الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس في الدليل الخامس - من الأدلة المختلف فيها -
وهو: المصلحة المرسلة
تعريفها:
المصلحة لغة بمعنى: الصلاح، كالمنفعة بمعنى: النفع.
المصلحة اصطلاحا: هي المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده
من حفظ دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، وأموالهم، ونسلهم،
فكل ما يضمن هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت
هذه الأصول أو أحدها فهو مفسدة، ودفعها مصلحة.
والمنفعة تحصيلا أو إبقاء: فالمراد بالتحصيل: جلب اللذة مباشرة،
والمراد بالإبقاء: الحفاظ عليها بدفع المضرة، وأسبابها.
والمراد بالمرسلة: هي المطلقة، وهي التي لم يقيدها الشارع
باعتبار ولا بإلغاء، أي: لم يرد دليل من أدلة الشرع يشهد
بإبطالها، ولم يرد دليل من أدلة الشرع يعتبرها.
فيكون تعريف المصلحة المرسلة هو: كل منفعة داخلة في مقاصد
الشارع الخمسة السابقة الذكر، دون أن يكون لها شاهد بالاعتبار أو
الإلغاء.
وبيانه:
أن المصالح المرسلة هي التي لم يقم دليل من الشارع على اعتبارها
ولا على إلغائها، فإذا حدثت حادثة لم نجد حكمها في نص، ولا
في إجماع، ولا في قياس، ووجدنا فيها أمرا مناسبا لتشريع الحكم،
أي: أن تشريع الحكم فيها من شأنه أن يدفع ضررا، أو يحقق نفعا،
فهذا الأمر المناسب في هذه الحادثة يسمى المصلحة المرسلة.
***
تقسيمات المصالح:
التقسيم الأول: تنقسم المصالح باعتبار أهميتها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الضروريات، وهي المصالح التي لا بد منها في
قيام مصالح الدين والدنيا، وصيانة مقاصد الشريعة، بحيث إذا
فقدت أو فقد بعضها، فإن الحياة تختل أو تفسد، وللمحافظة على
المصالح الضرورية شرع اللَّه حفظ الدين، والنفس، والعقل،
والنسب، والمال.
فشرع لحفظ الدين: قتل الكافر المضل عن هذا الدين، وقتل
المرتد الداع إلى ردته، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، وشرع
الجهاد.
وشرع لحفظ النفس: عقوبة القصاص، وعقوبة الدية، ووجوب
الأكل والشرب عند الضرورة ولو كان صائما، كذلك: شرع اللبس
والمسكن، مما يتوقف عليه بقاء الحياة وصون الأبدان من التلف، أو
أي ضرر.
وشرع لحفظ العقل: عقوبة شرب الخمر، ووجوب الأكل
والشرب الذين يتوقف عليهما بقاء العقل وسلامة فهمه.
وشرع لحفظ النسل والأنساب: عقوبة الزنا، وأحكام الحضانة،
والنفقات..
وشرع لحفظ المال: عقوبة السرقة، والقواعد المنظمة للمعاملات
المختلفة بين الناس لصيانة الحقوق.
ولا يمكن - بأي حال - تفويت هذه الأصول الخمسة، فلا بد
إذن من مراعاتها؛ لكون كل واحد منها يعتبر ركنا من الأركان التي
لا تقوم الحياة البشرية إلا بها.
القسم الثاني: الحاجيات، وهي: المصالح والأعمال والتصرفات
التي لا تتوقف عليها الحياة واستمرارها، بل إذا تركناها لا تختل ولا
تفسد الحياة الإنسانية، فالحياة تتحقق بدون تلك الحاجيات، ولكن
مع الضيق.
فهي أعمال وتصرفات شرعت لحاجة الناس إلى التوسعة، ورفع
الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة.
مثل: التوسع في بعض المعاملات كالسلم، والمساقاة، والقصر
في السفر، والرخص المناطة في المرض، هذه الأمثلة في الأمور
العامة.
ومثال ذلك في الأمور الخاصة: تسليط الشارع الأب في تزويج
البنت الصغيرة من الكفء، فإن هذا لا ضرورة إليه؛ حيث إنه يمكن
- استمرار الحياة بدون ذلك، ولكنه محتاج إليه في اقتناء المصالح
لتحصيل هذا الكفء خوفا من فواته؛ لأنه يحصل بحصوله نفع في
المستقبل والماَل، ويحصل بفواته بعض الضرر.
