الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع هل يصح استعمال المشترك في كل معانيه إذا أمكن الجمع بينها
؟
اللفظ الواحد من متكلم واحد في وقت واحد إذا كان مشتركا بين
معنيين كالعين للذهب، والجارية، والنكاح المطلق على العقد
والوطء، ولم تكن الفائدة فيهما واحدة هل يجوز أن يراد به كلا
المعنيين معا أو لا؟
أي: هل يصح أن يستعمل المتكلم اللفظ الواحد في جميع معانيه
دفعة واحدة على أن يكون كل معنى مقصوداً بالحكم في وقت واحد
أو لا يصح ذلك؟
اختلف في ذلك على مذاهب، أهمها:
المذهب الأول: أنه يصح ويجوز أن يراد باللفظ جميع معانيه إذا
تجرد عن القرائن، وإطلاقه على جميع معانيه حقيقة مطلقا.
ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي، والباقلاني، والبيضاوي، وكثير
من العلماء، وهو الحق عندي؛ لدليلين:
الدليل الأول: الوقوع، والوقوع دليل الجواز، وقد وقع في
القرآن في موضعين:
الموضع الأول: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) .
فالصلاة من اللَّه تعالى: الرحمة والمغفرة، ومن الملائكة:
الاستغفار، وهما معنيان متغايران، واستعمل لفظ " الصلاة " فيهما
دفعة واحدة؛ حيث وقع الإخبار به، فدل ذلك على صحة استعمال
المشترك في كل معانيه في وقت واحد.
ما اعترض به على الاستدلال بهذه الآية:
الاعتراض الأول: أن قوله تعالى: (يصلون) فيه ضميران:
أحدهما عائد إلى اللَّه، والآخر عائد إلى الملائكة، وتعدد الضمائر
بمنزلة تعدد الأفعال، فكأنه قال:" إن اللَّه يصلي وملائكته تصلي "
فهو - إذن - بمثابة ذكر فعلين، ومسألتنا في استعمال اللفظة الواحدة
في معنيين، وليس في استعمال لفظين في معنيين، ذكر ذلك تاج
الدين الأرموي.
جوابه:
إن الآية لم ينطق بها إلا بلفظ واحد هو: (يصلون) ، فيكون
اللفظ واحداً، - ولكن معناه قد تعدد، وقد أريد به كل معانيه.
الاعتراض الثاني: أن لفظ " الصلاة " مشترك بالاشتراك المعنوي،
دون اللفظي، بيان ذلك:
أن لفظ " الصلاة " مستعمل في القدر المشترك بين المغفرة
والاستغفار وهو: الاعتناء وإظهار شرف الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون مشتركا معنويا، ولا يكون مشتركا لفظيا، ذكر ذلك الغزالي.
جوابه:
أن استعمال الصلاة في الاعتناء مجاز؛ لعدم تبادره إلى الذهن،
والأصل في الكلام الحقيقة، فالصلاة مشتركة بين المغفرة والاستغفار،
فيحمل عليهما مراعاة للمعنى الحقيقي، ولا يُعدل عنهما إلى المجاز
إلا بقرينة، ولا قرينة.
الاعتراض الثالث: أنه يجوز أن يكون قد حذف الخبر لوجود
قرينة تدل عليه، كما في قول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما
…
عندك راض والرأي مختلف
والتقدير: أن اللَّه يصلي، وملائكته يصلون.
جوابه:
إن هذا فيه إضمار، والإضمار خلاف الأصل.
الموضع الثاني: قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد أسند السجود إلى المذكورين في
الآية، وحقيقة " سجود الناس ": وضع الجبهة على الأرض،
وحقيقة سجود الدواب والشمس والقمر والنجوم هو: الخضوع
والخشوع؛ لأن السجود على الجبهة غير متصور منها، فاستعمل
"السجود" في الآية في معنييه، إذن لفظ " السجود " مشترك لفظي
بين الخشوع ووضع الجبهة.
