلام الأمر وهي: " ليفعل " كقوله تعالى:
(فليحذر الذي يخالفون عن أمره) .
واسم فعل الأمر مثل قوله تعالى: (عليكم أنفسكم) .
والمصدر النائب عن فعله كقوله تعالى: (فضرب الرقاب) .
وإنما تخصص صيغة " افعل " بالذكر؛ نظراً لكثرة دورانها في
الكلام.
وهذا المذهب هو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ للأدلة
التالية:
الدليل الأول: أن العرب قد وضعوا لما لا يحتاج إليه أسماء
كالأسد، والهر، والسيف، والخمر، فمن باب أوْلى أن يضعوا
صيغة للأمر تدلْ عليه؛ وذلك لأن الحاجة داعية إلى معرفة الأمر،
لكثرة مخاطبات الناس به، فلا يمكن أن يتخاطبوا بغير صيغة، فدل
هذا على أنهم وضعوا له صيغة وهو: " افعل ".
الدليل الثاني: أن السيد لو قال لعبده: " اسقنى ماء "، فلم
يسقه، فإنه يستحق - عند أهل اللغة - الذم والتوبيخ، فلو لم تكن
هذه الصيغة موضوعة للاستدعاء لما استحق ذلك.
الدليل الثالث: أنا نجد في العقل ضرورة أن من وجدت منه صيغة
" افعل " يسمى آمراً، أما إذا لم توجد منه هذه الصيغة، فإنه لا
يسمى آمراً، ولو كان الأمر أمراً لقيامه في النفس لسمي من لم يوجد
منه ذلك آمراً.
الدليل الرابع: أن أهل اللغة قد قسموا الكلام إلى أمر، ونهي،
وخبر، واستخبار، فعبروا عن الأمرب " افعل "، وعبروا عن
النهي بـ " لا تفعل "، وعبروا عن الخبر ب " زيد في الدار "،
وعبروا عن الاستخبار بقولهم: " هل جاء زيد؛ "، ولم يشترطوا
لذلك أية قرينة، فدل على أن " افعل " للأمر بمجردها بدون قرينة.
وهذا التقسيم قد اشتفاض بين أهل اللسان كاستفاضة سخاء حاتم،
وشجاعة عنترة.
الدليل الخامس: أنه يسبق إلى الفهم إذا أطلقت صيغة " افعل ":
أنها للأمر، ولا يسبق إلى الفهم إلا الحقيقة، أما غيره فلا يفهم إلا
بواسطة قرينة، فلو كانت صيغة " افعل " مشتركة بين الأمر وغيره:
لما سبق إلى فهمنا أن السيد إذا قال لعبده: " افعل " أن ذلك أمر،
فلما سبق ذلك إلى فهمنا دلَّ على أنه حقيقة في الأمر مجاز في غيره،
بخلاف الألفاظ المشتركة: فلو قال السيد لعبده: " اصبغ الثوب "،
أو قال: " ائت العين ": فلا يسبق إلى فهمنا لون دون لون،
ولا عين دون عين.
المذهب الثاني: أنه ليس للأمر صيغة في اللغة، وإنما صيغة "افعل "
مشتركة بين الأمر وغيره، ولا يحمل على أحدهما إلا بقرينة.
وهو مذهب أكثر الأشاعرة.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن هذه الصيغة - وهي: " افعل " - إما أن تثبت
أنها للأمر عن طريق العقل، أو النقل.
فإن زعمتم أنها ثبتت للأمر عن طريق العقل، فهذا باطل؛ لأن
العقل لا مدخل له في اللغات، وإن زعمتم أنها ثبتت للأمر عن
طريق النقل، فهذا باطل - أيضا -؛ لأن النقل قسمان:" متواتر "
و"آحاد".
فإن زعمتم أنها ثبتت للأمر عن طريق التواتر فهذا باطل؛ لأنه لو
ثبت ذلك عن هذا الطريق: لعلمناه بالضرورة كما علمتموه، ولكننا
لم نعلمه فثبت أنه لم تثبت أنها للأمر عن التواتر.