القسم الثالث: التحسينيات، وهي: المصالح والأعمال
والتصرفات التي لا تتوقف الحياة عليها، ولا تفسد ولا تختل،
فالحياة تتحقق بدون تلك التحسينيات، وبدون أي ضيق فيها، فهي
من قبيل التزيين والتجمل والتيسير، ورعاية أحسن المناهج وأحسن
الطرق للحياة، فتكون من قبيل استكمال ما يليق، والتنزه عما لا
يليق من المدنسات التي تألفها العقول الراجحة.
ومن أمثلة ذلك: المنع من بيع الماء والكلأ، والمنع من بيع
النجاسات، والابتعاد عن الإسراف والتقتير، ومجانبة ما استخبث
من الطعام، وآداب الأكل والشرب، هذه أمثلته العامة.
ومن أمثلة ذلك في الأمور الخاصة: اشتراط الشارع للولي في
النكاح؛ صيانة للمرأة عن مباشرة عقد النكاح بنفسها؛ لأن المرأة لو
باشرت عقد نكاحها: لكان ذلك مشعراً بتوقانها إلى الرجال،
وحبها لهم، ومشعراً - أيضا - بقلة حيائها، وأنه لا مروءة لها،
وهذا يقلل من قيمتها عند الخاطب، ونظراً لذلك فقد مُنعت المرأة من
عقد نكاحها بنفسها، وفوض ذلك إلى الولي؛ تزيينا للمرأة وتحسينا
في نظر الخاطب، وحملاً للخلق على أحسن المناهج، وأجمل
السير.
ويمكن أن يكون ذلك مثالا للحاجيات - أيضا - إذا قلنا: إن
اشتراط الولي في النكاح كان لعلة أخرى وهي: أن رأي المرأة قاصر
في اختيار وانتقاء الأزواج، وأنها تغتر بالمظاهر، ونظراً لذلك مُنعت
من مباشرة ذلك بنفسها، وفوض ذلك إلى الولي؛ لأن الولي أعلم
بمعادن الرجال منها - ويستطيع - في الغالب - معرفة الصالح من
غيره.
بيان أنه لا يجوز للمجتهد التمسك بالمصالح الحاجية والتحسينية
إلا بدليل شرعي:
هذا بالإجماع؛ لأنه لو جاز التمسك بالمصلحة الحاجية أو
التحسينية بدون دليل أو أصل شرعي: للزم من ذلك أمور باطلة،
وهي كما يلي:
الأمر الأول: أنه يلزم وضع الشرع بالرأي المجرد، وهذا باطل.
الأمر الثاني: أنه لا يحتاج إلى بعثة الرُّسُل والأنبياء ليعلموا الناس
شرع ربهم، ولكان الخلق يشرعون ما يريدون بعقولهم، فما يحسنه
العقل أثبتوه، وما قبحه العقل اجتنبوه، وهذا ظاهر البطلان؛ لأن
العقل لا مدخل له في الشرعيات.
الأمر الثالث: أنه يلزم من ذلك: عدم الفرق بين المجتهد والعامي،
وأن كل واحد منهما يساوي الآخر؛ لأن كل واحد منهما يعرف
مصلحة نفسه فيما يقع موقع الحاجة والتحسين، وهذا باطل.
التقسيم الثاني: تنقسم المصالح من حيث اعتبار الشارع لها وعدم
ذلك إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المصالح المعتبرة، وهي المصالح التي اعتبرها
الشارع وأثبتها وشهد بذلك، وأقام دليلاً على رعايتها، فهذه
المصالح حُجَّة لا إشكال في صحتها، ويرجع حاصلها إلي القياس،
فإن الشارع إذا نص على حكم في واقعة معينة، واستنبط المجتهد
العلَّة التي شرع الحكم لأجلها؛ لأن الأحكام الشرعية مصلحية،
أي: أن اللَّه لا يشرع حكما إلا وفيه جلب مصلحة للعباد، أو دفع
مضرة عنهم، فإنا إذا وجدنا واقعة أخرى وجدت فيها تلك العلَّة،
فإنا نلحقها بالحكم الوارد في الواقعة الأولى؛ لأن المصلحة واحدة.
فمثلاً قال صلى الله عليه وسلم:
" لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان ".
فهنا: منع القاضي من القضاء في حالة الغضب، والعلَّة هي:
اشتغال قلبه عن الفكر، والنظر في أدلة الخصمين، وتغيرَ طبعه عن
السكون والتلبث والاجتهاد، فيقاس على ذلك: كل ما يشغله عن
النظر في الدليل والحكم، وكل ما يغير طبعه مثل: كونه جائعا، أو
حاقنا، أو خائفا.
