الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس فيما تقتضيه صيغة الأمر - وهي: " افعل " - حقيقة
إذا تجردت عن القرائن
بعد أن عرفنا أن صيغة: " افعل " تستعمل في المعاني الثلاثين
السابقة، اختلف العلماء في هذه الصيغة إذا تجردت عن القرائن ماذا
تقتضي حقيقة؛ على مذاهب:
المذهب الأول: أن صيغة الأمر - وهي افعل - إذا تجردت عن
القرائن، فإنها تقتضي الوجوب حقيقة، واستعمالها فيما عداه من
المعاني كالندب والإباحة والتهديد يكون مجازاً لا يحمل على أي
واحد منها إلا بقرينة، وهو قول كثير من العلماء، وهو الحق،
للأدلة التالية:
الدليل الأول: قوله تعالى: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) ،
هذا في سورة الأعراف، وقال تعالى في سورة الحجر:
(فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى لما أمر الما، ئكة بالسجود سارعوا إلى
ذلك وامتنع إبليس عن السجود فوبخه وذمه، وأهبطه من الجنَة؛ إذ
قوله تعالى: (ما منعك) استفهام إنكاري قصد به الذم والتوبيخ،
ولا يمكن أن يكون المقصود به الاستفهام الحقيقي؛ لأن الاستفهام
الحقيقي يصدر من الجاهل، وهذا منتف بحق الله تعالى، فالله عالم
بالسبب الذي من أجله ترك السجود لآدم، فالله لا تخفى عليه خافية.
فدل ذلك على أن مقتضى الأمر الوجوب؛ إذ لو لم يكن السجود
واجباً عليه لما استحق الذم والتوبيخ على تركه؛ لأنه لا يذم أحد إلا
بسبب تركه لواجب، حيث إنا قلنا: إن الواجب هو: ما ذم تاركه
مطلقا، فالصيغة - وهي: افعل - تقتضي الوجوب عند التجرد.
ما اعترض به على هذا الاستدلال:
الاعتراض الأول: أنه يُحتمل أن يكون قد اقترن بتلك الصيغة قرينة
تفيد الوجوب، فلذلك ذمَّه على ترك ذلك الواجب، وهذا لا
يدخل في محل النزاع؛ لأن العلماء اتفقوا على أن الصيغة تفيد
الوجوب إذا انضم إليها قرائن.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن ما قلتموه مجرد احتمال لا دليل عليه،
والاحتمال الذي لا دليل عليه لا يلتفت إليه؛ إذ لو قبلنا كل
احتمال - من غير أدلة - لما بقى لنا دليل في الشريعة، وهذا يؤدي
إلى ترك الشريعة كلها، وهذا ظاهر البطلان، فإما أن تذكروا القرينة
التي تزعمونها حتى نختبرها، وأما أن تقبلوا ما قلناه.
الجواب الثاني: أن الظاهر من النص في الآيتين يقتضي أن التوبيخ
والذم قد تعلقا بمجرد مخالفة الأمر بالسجود بدون قرينة بدليل قوله:
(إذ أمرتك)، ولم يذكر قرينة أخرى بعد قوله:. (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) ، فهذا كله يدل على أنه
أمر مطلق لا قرينة معه، فدل ذلك كله على أن الذم والتوبيخ قد
تعلقا بمجرد المخالفة.
الاعتراض الثاني: أن إبليس ليس من الملائكة، فلا يدخل تحت
الأمر بالسجود، فيدل هذا على أن توبيخه لمعنى آخر.
جوابه.:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب - الأول: أن ظاهبر نص الآيتين يدل دلالة واضحة على أن
إبليس من الملائكة، وأنهم قد سجدوا لآدم، ولم يسجد إبليس
معهم فوبخه على ترك السجود، فقال في الآية الأولى:
(إلا إبليس لم يكن من الساجدين)، وقال في الآية الثانية:
(إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين)، والأصل: أن يكون المستثنى
من جنس المستثنى منه، ولا يترك هذا الأصل إلا بدليل، ولا دليل.
فدل ذلك على أن الذم تعلق بتركه السجود.
الجواب الثاني: أن ابن عباس رضي الله عنهما وهو حبر
الأُمَّة وترجمان القرآن قد روي عنه أنه قال: كان إبليس من أشراف
الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنا على الجنان، وكان له سلطان
السماء الدنيا وسلطان الأرض ".