وإن زعمتم أنها ثبتت للأمر عن طريق الآحاد فهذا باطل؛ لأن
الآحاد لا تثبت به قاعدة أصولية كهذه القاعدة وهي: أن " افعل "
صيغة للأمر؛ حيث إن الآحاد لا يفيد إلا الظن، والقاعدة الأصولية
قطعية، والظني لا يثبت القطعي، إذن: لا أصل لإثبات هذه
الصيغة.
جوابه: يجاب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أن هذا الدليل يقتضي المطالبة بالدليل على أن
"افعل " صيغة للأمر، وهذا باطل؛ لأمرين:
الأمر الأول: أن المطالبة بالدليل ليس بدليل.
الأمر الثاني: على فرض أن المطالبة بالدليل دليل فإنا قد أقمنا أدلة
على أن هذه الصيغة للأمر، وذلك من إجماع عقلاء العرب وأهل
اللسان على ذم العبد إذا خالف هذه الصيغة، والذم على المخالفة
دليل على أنها تختص بالأمر، وأن أهل اللغة قد فرَّقوا بين الأمر
والنهي والخبر والاستخبار في أن كل واحد منها له صيغة تخصه،
وأن " افعل " للأمر - كما سبق - وغير ذلك من الأدلة، ولا يمكن
لكم أن تنكروا تلك الأدلة، ومن أنكرها فهو معاند.
الجواب الثاني: قولكم: " إن الظني لا يثبت القواعد الأصولية؛
لأنها قطعية " لا نسلمه، بل هذا فيه تفصيل:
فإن كانت القاعدة علمية، فلا تثبت بالظني.
وإن كانت القاعدة عملية أو وسيلة إلى العمل كهذه القاعدة، فإنها
تثبت بالظني؛ قياساً على الفروع.
الجواب الثالث: أنا نقلب هذا الدليل عليكم: فأنتم قلتم: إن
"افعل " مشتركة بين الأمر وغيره، فمن أين أثبتم ذلك: فإن قلتم:
ثبت ذلك عن طريق العقل فهذا باطل؛ لما سبق، وإن قلتم: ثبت
ذلك عن طريق النقل، فهذا باطل أيضاً؛ لما سبق، فأي جواب
لكم يكون هو جوابنا.
الدليل الثاني: أن هذه الصيغة - وهي: " افعل " - قد ترد
والمراد بها الأمر، وقد ترد والمراد بها الإباحة، وقد ترد والمراد بها
التعجيز، أو التهديد، وليس حملها على أحد هذه الوجوه بأوْلى
من حملها على الآخر، فوجب التوقف فيها حتى تأتي قرينة ترجح
أحد الوجوه؛ قياساً على " اللون ".
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنه إذا وردت صيغة " افعل "، وهي مجردة عن
القرائن فهي للاستدعاء، وهو: الأمر، ولا تحمل على غيره من
الإباحة والتهديد والتعجيز وغيرها إلا بقرينة واضحة جلية.
الجواب الثاني: أنكم قستم صيغة " افعل " على اللفظ المشترك
مثل " اللون "، وهذا القياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق؛ حيث
إن لفظ " اللون " لم يوضع لشيء معين، أما صيغة " افعل "، فإن
العرب قد وضعوها لشيء معين، وهو: الاستدعاء، فمثلاً: لو
أمر السيد عبده بأن يقوم بتلوين ثوبه، فقام العبد فلوَّنه بأيِّ لون شاء
فإنه لا يستحق الذم ولا التوبيخ؛ لأن " اللون " لفظ مشترك بين
جميع الألوان، لكن لو أمره وقال:" اسقني ماء "، ولم يسقه فإنه
يستحق الذم والتوبيخ، لأن " افعل " عند الإطلاق لا تحمل إلا على
معنى معين وهو: الاستدعاء.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي، حيث إن أصحاب المذهب الأول يحملون
صيغة " افعل " على أنها ظاهرة، وأن لها معنيان وهما: إفادتها
للأمر، وعدم إفادتها له، وأنه يرجح إفادتها للاستدعاء والأمر بدون
قرينة، ويعملون على ذلك.
أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم يحملون لفظ " افعل " على أنه
مجمل وأنه لا معنى له راجح: فالمعنيان السابقان لا يرجح أحدهما
على الآخر إلا بمرجح خارجي: فلا يجوز عندهم العمل بأن " افعل "
للأمر إلا بدليل خارجي يدل على أنه للأمر، وإلا: توقفوا.
