الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني هل تشتراط إرادة الآمر المأمور به
أي: هل تشترط إرادة فعل المأمور به والامتثال أو لا؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا تشترط إرادة الآمر المأمور به.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لذلك قلنا: إن الأمر
هو: " استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء " مطلقا أي:
سواء أراد الآمر إرادة المأمور به وامتثاله أو لا.
والأدلة على عدم اشتراط إرادة الآمر المأمور به هي كما يلي:
الدليل الأول: أن اللَّه تعالى أمر إبراهيم بذبح ابنه، ولم يرده؛
لأنه لو أراده لوقع؛ لأن اللَّه تعالى فعال لما يريد.
الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الدليل والأجوبة عنها:
الاعتراض الأول: أنه لم تثبت صيغة الأمر، فمن أين ثبت أن
إبراهيم رأى في المنام صيغة الأمر؟
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن صيغة الأمر واضحة في النص، حيث قال
تعالى: (يا أبت افعل ما تؤمر) .
فإن قال قائل: إن الصيغة وهي: (افعل ما تؤمر) للمستقبل،
وهذا يعني أنه لم يؤمر حتى الآن، ولو أراد ذلك في الماضي لكان
يقول: " افعل ما أمرت ".
فإنا نقول: إن فعل المضارع أحياناً يأتي للماضي مثل قوله تعالى:
(إني أراني أعصر خمراً) أي: إني رأيت،، وهذا مثله، فالمراد:
ما أمرت به.
الجواب الثاني: أن إبراهيم لو لم يؤمر لم يجز أن يأخذ ابنه،
ويضجعه للذبح؛ لأن ذلك حرام، فثبت أنه أمر وحيا في المنام.
الاعتراض الثاني: أن إبراهيم لم يؤمر بالذبح الحقيقي، وإنما أمر
بمقدماته من الاضطجاع والأخذ بالمدية، وقد فعل ذلك ووقع ما أراده
الله تعالى.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن المأمور به الذبح، وحقيقة الذبح معروفة
وهي: قطع مكان مخصوص معه تبطل الحياة.
الجواب الثاني: أنه لو كان المأمور به: المقدمات - فقط -: لم
يكن في ذلك بلاء مبين، ولا يحتاج فيه إلى الصبر؛ حيث قال
تعالى: (إن هذا لهو البلاء المبين)، وقال:(ستجدني إن شاء الله من الصابرين) .
الاعتراض الثالث: أنا نسلم أنه أمر بالذبح، وقد فعل وذبح،
ولكن اللَّه يلحم ما يشقه إبراهيم ويعيده كما كان، فوقع ما أمر الله
-
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنه لو وقع الذبح، وكان يلتحم كما تقول: لما
احتاج إلى فداء؛ لأنه فعل المأمور به، ولا يجمع بين البدل والمبدل.
الجواب الثاني: أنه - لو كان كما تقول لذكره اللَّه تعالى؛ لأنه من
الآيات الباهرة.
الاعتراض الرابع: أنه أمره بالذبح، ولكنه نهاه عنه.
جوابه:
هذا لا يجوز على قواعدكم - أيها المعتزلة -؛ لأن الأمر بالشيء
يدل على حسن ذلك الشيء، ولا يجوز نهيه عن الحسن.
الدليل - الثاني: أنه يحسن أن يقول الرجل لعبده: " أمرتك بكذا
ولم أرده منك "، ولو كان من شرط الأمر الإرادة لما حسن ذلك كما
لا يحسن أن يقول الرجل لعبده: " أردت منك كذا ولم أرده "؛ لما
فيه من التناقض.
الدليل الثالث: أن العرب قد سموا من قال لعبده: " افعل كذا "
آمراً من قبل أن يعلموا إرادته، فلو كان من شرط الأمر الإرادة لم
يجز للعرب أن يسموه بذلك إلا بعد علمهم لإرادته
المذهب الثاني: أنه تشترط إرادة الأمر المأمور به.
وهو مذهب كثير من المعتزلة، لذلك عرفوا الأمر بأنه: إرادة
الفعل بالقول على وجه الاستعلاء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن صيغة الأمر ترد والمراد بها الأمر كقوله تعالى:
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) وترد والمراد بها الإباحة كقوله تعالى:
(وإذا حللتم فاصطادوا) وترد والمراد بها التهديد كقوله تعالى:
(اعملوا ما شئتم) وترد والمراد بها الهوان، كقوله تعالى:(اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) وترد والمراد بها غير ذلك من معاني " افعل "، ولا
نميز الأمر من غير الأمر - مما تستعمل له صيغة افعل - إلا بالإرادة،
فدل على أنها تشترط.
جوابه:
أنا لا نُسَلِّمُ أن الأمر يتميز عما ليس بأمر بالإرادة، وإنما الحق: أن
الأمر يتميز عما ليس بأمر بالاستدعاء فقط، فإذا استدعى الآمر
وطلب الفعل سمي آمراً، سواء أراد وقوعه أو لم يرده.
فأما بقية الصيغ - وهي الإباحة، والتهديد والهوان وغير ذلك -
فلا يوجد فيه استدعاء، وعليه: فلا يكون أمراً.
الدليل الثاني: القياس، وبيانه:
أن قول القائل: " افعل كذا " هو نفسه قول القائل: " أريد منك
كذا "، ولا فرق بينهما عند العرب.
جوابه: لا نُسَلِّمُ ذلك، بل بين العبارتين فرق من وجهين:
الوجه الأول: إن قوله: " أريد " إخبار عن إرادته، وليس
باستدعاء، ولهذا يدخله التصديق والتكذيب.
أما قوله: " افعل كذا " استدعاء، ولهذا لا يدخله التصديق
والتكذيب.
الوجه الثانى: أن السيد لو قال لعبده: " أريد منك كذا ولست
أريده " لأنكر ذلك، لكونه تناقضا وقبحاً، ولكنه لو قال لعبده:
"افعل كذا ولست أريده " لا ينكر هذا.
الدليل الثالث: قياس الأمر على النهي، بيان ذلك:
أن النهي إنما يكون نهياً لعلمنا أن الناهي يكرهه، فكذلك الأمر
إنما يكون أمراً لأن الآمر يريد المأمور به.
جوابه:
لا نسلم ما قلتموه في النهي؛ لأن النهي إنما كان نهياً للزجر عن
الفعل بالقول على وجه الاستعلاء، فكذلك الأمر إنما كان أمراً
لاستدعاء الفعل على وجه الاستعلاء.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي؛ لأن مآل كلام أصحاب المذهبين واحد؛
حيث حصل الاتفاق على المعنى، فأصحاب المذهب الأول نظروا
إلى السامع الذي يحمل كلام المتكلم على مراده، فيقول: مراد
المتكلم بصيغة الأمر: معناها الحقيقي، وهو طلب الفعل؛ نظراً
لعدم وجود صارف لهذا الأمر إلى غيره، ولو كان مراد المتكلم غيره
لنصب قرينة تدل على ذلك، فكان إرادة غيره احتمالاً عقليا.
وهذا هو معنى قول أصحاب المذهب الثاني فإنهم يقرون بأن
التهديد ليس معنى حقيقيا، بل هو احتمال عقلي لا يراد إلا عند
إقامة دليل أو قرينة تدل على إرادته، فكان الخلاف لفظيا.