الدليل الثاني: قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه حذر الذين يخالفون الأمر بالفتنة والعذاب
الأليم، وهذا يدل على أن الأمر المطلق للوجوب؛ لأن الوجوب
هو: ما ذُمَّ على تركه مطلقا، أو هو: ما توعد بالعقاب على تركه
مطلقا، والمخالف هنا قد توعد بالعقاب؛ لأنه خالف أمر اللَّه وأمر
رسوله وترك امتثاله، فيكون الأمر المطلق يقتضي الوجوب، فلو كان
الأمر المطلق لا يقتضي الوجوب - بأن يقتضي الندب أو الإباحة أو
التوقف - لما حذر الشارع من مخالفته.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد ذمَّهم على تركهم فعل ما قيل لهم
افعلوه، وهذا يدل على أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب، لأنه هو
الذي يذم على تركه، فلو كان الأمر يقتضي الندب لما ذمهم على
ترك المأمور به، كما لا يذم من رخص له في الترك.
الدليل الرابع: قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أنه إذا قضى أمراً لم يكن لأحد
أن يتخير فيه، وجعل عصيانه ضلالاً، وإذا كانت مخالفة الأمر
عصياناً وضلالاً، فإن ذلك يقتضي وجوب امتثال الأمر، لئلا
يعصي، فثبت أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب؛ لأنه لو لم يكن
للوجوب لما جعل مخالفته عصياناً وضلالاً.
الاعتراض على هذا الاستدلال:
قال المعترض فيه: إنما ورد هذا في القضاء، والقضاء هو:
الإلزام، والإلزام واجب، ولذلك جعل مخالفه عاصياً وضالاً، لا
أنه قد جعل مخالف الأمر الصريح عاصياً.
جوابه:
يجاب على ذلك بأجوبة:
الجواب الأول: أنه أراد صريح الأمر: فجعل مخالفة الأمر
الصريح عصياناً وضلالاً بدليل سبب نزول الآية، حيث ذكر أن سبب
نزولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر قوماً أن يزوجوا زيد بن حارثة - مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - فأبوا فنزلت تلك الآية.
الجواب الثاني: لا نُسَلِّمُ أن القضاء بمعنى الإلزام؛ لأنه لو كان
القضاء بمعنى الإلزام لما قيل: إن اللَّه تعالى قد قضى بالطاعات
- كلها -؛ لأن النوافل طاعات، ولكنه لم يلزمها.
الجواب الثالث: سلمنا أن القضاء بمعنى الإلزام، والقضاء دون
مرتبة الأمر؛ لأن القضاء لا صيغة له، والأمر له صيغة، فإذا كان
القضاء لازماً مع أنه دون مرتبة الأمر، فمن باب أولى أن يكون الأمر
لازماً.
الدليل الخامس: أن صلى الله عليه وسلم كان يصلي فمر به أبو سعيد بن المعلى فدعاه صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فلم يجبه أبو سعيد، فلما فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من صلاته قال له: ما منعك أن تجيب وقد سمعت اللَّه تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسولِ إذا دعاكم) .
وجه الدلالةِ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد لامَ أبا سعيد على تركه للإجابة بعد أمر اللَّه تعالى بها بدليل قوله له: (ما منعك) ، فدل على أن
الأمر للوجوب، ولو لم يكن الأمر للوجوب لما لامه على ذلك؛
لأن ما ليس بواجب لا يلام على تركه.
الاعتراض على ذلك:
قال المعترض: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلمه، ولكنه أراد أن يُبين له أنه لا تقبح الاستجابة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يخالف غيره في ذلك.
جوابه:
لا نسلم ذلك؛ لأن الظاهر من هذه القصة وقوله صلى الله عليه وسلم يقتضي لزوم الإجابة، وهو في معنى الإخبار عن نفي العذر، وهذا يدل
على أن الأمر للوجوب.
الدليل السادس: قوله صلى الله عليه وسلم: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ".
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المشقة من لوازم الأمر، وإنما تكون المشقة لازماً للأمر إذا كان للوجوب.
أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جعل المشقة من لوازم الأمر: نفي الأمر الذي فيه مشقة وهو: أمر الوجوب؛ لأنه يعاقب ويذم على تركه،
وأثبت الأمر الذي ليس فيه مشقة وهو: أمر الندب؛ لأنه لا يذم ولا
يعاقب على تركه.