وهذا كله فيه مصلحة واضحة للخصمين.
والمصلحة المقصودة بهذا القياس تسمى: المصلحة المعتبرة من
الشارع.
القسم الثاني: المصالح الملغاة، وهي المصالح التي شهد الشارع
بردها وإلغائها، وعدم اعتبارها.
فلو نص الشارع على حكم في واقعة لمصلحة استأثر بعلمها،
وبدا لبعض الناس حكم فيها مغاير لحكم الشارع لمصلحة توهمها هذا
البعض، فتخيل أن ربط الحكم بذلك يحقق نفعا، أو يدفع ضرراً،
فإن هذا الحكم مردود على من توهمه؛ لأن هذه المصلحة التي
توهمها قد ألغاها الشارع، ولم يلتفت إليها.
مثال ذلك: أن الملك عبد الرحمن بن الحكم قد جامع جارية في
نهار رمضان، وكرر ذلك في عدد من الأيام، وكان يكرر الإعتاق
- تمشيا مع نص حديث الأعرابي - ولكن جاء الفقيه: يحيى بن
يحى الليثي المالكي، فأفتى بأن عليه صوم ستين يوما كفارة، وعلل
ذلك بأن الكفارة قد وضعت للزجر والردع، فلو أوجبنا على هذا
الملك العتق لسهل عليه الجماع في نهار رمضان مرة بعد أخرى - كما
حصل منه - لذلك نوجب عليه الصيام زجراً له، وظن أن في ذلك
مصلحة.
لكن هذه المصلحة ملغاة؛ لأنها معارضة للنص الشرعي، وهو
حديث الأعرابي؛ حيث إن الكفارة مرتبة على حسب الاستطاعة:
فيجب عليه أولاً العتق، فإن لم يستطع فعليه صيام ستين يوماً، فإن
لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكينا.
القسم الثالث: المصالح المرسلة، وهي المطلقة التي لم يقيدها
الشارع باعتبار، ولا بإلغاء، وهذا القسم هو المراد بالمصلحة المرسلة
اصطلاحا، وقد عرفنا ذلك.
حجية المصلحة المرسلة:
لقد بيَّنا أن المصلحة التي شهد لها الشرع بالاعتبار حُجَّة بالاتفاق؛
وأن المصلحة التي شهد لها الشرع بالإلغاء ليست بحُجَّة بالاتفاق،
وأن المصلحة الحاجية والتحسينية لا يمكن أن يتمسك بها في إثبات
حكم إلا إذا كانت مستندة إلى دليل وأصل شرعي من الأصول المعتبرة
وهذا بالإجماع أيضا.
أما ما عدا ذلك وهي: المصلحة التي يراها المجتهد، ولم يرد
دليل من أدلة الشرع يشهد لها، ولا دليل منه يلغيها، فهذه التي
اختلف العلماء هل هي حُجَّة أو لا: على مذاهب:
المذهب الأول: أن المصلحة المرسلة حُجَّة بشروط هي كما يلي:
الشرط الأول: أن تكون المصلحة المرسلة ضرورية، وهو: ما
يكون من الضروريات الخمس التي يجزم بحصول المنفعة منها.
الشرط الثاني: أن تكون المصلحة كلية عامة حتى تعم الفائدة
جميع المسلمين.
الشرط الثالث: أن تلاءم تلك المصلحة مقاصد الشرع في الجملة،
فلا تكون غريبة.
الشرط الرابع: أن تكون المصلحة المرسلة قطعية، أي: يقطع
بوجودها، ولم يختلف في ذلك.
وهو مذهب كثير من الأصوليين، وهو الحق عندي؛ للأدلة
التالية:
الدليل الأول: الاستقراء والتتبع، بيان ذلك:
أنا لما تتبعنا واستقرأنا النصوص من الكتاب والسُّنَّة، وقرائن
الأحوال، والقواعد الشرعية المجمع عليها وجدنا الأدلة العديدة
المتضافرة على أن الشريعة الإسلامية قد راعت مصالح العباد؛ حيث
إنها قائمة على أساس توفير السعادة لهم.
فالأخذ بالمصالح المرسلة - بالشروط السابقة - هو الذي يتفق مع
روح الشريعة الإسلامية التي جاءت برعاية مصالح العباد، فطلبت
منهم - أو أباحت لهم - كل ما يجلب لهم النفع، وحرمت عليهم
- أو كرهت لهم - كل ما يجلب لهم مفسدة، أو ضرراً.