بيان منشأ الخلاف في هذه المسألة:
إنا منشأ الخلاف في مسألة صيغة الأمر هو: خلافهم في مسألة
صفة لكلام، فمن ذهب إلى أن الكلام لفظي: قال: للأمر صيغة
وهي " افعل "، وهم أصحاب المذهب الأول، ومن ذهب إلى أن
الكلام نفسي قال: لا صيغة للأمر، ولا للنهي، ولا للعام، ولا
للخاص - وهم أصحاب المذهب الثاني - وهم الأشاعرة -.
فالأمر عند الأشاعرة: هو: اقتضاء الفعل بذلك المعنى القائم
بالنفس المجرد عن الصيغة.
والصحيح الذي لا يجوز غيره: أن كلام اللَّه هو الذي نقرؤه
بألفاظه ومعانيه، فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ دل
على ذلك أدلة كثيرة منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) ،
فصرح - هنا - بأن الذي يسمعه ذلك المشرك المستجير هو: كلام الله
بألفاظه ومعانيه.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) .
فهنا: لم يكن ذلك المعنى القائم بالنفس الذي عبر عنه بالإشارة كلاما.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) مع قوله:
(فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) ، حيث أمر اللَّه تعالى مريم بالامتناع عن الكلام،
ولكن لما سألوها أن تبين لهم ذلك أشارت إليه، فلم يكن ذلك
المعنى القائم بنفسها الذي عبرت عنه بالإشارة كلاما.
الدليل الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن اللَّه عفا لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل به "،
فبين - هنا - أن المسلم إذا حدث نفسه بشيء من الأمور السيئة كقتل فلان، أو سبه، فإنه معفو عنه
شرعاً، إذا لم يتكلم أو يفعل، فهنا لم يسم حديث النفس وما
يجول بالخاطر كلاماً.
الدليل الخامس: أن أهل اللغة واللسان قد أجمعوا على أن الكلام
ينقسم إلى " اسم "، و " فعل "، و " حرف "، وكل واحد من هذه
الأقسام تسمى كلمة، فالاسم: كلمة ينطق بها اللسان غير مقترنة
بزمان، وهي تفيد كزيد، والفعل: كلمة ينطق بها اللسان مقترنة
بزمان كقام، والحرف: كلمة ينطق بها اللسان لا تدل إلا مع غيرها
مثل: "إلى".
الدليل السادس: أن العقلاء - على اختلاف طبقاتهم - قد
تعارفوا على تسمية الذي ينطق بلسانه: أنه متكلم، وتعارفوا
- أيضاً - على تسمية من لم يتكلم: أنه ساكت، أو أخرس،
فقولكم - أيها الأشاعرة -: " إن الكلام معنى قائم بالنفس "
خالفتم ذلك، وسميتم الساكت أو الأخرس بأنه متكلم.
الدليل السابع: أن الفقهاء قد أجمعوا: أن المسلم لو حلف أن لا
يتكلم، ثم حدَّث نفسه بأشياء، ولم ينطق بلسانه فإنه لا يحنث،
ولو نطق بلسانه لحنث، ووجبت الكفارة.
الدليل الثامن: أن الكلام لو كان معنى قائما في النفس - كما
يقول الأشاعرة - للزم من ذلك التكرار الذي لا فائدة فيه في قوله
تعالى: (ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله) ، لأن - على
زعمكم - عبارة: " يقولون " تدل على ما في النفس، فيكون
قوله: (في أنفسهم) تكراراً لا فائدة فيه، وهذا باطل، لأنه لا
يوجد أي حرف في القرآن لا فائدة فيه، فإن قوله:(في أنفسهم)
دليل على أن ذلك القول في النفس وقيد بذلك، فلو لم يقيد بقوله:
(في أنفسهم) لانصرف إلى الكلام باللسان.
فبان من هذا: أن الأشاعرة لما قالوا: " إن الكلام معنى قائم في
النفس "، قد خالفوا ما جاء في الكتاب، والسُّنَّة، وإجماع أهل
اللسان واللغة، وإجماع العقلاء فيما تعاليفوا عليه، وإجماع
الفقهاء، ومن خالف ذلك فلا يعتد بقوله، والله أعلم.