الدليل السابع: أن بريرة قد أعتقتها عائشة رضي الله عنهما
فخيرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين مفارقة زوجها وعدم ذلك، فاختارت فراقه، وكان زوجها - وهو مغيث - يحبها، وكان يمشي خلفها في الأسواق وهو يبكي، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: ذهب إلى بريرة فقال لها: " لو راجعتيه فإنه أبو أولادك "،
فقالت: أتأمرني يا رسول اللَّه؟
فقال: " لا إنما أنا شافع "، فقالت: لا حاجة لي فيه.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم
نفى الأمر مع ثبوت شفاعته صلى الله عليه وسلم
الدالة على الندب، فدل على أن أمره للوجوب؛ لأنه لو أثبت
الأمر: لوجب عليها الامتثال والرجوع إلى زوجها.
الدليل الثامن: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن
الأمر يقتضي الوجوب؛ حيث إنهم كانوا يسمعون الأمر من الكتاب
والسُّنَّة، فيحملونه على الوجوب، ولهذا لم يرد عنهم أنهم سألوا
النبي صلى الله عليه وسلم عن المراد بهذا الأمر،
بل كانوا يحملون جميع الأوامر على الوجوب إلا إذا اقترن به قرينة تصرفه عن الوجوب، ولم ينكر بعضهم على بعض في ذلك، فكان إجماعا، وهذا ثبت في وقائع كثير:؛ ومنها:
الواقعة الأولى: أنه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا والثامنة بالتراب "
أجمع الصحابة على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات.
الواقعة الثانية: أنهم استدلوا على وجوب الصلاة عند ذكرها
بالأمر المطلق الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم:
"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ".
الواقعة الثالثة: أن أبا بكر رضي الله عنه استدل على وجوب
الزكاة على المرتدين بقوله تعالى: (وآتوا الزكاة) ،
وقال: "والزكاة من حقها " يقصد:. إن الزكاة من حق كلمة لا إله إلا اللَّه، ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعاً.
الواقعة الخامسة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استدل
على وجوب أخذ الجزية من المجوس بقوله صلى الله عليه وسلم:
"سنوا بهم سُنَّة أهل الكتاب "، ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعا منهم.
اعتراض على ذلك:
قال قائل - معترضاً -: يُحتمل أن يكون الصحابة رجعوا في كل
واقعة من تلك الوقائع إلى قرينة دلَّت على الوجوب، فكان
الوجوب مستفاد من القرينة، لا من مطلق الصيغة، وهذا لا خلاف
جوابه:
يجاب عن ذلك بأجوبة:
الجواب الأول: أن ما ذكر هنا مجرد احتمال لا دليل عليه،
والاحتمال الذي لا دليل عليه لا يُعتد به؛ لأنا لو قبلنا كل احتمال
بدون أدلة لما استقام لنا دليل في الشريعة، وبهذا تبطل الشريعة
كلها، وهذا ظافر البطلان.
الجواب الثاني: أن الظاهر من هذه الوقائع: أن الصحابة قد
احتجوا بنفس صيغة الأمر الواردة في تلك النصوص على الوجوب،
ولم يرجعوا إلى أي قرينة من القرائن، والظاهر يجب العمل به.
الجواب الثالث: أنه لو كان هناك قرينة اعتمد عليها الصحابة في
حمل الأمر على الوجوب: لما ترك - الصحابة - رضي الله - عنهم -
نقلها؛ لأن نقل القرينة أوْلى من نقل لفظ الأمر؛ حيث إن في تركها
تضييع للشريعة، ولا يمكن أن ينقل الصحابة الآلاف من الأحاديث،
ويتركوا بعض القرائن، فما قيل في الاعتراض اتهام للصحابة
بالتقصير، وهذا لا يجوز؛ لأن الصحابة اختارهم اللَّه لصحبة نبيه،
وذلك لنقل هذه الشريعة - كلها - إلى من بعدهم بكل أمانة وإتقان.
الجواب الرابع: أنه لم ينقل عن صحابي واحد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل عن مقتضى الأمر في حال من الأحوال،
وهذا يدل على أنهم كانوا يفهمون من الأمر الوجوب، دون قرائن.
