الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث في مبدأ اللغات أي: هل اللغات توقيفية أو اصطلاحية
؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه يجوز أن تكون اللغات كلها توقيفية، ويجوز
أن تكون كلها اصطلاحية، ويجوز أن يكون بعض هذه اللغات
توقيفي، وبعضها اصطلاحي، فإن جميع ذلك محتمل وممكن.
ذهب إلى ذلك القاضيان: أبو بكر الباقلاني، وأبو يعلى، وكثير
من أهل التحقيق.
وهو الحق عندي؛ لأن الاستدلال على كونها توقيفية، أو
اصطلاحية، أو احتمال الأمرين يكون إما عن طريق العقل، أو عن
طريق الواقع.
أما العقل، فإنه يجوز الأمور الثلاثة؛ حيث إن العقل متصور
لجميع هذه الأمور، فهي ممكنة وليست ممتنعة، " بحيث لو فرض
وقوعه فإنه لا يلزم عنه محال لذاته، بيان ذلك:
أن العقل يجوز كونها توقيفية؛ لأن اللَّه قادر على أن يخلق للناس
العلم بهذه الأسماء والألفاظ، ويسمعها بعضهم أو جميعهم،
ويخبرهم بأن هذه الأسماء قصدت للدلالة على مسمياتها ومعانيها.
والعقل - أيضا - يجوز كونها اصطلاحية، بأن واحداً قد انبعثت
داعيته، أو جماعة انبعثت دواعيهم إلى وضع هذه الألفاظ بإزاء
معانيها، ثم حصل تعريف الباقين بالإشارة والتكرار كما يفعل
الوالدان بالولد الرضيع.
والعقل - أيضا - يجوز كون بعضها توقيفي، وبعضها الآخر
اصطلاحي؛ لأنه إذا أمكن كل واحد من القسمين أمكن التركيب
منهما جميعاً.
أما الواقع عن هذه الأقسام فلا يمكن إلا ببرهان عقلي، أو نقل
وسمع قاطع، وهذا باطل؛ لأن العقل لا مجال له في اللغات
ليستدل عليها به، ولعدم وجبرد النقل والسمع القاطع.
فلم يبق إلا الظن، والظن داخل في جميع الأمور الثلاثة بالمساواة
- وهي كونها توقيفية، وكونها اصطلاحية، وبعضها توقيفي وبعضها
اصطلاحي - فلا يمكن ترجيح أحدها على الباقي؛ لانه ليس كل
واحد منها بأوْلى من الآخر، فلم يحصل الجزم بواحد منها.
المذهب الثاني: أن اللغات توقيفية، أي: أن الواضع هو الله عَز
وجَل، ووضعه متلقى من جهته إما بالوحي، أو بأن يخلق الله
تعالى لواحد، أو لجماعة من الخلق العلم بأن هذه الألفاظ واللغات
قصدت للدلالة على المعاني.
وهو مذهب أبي الحسن الأشعري، والظاهرية، وأبي بكر بن
فورك، وبعض المتكلمين، وبعض الفقهاء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) .
وجه الدلالة: أن اللغات لو لم تكن توفيفية لكانت مصطلحة
ولا ثالث لهما، وإذا كانت اصطلاحية تكون بوضع آدم عليه السلام
وإذا كان كلذلك لم يحتج إلى تعليم من عند الله، ولكن هذه الآية
دلَّت على أن آدم والملائكة لا يعلمون إلا بتعليم اللَّه تعالى، وأن الله
قد علمهم جميع الأسماء، ثم تناقلت ذرية آدم تلك الأسماء، فلم
يكونوا بحاجة إلى اصطلاح فقد أوقفوا عليها.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن هذا الدليل ليس صريحا بأن اللغات توقيفية؛
حيث إنه يتطرق إليه عدة احتمالات:
الاحتمال الأول: أن المراد بالتعليم هو الإلهام، فيكون اللَّه قد
ألهم آدم الحاجة إلى الوضع، فوضع آدم اللغات بتدبيره وفكره،
ونسب ذلك إلى تعليم اللَّه تعالى؛ لأنه الهادي والمرشد والملهم
ومحرك الداعية.