الدليل الثاني: أنه لو لم نجعل المصلحة المرسلة دليلاً من الأدلة
للزم من ذلك خلو كثير من الحوادث بلا أحكام، وذلك لقلة
الأصول المعتمدة وندرتها، وكثرة الحوادث، فقد يطرأ للأمة اللاحقة
طوارئ لم تطرأ للأُمَّة السابقة، وكذلك قد يؤدي تغير أخلاق الناس
وأحوالهم إلى أن يصير مفسدة ما كان مصلحة، وقد يكون مصلحة
في مجتمع ما هو مفسدة في مجتمع آخر، فلو لم نجعل المصلحة
حُجَّة لضاقت الشريعة عن مصالح الناس، وقصرت عن حاجاتهم،
ولم تصلح لمسايرة مختلف المجتمعات والأزمان والأحوال، وهذا
خلاف القاعدة الشرعية المعروفة، وهي: أن الإسلام صالح لكل
زمان ومكان.
الدليل الثالث: أن من تتبع الفتاوى الصادرة عن الصحابة
واجتهاداتهم علم أنهم كانوا يراعون المصالح، وينظرون إلى المعاني
التي علموا أن القصد من الشريعة رعايتها، دون نكير من أحد فكان
إجماعا.
هذه الأدلة دلَّت على أن المصلحة حُجَّة، فإذا أضفنا إليها تلك
الشروط فإنه يترجح اعتبارها على إلغائها، فيكون الاعتبار مظنونا،
فيجب العمل به؛ لأن العمل بالظن واجب.
المذهب الثاني: أن المصلحة المرسلة حُجَّة مطلقا، وهو مذهب
الإمام مالك.
أدلة هذا المذهب:
هي نفس أدلتتا في المذهب الأول، ولكن بدون إضافة تلك
الشروط.
جوابه:
إنه لا يمكن الأخذ بالمصلحة المرسلة إلا بتلك الشروط التي ذكرناها
في المذهب الأول؛ لأنه بعد الاستقراء والتتبع لفتاوى الصحابة،
ومن جاء بعدهم من علماء الأمَّة وجدناهم يستدلون بالمصلحة، وهم
قد راعوا تلك الشروط والقيود.
وكذلك فإن تلك الأدلة دلَّت على حجية المصلحة المرسلة التي أخذ
بها هؤلاء، حيث إنها منضبطة، ولم تدل على حجية المصلحة
المرسلة مطلقا؛ لأن هذا يؤدي إلى عدم انضباط من أخذ بها، مما
يفتح مجال الأهواء والشهوات، فيقع في الزلل.
المذهب الثالث: أن المصلحة المرسلة ليست بحُجَّة مطلقا.
وهو مذهب بعض الشافعية، وبعض الحنابلة، وبعض المتكلمين.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن المصالح إما أن تكون معتبرة، وإما أن تكون
ملغاة، والمصلحة المرسلة مترددة بينهما، وليس جعلها مع المعتبر
بأوْلى من جعلها مع الملغى، فيمتنع الاحتجاج بها حتى يشهد لها
شاهد يدل على أنها من قبيل المعتبر.
جوابه:
أنا لم نجعل المصلحة المرسلة مع المصالح المعتبرة مطلقا، وبدون
أدلة، بل جعلناها مع المصالح المعتبرة وأنه يحتج بها بأدلة وبشروط
قد رجحت اعتبارها على إلغائها، فيكون الاعتبار مظنونا، والعمل
بالظن واجب.
الدليل الثاني: أنا لم نعلم أن الشارع قد حافظ على تحصيل
المصلحة بأبلغ الطرق، فلم تشرع المثلة في القاتل عمداً وعدوانا مع
أن المصلحة تقتضيها؛ لأنها أبلغ في الزجر عن القتل ولم يشرع القتل
في السرقة، وشرب الخمر والقذف مع أن المصلحة تقتضيه؛ لأنه
أبلغ في الزجر عن العود لمثله.
فلو كانت المصلحة حجَّة لحافظ الشرع على تحصيلها بأبلغ الطرق،
ولكن لم يفعل شيئاً من ذلك، فلا تكون حجَّة.
جوابه:
إن المصلحة حُجَّة بالشروط والقيود السابقة الذكر في مذهبنا
الأول، وما ذكرتم من الأمثلة وما بينتم فيها أن الشارع لم يحافظ
عليها مع أنها أبلغ هذا لا يدخل في المصلحة المرسلة، بل إن كل ما
قلتم هو من المصالح الملغاة؛ حيث إنه قد نص على تلك الحدود،
ولا اجتهاد مع النص، أما لو لم ينص على شيء: فإن المصلحة
تدخله ألا ترى أنه إذا رأى الحاكم أن يعزِّر بالقتل، فإنه يجوز له إذا
رأى المصلحة في ذلك.