الدليل التاسع: أن لفظة " افعل " تمنع من الإخلال بالفعل بدليل
أن أهل اللغة يعقبون المعصية على الأمر بلفظ " الفاء " فيقولون:
"أمرتك فعصيتني "، و " قلت لك افعل فعصيتني "، وقال تعالى:
(أفعصيت أمري)، وقال:(لا يعصون اللَّه ما أمرهم) ،
وقال الشاعر الحصيني بن المنذر الرقاشي -
لما نصح يزيد بن المهلب بأن لا يذهب إلى الحجاج بن يوسف،
ولكنه خالف نصيحته، وذهب إلى
الحجاج فعز له - قال:
أمرتك أمراً جازماً فعصيتني
…
فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فهنا جاءت المعصية عقب الأمر غير الممتثل بلفظ " الفاء - التي
هي للتعقيب - كما سبق في حروف المعاني - والمعصية توجب
العقوبة؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) ،
فدل هذا على أن المعصية إنما لزمت المأمور؛ لأجل إخلاله
بما أمر به، وهذا يقتضي أن لفظة الأمر - وهي افعل - المجردة عن
القرائن تفيد الوجوب، ولو لم تكن مفيدة للوجوب لم نكن
بمخالفة ذلك الأمر عاصين.
الدليل العاشر: أن السيد لو أمر عبده قائلاً: " اسقني ماء "،
فإن امتثل العبد بأن سقاه ماء، فإنه يستحق المدح، وإن لم يمتثل
- بأن لم يسقه ماء - فإنه يستحق الذم والعقوبة، فرأى العقلاء من
أهل اللغة هذا السيد وهو يعاقب عبده، وسالوه عن سبب ذلك فقال
لهم: إني أمرته بأن يسقيني ولم يفعل، فإن هؤلاء يتفقون معه على
حسن لومه وعقابه؛، نظراً لمخالفته الأمر، فدل ذلك على أنه ما
استحق الذم والعقوبة إلا لأنه ترك واجباً؛ لأن الواجب هو الذي
يذم على تركه مطلقا، فلو كان الأمر المطلقَ لا يقتضي الوجوب: لما
استحق العبد المخالف للأمر الذم والعقوبة؛ لأنه لا يعاقب إلا على
ترك واجب.
الدليل الحادي عشر: إن قول القائل: " افعل " لا يخلو من أربعة
أمور فقط هي كما يلي:
1 -
أن يقتضي المنع من الفعل.
2 -
أن يقتضي التوقف.
3 -
أن يقتضي التخيير بين القعل وعدمه.
4 -
أن يقتضي أن يفعل لا محالة - وهو الوجوب -.
أما الأول - وهو اقتضاؤه المنع من الفعل - فهو باطل؛ لأنه يكون
معنى " افعل ": لا تفعل، وهذا نقيض فائدة اللفظ.
أما الثاني - وهو: التوقف - فهو باطل؛ لأن قوله: " افعل "
حث على الفعل فهو نقيض التوقف وهو: عدم الفعل.
أما الثالث - وهو التخيير - فهو باطل؛ لأنه ليس للتخيير ذكر
في اللفظ، وإنما اللفط يتعلق بالفعل دون تركه.
فلما بطل الثلاثة الأول: بقي الرابع وهو: أن " افعل " يقتضي
أن يفعل لا محالة - وهو الوجوب -.
المذهب الثاني: أن صيغة الأمر - وهي " افعل " - إذا تجردت عن
القرائن تقتضي الندب حقيقة، واستعمالها فيما عداه من المعاني
كالوجوب والإباحة والتهديد وغيرها يكون عن طريق المجاز، لا
يحمل على أي معنى منها إلا بقرينة.
وهو مذهب بعض الشافعية، وكثير من المعتزلة، منهم أبو هاشم،
واختاره بعض الفقهاء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن قوله: " افعل "، وقوله:" أمرتكم " يشترك
الوجوب والندب فيه بشيء واحد، وهو: طلب الفعل واقتضاؤه،
وأن فعل المأمور به خير من تركه، وهذا القدر المشترك بينهما معلوم
مقطوع به، قدتيقنا منه.
أما لزوم العقاب بترك فعل المأمور به فغير مقطوع به، بل مشكوك
فيجب تنزيل الأمر على أقل ما يشترك فيه الوجوب والندب؛ لأنا
قطعنا فيه، وهو طلب الفعل من غير وعيد بالعقاب على الترك وهو:
الندب.
أما ما شككنا فيه، وهو: لزوم العقاب بترك المأمور به - وهو
الوجوب - فإنا نتوقف فيه حتى يرد دليل من خارج.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن ما ذكرتموه إنما يستقيم لو كان الواجب ندبا
وزيادة فتسقط الزيادة المشكوك فيها، ويبقى الأصل، وليس كذلك،
بل يدخل في حد الندب - كما سبق -: جواز تركه مطلقا،
وجواز ترك الفعل لا يوجد في الوجوب.