الاحتمال الثاني: أن المراد أنه علمه الأسماء الموجودة في زمان آدم
عليه السلام مثل: السماء، والأرض، والجنة، والنار دون
الأسامي التي حدثت مسمياتها بعد آدم من الحرف والصناعات
والآلات.
الجواب الثاني: أن المراد من الأسماء في الآية: سمات الأشياء
وخصائصها مثل: أن يقال: إنه تعالى علم آدم أن الخيل تصلح للكر
والفر، وأن الجمل للحمل، فإن الاسم مأخوذ من السمة على رأي
الكوفيين، أو مأخوذ من السمو على رأي البصريين وعلى التقديرين
فكل ما يعرف ماهيته، ويكشف عن حقيقته كان اسما، وأما
تخصيص لفظ الاسم بهذه الألفاظ فهو عرف حادث، وهو عرف
النحاة.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه قد ذمهم على تسميتهم بعض الأشياء ببعض
الأسماء من غير توقيف، فلو لم يكن ما جعل دالا على غيرها من
الأسماء توقيفا لما صح الذم.
جوابه:
أن الذم للاعتقاد، أي: الذم لإطلاقهم لفظ " الإله " على
الصنم مع اعتقاد تحقق مسمى الإلهية فيها، ولم يكن الذم لتسميتهم
بأسمائها.
الدليل الثالث: أنه لو كانت اللغات اصطلاحية لاحتاج في
تعليمها إلى اصطلاح آخر ويتسلسل، أي: أن الاصطلاح لا يتم ولا
يمكن إلا بواسطة خطابات يخاطب بعضهم بعضا بها، وهذا لا يمكن
إلا عن طريق لفظ يعلمه كل واحد من هؤلاء المجتمعين قبل الاجتماع
لوضع تلك الاصطلاحات، فلزم من ذلك التسلسل وهو ممتنع.
جوابه:
لا نسلم أن التعليم منحصر في الاصطلاح والتوقيف، بل التعليم
يكون بالترديد والقرائن كتعليم الأبوين الأطفال لغتهما بالترديد
والقرائن.
المذهب الثالث: أن اللغات اصطلاحية.
وهو مذهب أبي هاشم المعتزلي، وبعض المتكلمين.
دليل هذا المذهب:
إنه لا يمكن للمخاطب، أو أي أحد من الناس أن يفهم التوقيف
الوارد من اللَّه تعالى إلا إذا كان عارفا - من قبل - بلفظ صاحب
التوقيف باصطلاح سابق، فيكون الأصل الاصطلاح.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: هو نفس الجواب السابق عن الدليل الثالث من
أدلة أصحاب المذهب الثاني.
الجواب الثاني: أنه قد يخلق علم ضروري في عاقل بأنه تعالى
ألهم العاقل بأن واضعا وضع هذه الألفاظ بإزاء تلك المعاني.
بيان نوع الخلاف:
لقد اختلف في هذا الخلاف هل هو لفظي أو معنوي؛ على قولين:
القول الأول: أن الخلاف لفظي لا ثمرة له.
وهو ما ذهب إليه الغزالي، والأبياري، وابن السبكي تاج
الدين، وابن أبي شريف، وغيرهم.
وهو الصحيح عندي؛ إذ لا يترتب، على هذا الخلاف معرفة عمل
من أعمال الشريعة، وذكرت هذه المسألة في كتب الأصول لأحد
أمرين:
أولهما: تكميل العلم بهذه الصناعة؛ لأن معظم النظر فيها يتعلق
بدلالة الصيغ، أو جواز قلب ما لا تعلق له بالشرع فيها كتسمية
الفرس ثوراً، والثور فرسا، ونحو ذلك.
-
ثانيهما: أنها تجري مجرى الرياضيات التي يرتاض العلماء بالنظر
فيها كمسائل الجبَر، فتكون من رياضيات أصول الفقه، بخلاف
مسألة: الأمر للوجوب، أو النهي يقتضي الفساد فهي من ضروراته.
القول الثاني: أن الخلاف فيها معنوي له ثمرة وفائدة.
ذهب إلى ذلك الماوردي وبعض العلماء.