الدليل الثالث: أن الحكم الشرعي هو: المستند إلى دليل، أو
أي أصل شرعي كالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والقياس، ونحو
ذلك، فلو أثبت المجتهد حكما مستنداً إلى مصلحة بدون دليل
شرعي: كان حكما بالعقل المجرد، ووضعا للشرع بالرأي والتشهي،
وهذا ظاهر البطلان.
جوابه:
أنا قلنا بأن المصلحة المرسلة حُجَّة بسبب: أن هناك أدلة قد دلَّت
على ذلك بصراحة، وقد ذكرناها، وتلك الأدلة وهي:
استقراء النصوص الشرعية، واستقراء فتاوى الصحابة وعلماء
الأُمَّة، وكون أننا لو لم نحتج بالمصلحة لخلت كثير من الحوادث بلا
أحكام.
وهذه الأدلة شرعية قد أثبتنا عن طريقها كثيراً من القواعد الأصولية
كحجية القياس، ونجبر الواحد، وصيغ العموم، ونحو ذلك، فلو
كانت تلك الأدلة لا تصلح لإثبات المصلحة والاحتجاج بها للزم أنها
لا تصلح لإثبات أي قاعدة أصولية، وهذا باطل.
ثم إننا قد اشترطنا للعمل بالمصلحة شروطا تبين أن حكمنا
بالمصلحة ليس حكمل بالعقل المجرد، ولا وضعا للشرع بالتشهي
والرأي، بل هو حكم بالشرع، ولا يخرج عن الشرع بأي حال.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة خلاف معنوي؛ حيث إن أصحاب المذهب
الأول والثاني جعلوا المصلحة المرسلة من أدلتهم المعتبرة إلا أن
أصحاب المذهب الثاني قد توسعوا في الاستدلال بها بخلاف
أصحاب المذهب الأول، فقد ضيقوا فيها على حسب تلك الشروط
والقيود - وهو ما رجحناه.
أما أصحاب المذهب الثالث فلم يجعلوا المصلحة المرسلة من
أدلتهم.
وقد تأثر بذلك بعض الفروع الفقهية.
فمثلاً: استدل المحتجون بها على قتل الجماعة بالواحد؛ حيث
قالوا: إنه لو سقط القصاص بالاشتراك لأدى إلى اتساع القتل به،
فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر، فاقتضت المصلحة قتلهم به.
أما من لم يأخذ بالمصلحة فلم يرى ذلك، بل قال: لا تقتل
الجمامحة بالواحد مستدلأ بقوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) حيث إنها دلَّت على أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس
واحدة.
كذلك استدل بالمصلحة الإمام مالك على أن المرأة البكر لا تغرب
إذا زنت؛ لأن المرأة تحتاج إلى حفظ وصيانة، فإذا غربت بغير
محرم: كان ذلك إغراء لها بالفجور، وتضييع لها، وذلك ينافي
قصد الشارع من وجوب الحد؛ لأنه ما شرع إلا زجراً عن الزنا -.
وإن غربت المرأة بمحرم أدى ذلك إلى عقاب من لم يجرم ومن لا
ذنب له، وإن كلفت أجرته، ففي ذلك زيادة على عقوبتها.
أما بعض العلماء، فلم يأخذ بالمصلحة هنا، وأوجب التغريب
على المرأة كغيرها مستدلاً بعموم حديث عبادة:
" البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ".
تنبيه: الحق: أنه بعد تتبع واستقراء وتفقد كتب الفقه على
المذاهب الأربعة، فإنه ثبت أن جميع العلماء يستدلون بالمصالح
المرسلة، ولكن تختلف هذه المذاهب في التوسع والتضييق في الأخذ
بها، فبعضهم اشترط للأخذ بها شروطا كما هو في المذهب الأول
الذي قلناه، وبعضهم استدل بها مطلقا كما هو في المذهب الثاني،
قال القرافي رحمه الله: " أما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها
خاصة بنا، وإذا تفقدت وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا، وفرقوا بين
المسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا
وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة،
فهي إذن في جميع المذاهب ".
وقال ابن دقيق العيد: " إنه لا يخلو أي مذهب من اعتباره في
الجملة، ولكن الإمام مالك قد توسع في الأخذ بها، ويليه الإمام
أحمد".