الجواب الثاني: أن هذا استدلال بالعقل على أنه يُحمل على
الندب، وهو معارض باستدلالنا على أنه يحمل على الوجوب؛
حيث إنا قد دللنا على ذلك بنصوص من الكتاب والسُّنَّة، وإجماع
الصحابة، وإجماع أهل اللغة والعرف.
وإذا تعارض الدليل النقلي مع الدليل العقلي، فإنه يُقدم الدليل
النقلي خاصة في مسألة لغوية كهذه المسألة.
الدليل الثاني: أنه لو كان لفظ: " افعل " تقتضي الوجوب لما
حسن أن يقول العبد لسيده والولد لوالده: " اعطني درهما "، فلما
كافي الجميع يتخاطبون بينهم بذلك دلَّ على أنه لا يقتضي الوجوب.
جوابه:
أنا قلنا بأن لفظ " افعل " يستعمل في غير الوجوب - كما سبق
بيانه - وهذا لا يكون إلا بقرينة، فإذا ورد هذا اللفظ - وهو:
"افعل " من العبد، أو الابن، فإن العرب تصرفه عن الوجوب إلى
محمله، وهذا غير ممتتع؛ لأنه قد ورد على غير وجهه، فيكون قد
صدر مجازاً، وهذا لا يخرج اللفظ عن حقيقته، ألا ترى أنهم
يقولون للسخي: يا جواد، فلا يخرج ذلك عن الحقيقة.
الدليل الثالث: أن السلطان قد يأمر بالقبيح والحسن، ويوصفان
بأنهما مأمور بهما على الحقيقة، فلو اقتضى الأمر الوجوب: لكان
إذا تناول القبيح جعله واجباً.
جوابه:
نحن نقول: إنه لو أمر بالقبيح: لكان واجباً هذا هو الأصل،
لكن منع من ذلك أصل آخر أقوى منه وهو: أن فوق هذا الآمر -
وهو السلطان - آمر آخر وهو الله عز وجل؛ حيث نهى عن ذلك -
القبيح، وامتثال أمره ألزم من امتثال أمر السلطان، فغلب نهيه على
أمر ذلك الأدون - وهو السلطان - فلذلك سقط لزوم أمر هذا.
الدليل الرابع: أنه ليس في الأمر لفظة الوجوب، فلم تقتضه.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنا نقول لكم مثل ما قلتم لنا، وهو: إنه ليس
في الأمر لفظة الاستحباب فلم تقتضه - أيضا -.
الجواب الثاني: أنه ليس كل ما ليس فيه لفظ معنى لا يقتضيه
كالندب والوعيد والتهديد ليس هو في لفظة " افعل "، ومع ذلك
هي مقتضية له بقرينة تدل عليه.
المذهب الثالث: أن صيغة الأمر " افعل " إذا تجردت عن القرائن
تقتضي الإباحة حقيقة، ولا يحمل على غيرها من الوجوب أو
الندب إلا بقرينة.
وهو مذهب بعض الشافعية كما حكاه عنهم الأستاذ أبو إسحاق
في " شرح الترتيب ".
دليل هذا المذهب: أن درجات الأمر بالفعل ثلاث:
فأعلاها: الثواب على الفعل، والعقاب على الترك، وهذا هو
الو جوب.
وأوسطها: الثواب على الفعل، وعدم العقاب على الترك،
وهذا هو الندب.
وأدناها: عدم الثواب وعدم العقاب على الفعل والترك، وهذا
هو الإباحة.
فالثالث يفهم منه: جواز الإقدام على الفعل، وهو قدر مشترك
بين المراتب الثلاث، وهو: الإباحة، فهي إذن: درجة متيقنة.
أما الدرجتان الأولى والثانية - وهما الوجوب والندب - فإنه
مشكوك فيهما، فنحن نحمل الأمر على ما تيقنا منه، وهو:
الإباحة، ونترك ما شككنا فيه إلى أن ترد قرينة من خارج، فيكون
الأمر المطلق يقتضي الإباحة.
جوابه:
إنكم جعلتم - هنا - الإباحة من درجات الأمر، وهذا ليس
بصحيح؛ لوجود الفرق بين الإباحة والأمر من وجوه هي كما يلي:
الوجه الأول: الفرق من جهة التعريف، فتعريف الأمر يختلف
عن تعريف المباح، فقد عرفنا الأمر بأنه:
" استدعاء الفعل بالقول
…
" - كما سبق - وعرفنا المباح بأنه:
" ما أذن اللَّه في فعله وتركه غير مقترن بذم فاعله وتاركه ولا مدحه "، فاتضح من ذلك:
أن الأمر طلب واستدعاء، بخلاف الإباحة فإنها إذن في الفعل
وإطلاق للفاعل من تقييده بأي شيء.