ولكن اختلف أصحاب هذا القول في نوع هذه الفائدة على آراء،
إليك ذكرها مع الجواب عنها:
الرأي الأول: أن فائدة الخلاف في هذه المسألة أن من قال
بالتوقيف جعل التكليف مقارنا لكمال العقل، ومن قال بالاصطلاح
أخر التكليف عن العقل مدة الاصطلاح على وضع الألفاظ لمعانيها.
جوابه:
إن هذا وإن تصوِّر عقلاً إلا أنه لا وقوع له في الفروع، إذ أن
الفريقين متفقان في النهاية.
الرأي الثاني: أن فائدة البحث في هذه المسألة: النظر في جواز
قلب اللغة، فالقائلون بالتوقيف يمنعونه مطلقا، والقائلون
بالاصطلاح يجوزونه إلا أن يمنع الشرع منه، ومتى لم يمنع كان
للشيء اسمان، أحدهما متوقف عليه، والآخر متواضع عليه.
جوابه:
إن هذا لا تعلُّق له بالشرع.
الرأي الثالث: أن فائدة الخلاف في هذه السألة: أنه يجوز
التعلق باللغة لإثبات حكم الشرع من غير رجوع إلى الشرع، وهو
ما ذهب إليه أكثر الحنفية وبنو عليه: أن حكم الرهن: الحبس؛ لأن
اللفظ ينبئ عنه، أما عند أكثر العلماء، فإنه لا يجوز التعلق باللغة
لإثبات الحكم الشرعي، وهو الصحيح عندي؛ لأن الواضعين في
الأصل كانوا جهالاً وضعوا عبارات لمعبرات، لا لمناسبات، ثم
استعملت وصارت لغة.
جوابه:
إن هذا لا يمكن تصوره؛ لأن الأحكام الشرعية لا تؤخذ إلا من
الشرع فقط، أما اللغة فلا تفيد شيئاً قبل مجيء الشرع.
الرأي الرابع: أن فائدة الخلاف في هذه المسألة أنه يتخرج عليها
الخلاف في جريان القياس في اللغات المشتقة الصادرة عن معان
معقولة، فمن قال: إن اللغات توقيفية منع جريان القياس في
اللغات؛ لأنه إذا كان الأصل لا يعلم إلا بتوقيف، فكذا ما في معناه.
جوابه:
لا نسلم أن البحث في مسألة " هل يجري القياس في اللغة "
متوقف، على مسألتنا هذه؛ لأنه يمكن أن يقال: إن الخمر إنما سميت
خمراً لمخامرتها العقول بأي طريق، سواء كان توقيفيا أم اصطلاحيا،
فوجدنا الاسم دار مع المخامرة وجوداً وعدما، ثم وجدنا النبيذ
كذلك هل يسمى خمراً أو لا؟
الرأي الخامس: أن فائدة الخلاف في هذه المسألة: أنه يتخرج
عليه مسائل في الفقه، ومنها:
1 -
المسألة المعروفة بمهر السر والعلانية، وهي: ما إذا تزوج
الرجل امرأة بألف، وكانا قد اصطلحا على تسمية الألف بالألفين،
فهل الواجب ألف وهو ما يقتضيه الاصطلاح اللغوي، أو ألفان؛
نظراً إلى ما يقتضيه الوضع الحادث؛ فيه خلاف، هذا الخلاف مبني
على الخلاف في مسألتنا هذه.
2 -
إذا تبايعا بالدنانير، وسميا ذلك بالدراهم هل يجوز؛ فيه
خلاف، وهو مبني على الخلاف في هذه المسألة.
جوابه:
الحق: أنه لا يتخرج شيء من ذلك على هذه القاعدة كما قال ابن
السبكي، والسبب: أن مسألتنا التي نحن بصددها في أن اللغات
هذه الواقعة بين أظهرنا هل هي بالاصطلاح أو التوقيف بصورة عامة،
لا في شخص خاص اصطلح مع صاحبه على تغيير الشيء عن
موضعه كتغيير الألف بالألفين، والدنانير بالدراهم.
وهذه الفروع التي ذكرها أصحاب هذا الرأي - وهو الرأي
الخامس - تتخرج على قاعدة أخرى وهي: " الاصطلاح الخاص هل
يرفع الاصطلاح العام أو لا؟ "
فيه خلاف، فالتبس على هؤلاء الأمر.