الوجه الثاني: الفرق من جهة وضع اللغة؛ حيث إن اللغة
وضعت لفظ " افعل " للأمر، ولفظ " لا تفعل " للنهي، ووضعت
عبارة: " إن شئت أفعل وإن شئت لا تفعل " للإباحة، فإنا بمعرفتنا
بوضع اللغة ندرك تفرقة بين هذه الصيغ والألفاظ: فلفظ: " افعل "
يقتضي طلب شيء، ويمنع من الإخلال بالمأمور به، ولفظ: " لا
تفعل " يقتضي النهي ويمنع من فعل المنهي عنه، ولفظ: " إن شئتْ
افعل وإن شئت لا تفعل " يفيد عدم الطلب، ولا يمنع المخاطب من
الفعل ولا من الترك.
الوجه الثالث: الفرق من جهة الضرورة؛ حيث إنا علمنا
بالضرورة اختلاف معاني هذه الصيغ، وأنها ليست بألفاظ مترادفة،
فصيغة: " افعل " وضعت للأمر، و " لا تفعل " وضعت للنهي،
و" إن شئت افعل وإن شئت فلا تفعل "، وضعت للإباحة، فعلمنا
التفرقة بينها كما علمنا التفرقة بين " قام " و " يقوم "؛ حيث إن لفظ
" قام " وضع للماضي، ولفظ " يقوم " وضع للمضارع والمستقبل.
فإذا علمنا هذه الفروق بين الأمر والإباحة فكيف تجعلون الإباحة
من درجات الأمر بالفعل؟!
المذهب الرابع: التوقف في معنى صيغة " افعل " حتى يرد دليل أو
قرينة تدل على المعنى المراد.
وهو مذهب كثير من الأشاعرة، ونسب إلى أبي الحسن
الأشعري، والقا ضي الباقلاني، والغزالي، وصحَّحه الآمدي.
واختلف في تفسير ذلك: فمنهم من قال: معناه: أن الصيغة
موضوعة لواحد من اثنين هما: الوجوب والندب، ولكن لا يدري
عينه.
ْومنهم من قال: معناه: أننا لا ندري ما وضعت له الصيغة أهو
الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، أو التهديد، أو: أنها مشتركة
بينها بالاشتراك اللفظي.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن صيغة: " افعل " ترد والمراد بها الايجاب،
وترد والمراد بها الندب، وترد والمراد بها الإباحة، وترد والمراد بها
التهديد، وليس حملها على أحد فذه الوجوه بأوْلى من حملها على
الوجه الآخر، فوجب التوقف فيها.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن هذه الصيغة - وهي افعل - إذا
وردت مجردة عن القرائن تحتمل غير الوجوب، وإنما تحمل على غير
الوجوب بقرينة قياسا على لفظة: " أوجبت "، فإنها لغة تحمل على
الوجوب عند الإطلاق، وتحمل على غير الوجوب بسبب قرينة مثل
قوله صلى الله عليه وسلم: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم ".
الجواب الثاني: أن ما قلتموه يبطل بأسماء الحقائق كالأسد
والحمار، فإنه يجوز استعمالهما في الرجل عند وجود القرينة، ثم
هو حقيقة في الحيوان المفترس والحيوان البهيم عند الإطلاق.
الدليل الثاني: أنها لو كانت صيغة " افعل " حقيقة في الوجوب
أو الندب، أو الإباحة: لما حسن الاستفهام من المأمور بها: فيقول
السيد لعبده: " اسقني ماء " فيحسن من العبد أن يقول: هل أمرتني
إلزاما أو ندبا؟
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن الاستفهام يحسن من المأمور بهذه
الصيغة إذا تجردت عن القرينة.
الجواب الثاني: أنه قد يحصل استفهام من المأمور بها، ولكن هذا
جاء احتياطا، ومنعا من اتساع الفهم.
الدليل الثالث: أن استعمال صيغة " افعل " في الندب والإباحة
أكثر من استعماله في الوجوب، ولا يجوز أن يكون موضوعا
للوجوب مع استعماله في غيره أكثر.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أنه يستعمل في الندب والإباحة أكثر، بل
إن استعمال لفظ " افعل " في الوجوب أكثر - كما مر من حمل
الصحابة لهذه الصيغة على الوجوب، وكذا أهل اللغة -.
الجواب الثاني: إن صح ما قلتموه وهو: أن استعمالها في الندب
والإباحة أكثر دليل على أن صيغة: " افعل " حقيقة فيهما، وليس
بدليل على التوقف - كما زعمتم -.
الجواب الثالث: أن هذا الدليل لا يمنع أن تكون صيغة: " افعل "
حقيقة في الوجوب؛ لأنه لا يمتنع أن يكون اللفظ حقيقة في شيء
ويُستعمل في غيره أكثر، يدل على هذا: أن " الغائط " حقيقة في
المطمئن من الأرض، واستعماله فيما يخرج من الإنسان ممثر.
وكذلك " الراوية " حقيقة في الجمل الذي يحمل المزادة،
واستعماله في المزادة أكثر.
وكذلك " الوطء " حقيقة في الدوس، واستعماله في الجماع أكثر.
الدليل الرابع: إن كون هذه الصيغة وهي: " افعل " موضوعة
للوجوب أو الندب أو الإباحة، إما أن يعلم عن طريق العقل، أو
النقل، وكل ذلك باطل، فلا دليل لكي على تعيين أحد هذه
الأقسام، فتبقى صيغة " افعل " مشتركة بينها، فوجب التوقف،
بيان ذلك:
إن زعمتم أن العقل دلَّ على أحد هذه الأقسام، فهذا باطل؛ لأنه
لا مدخل للعقل في اللغات.
وإن زعمتم أن النقل دلَّ على أحد تلك الأقسام، فهذا باطل
- أيضاً -؛ لأن النقل قسمان: " متواتر "، و " آحاد ":
فإن زعمتم أن المتواتر دلَّ على أحد تلك الأقسام، فهذا باطل؛
لأن المتواتر لو أثبت ذلك لعلمناه مثل ما علمتموه، ولقلة التواتر.
وإن زعمتم أن الآحاد دلَّ على أحد تلك الأقسام، فهذا باطل
أيضا؛ لأن كون صيغة " افعل " للوجوب أو للندب قاعدة أصولية،
والقاعدة الأصولية قطعية، والآحاد ظني، والظني لا يقوى على
إثبات القطعي، فثبت أنه لا دليل على تعيين أحد هذه الأقسام،
إذن: يجب التوقف.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أن هذا الكلام مطالبة بالدليل، والمطالبة بالدليل
ليس بدليل.
الجواب الثاني: على فرض أن المطالبة بالدليل دليل: فإنا قد
أثبتنا بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة، وإجماع
الفقهاء، وأهل اللغة واللسان على أن صيغة " افعل " إذا تجردت عن
القرائن تقتضي الوجوب.
الجواب الثالث: نحن معكم بأن العقل لم يدل على أن " افعل "
للوجوب، لأن العقل لا مدخل له في اللغات، ونحن معكم
- أيضاً - على أن ذلك لم يثبت عن طريق التواتر، لقلة التواتر
وندرته.
ولكن لا نوافقكم على أن الآحاد لا يثبت قاعدة أصولية مطلقا،
بل في ذلك تفصيل: فإن كانت القاعدة الأصولية علمية - أي:
ليست وسيلة إلى العمل - فهذه لا تثبت بالآحاد.
وإن كانت القاعدة الأصولية عملية - أي: هي وسيلة إلى العمل -
فهذه تثبت بالآحاد، قياسا على العمل بخبر الواحد بالفروع.
فهذه القاعدة - وهي اقتضاء صيغة " افعل " للوجوب - إن لم
تثبت بأدلة قطعية، فلا أقل من أنها ثابتة بادلة ظنية، وهي: ما فهم
من الآيات والأحاديث الآحادية، وإجماع الصحابة السكوتي، وإذا
كان الأمر كذلك فلا يجوز التوقف.
هذه الأجوبة إنما تصح إذا كان سبب توقفهم هو: عدم ثبوت أدلة
ترجح أحد الأقسام.
الدليل الخامس: قياس لفظ " افعل " على اللفظ المشترك كالعين
والقرء، فكما أنا لا ندري ما المقصود من لفظ " العين "، أهو:
المذهب، أو الشمس، أو الجارية، أو الباصرة، فكذلك لا ندري
ما المقصود بلفظ: " افعل " أهو: الوجوب أو الندب، أو الإباحة،
فلذلك نتوقف فيها كما توقفنا في اللفظ المشترك.
جوابه:
أنا لا نُسَلِّمُ أن لفظ " افعل " مثل اللفظ المشترك، بل بينهما فرق
وهو: أن لفظ " افعل " يفهم منه ترجيح الفعل على الترك، وهذا
قد أجمعتم معنا عليه، وبهذا خالف اللفظ المشترك كالعين، حيث
إنه لايفهم منه معنى معين.
وبناء على ذلك: فإنه يلزمكم أن تتوقفوا، بل تنزلوا الأمر على
أقل ما يشترك فيه الوجوب والندب: وهو طلب الفعل، وأن فعله
خير من تركه - وهذا هو الندب - أما ما زاد على ذلك - وهو:
لزوم العقاب على الترك، فلكم أن تتوقفوا فيه، وعلى هذا يكون
توقفكم المطلق ظاهر البطلان.
الدليل السادس: أن صيغة " افعل " لا تفيد شيئاً، وإنما هي
معنى قائم في النفس مشتركة بين الأمر وغيره، ولا يحمل على أي
شيء إلا بقرينة.
جوابه:
إن هذا باطل؛ لأن واضع اللغة قد وضع كل لفظ لمعنى، هذا
في الأصل، فلا يوجد أي لفظ إلا وله معنى قطعي أو ظني.
ويلزم من كلامكم في دليلكم هذا ما يلي:
أولها: أنه يسفه الواضع لهذه اللغة، وأنه يتكلم بكلام لا معنى
لبما.
ثانيها: أن تلك الألفاظ لا فائدة فيها بمجردها، فيكون وضعها
عبثا فهي لا تفيد شيئاً.
ثالثها: أن تقدير قرينة - هاهنا - كتقدير قرينة في سائر أنواع
الأدلة من الكتاب والسُّنَّة، وهذا يبطلها كلها.
أي: أنه إذا كانت صيغة " افعل " لا تفيد شيئاً إلا بقرينة،
فكذلك الآيات والأحاديث لا تفيد شيئاً إلا بقرائن؛ لأنها كلها ألفاظ،
واشتراط القرينة هنا يجعل المسلم لا يعمل بأي لفظ إلا بقرينة، وهذا
يبطل جميع الأدلة، وبذلك تخلو الألفاظ عن الفائدة، وتختل
أوامر الشرع العامة، وهذا لا يقوله عاقل.
وإذا كانت هذه الأمور تلزم من قولكم في دليلكم هذا: فإنه
يكون باطلاً بلا شك.
تنبيه: المذاهب في هذه المسألة أكثر مما ذكرت، لكن لم أذكر إلا
المهم منها؛ لتأثر الفروع الفقهية فيما ذكرته.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي وهو ظاهر، وأمثلة تأثر الفروع الفقهية بهذا
الخلاف كثيرة، ومن ذلك:
1 -
اختلافهم في الإشهاد على المراجعة هل هو واجب أو لا؟
فأصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن الأمر المطلق
للوجوب - يقولون: يجب الإشهاد على المراجعة؛ لقوله تعالى:
(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)، فقالوا: إن المراد بالإمساك: المراجعة،
والإشهاد على المراجعة مأمور به، والأمر يقتضي الوجوب، فإن
ترك الإشهاد فهو آثم.
أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن الأمر المطلق
للندب - فإنهم يقولون: إن الإشهاد مندوب إليه، فإن ترك الإشهاد
فلا إثم عليه؛ استدلالاً بقاعدتهم هنا.
أما أصحاب المذهب الثالث - وهم القائلون: إن الأمر المطلق
للإباحة - فإنهم يقولون: إن الإشهاد مباح، فإن ترك الإشهاد أو
فعله فلا إثم ولا أجر له.
أما أصحاب المذهب الرابع - وهم القائلون: إن الأمر المطلق
يتوقف فيه - فإنهم يقولون: لا يجوز أن يشهد حتى ترد قرينة تدل
على وجوبه، أو عدم ذلك.
2 -
إذا قال السيد لعبده أو الوالد لولده: " اسقني ماء ".
فأصحاب المذهب الأول قالوا: يجب عليه أن يسقيه، فإن لم
يفعل عاقبه.
وأصحاب المذهب الثاني والثالث والرابع قالوا: لا يجب عليه أن
يسقيه وإن لم يفعل: لا يعاقب.
3 -
هل الوعيد على الترك مأخوذ من نفس لفظ " افعل "؛
فذهب أصحاب المذهب الأول إلى أن الوعيد على الترك مستفاد
من نفس صيغة " افعل ".
أما أصحاب المذاهب الأخرى فذهبوا إلى أن الوعيد على الترك
مأخوذ من قرائن اقترنت بهذا الأمر.