اعتراض على ذلك:
قال بعض المعترضين - كتاج الدين الأرموي -: لا نُسَلِّمُ أنه
استعمل اللفظ الواحد في معنييه، بل المستعمل ألفاظ متعددة؛ لأن
حرف العطف بمثابة تكرار العامل فيكون تقدير الآية: إن الله يسجد
له من في السموات، ويسجد له من في الارض، وتسجد له
الشمس، ويسجد له القمر
…
إلخ، فليس فيه إعمال للمشترك
في معنييه، بل يكون اللفظ متعدداً أريد بكل واحد معنى من المعاني،
وهذا خارج عن محل النزاع.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أن العاطف بمثابة العامل؛ لأن الثابت
عند جمهور النحاة أن العامل في المعطوف هو العامل في المعطوف
عليه، وبذلك يُساوَى الثاني بالأول إعرابا وحكما، والعامل في
الثاني هو الأول بواسطة العاطف، فيكون مجموع الخضوع ووضع
الجبهة مراداً.
الجواب الثاني: أنه لو سلمنا أن العاطف بمثابة العامل للزم من
ذلك أن يكون المراد من سجود الشمس والقمر والجبال والشجر هو:
وضع الجبهة على الأرض؛ لأنه مدلول الأول، وهو ظاهر البطلان؛
لأنه لا يتحقق في الشمس ولا في القمر ونحوهما، فثبت ما قلناه.
الدليل الثاني: أن كل عاقل يصح أن يقصد بقوله: " لا تنكح ما
نكح أبوك " نهيه عن العقد وعن الوطء جميعاً من غير تكرار اللفظ،
ولا ينكر هذا إلا مكابر معاند، فثبت ما قلناه وهو: أنه يصح أن يراد
باللفظ المشترك جميع معانيه.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز استعمال المشترك في جميع معانيه
مطلقا.
وهو مذهب أبي حنيفة، وبعض أصحابه، كأبي الحسن الكرخي
وبعض الشافعية كابن الصباغ، وبعض الحنابلة كأبي الخطاب.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الإنسان يجد من نفسه تعذر استعمال اللفظ
المشترك في معنييه، ويجد تعذر استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه
معا، قياساً على تعذر تعظيم زيد والاستخفاف به في آن واحد.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ الحكم في الأصل، فإنه لا يمتنع
تعظيم زيد والاستخفاف به في حال واحد، فإذا جاز ذلك: جاز
استعمال اللفظ في معنييه في حال واحد.
الجواب الثاني: على فرض أن الحكم في الأصل - وهو المقاس
عليه - صحيح، فإن قياسكم ما نحن فيه عليه قياس فاسد؛ لأنه
قياس مع الفارق؛ لأن تعظيم زيد والاستخفاف به في آن واحد
يختلف عن حمل اللفظ المشترك في معنييه، أو حمل اللفظ على
حقيقته ومجازه، فالمتكلم يجوز أن يريد باللفظ المشترك معنييه معا،
ويجوز أن يريد المبنى الحقيقي والمجازي في خطابين في آن واحد،
ولكن لا يجوز أن يعظم زيدا ويستخف به بقولين في آن واحد؛
حيث إن التعظيم ينبئ عن ارتفاع حال المعظم، أما الاستخفاف به،
فإنه ينبئ عن انحطاط حاله، وليس كذلك ما نحن فيه، ثم لا نقول
بحمل اللفظ المشترك إلا فيما أمكن الجمع فيه بين المعنيين مثل لفظ
" النكاح "، فإنه يصح حمله على معنييه وهما: العقد والوطء،
وذلك في قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) .
الدليل الثاني: أنه لو جار حمل اللفظ على معنييه لجاز أن يراد
بلفظ " افعل " الاباحة، والإيجاب، والندب، وكذلك لو جاز
حمل اللفظ المشترك على معنييه لجاز أن يريد بقوله: (اقتلوا
المشركين) : المشركين والمؤمنين، وبقوله:(يا أيها الناس) :
الناس والبهائم.
جوابه:
أنا نقول: يحمل اللفظ على معنييه بشرط: إمكان الجمع بين
المعنيين وفي جميع الأمثلة السابقة التي ذكرتموها في دليلكم يمتنع
الجمع؛ لوجود التضاد، كما أن لفظ " الناس " لا يجري على
البهائم، ولفظ " المشركين " لا يجري على المؤمنين؛ لعدم تصوره،
لا حقيقة ولا مجازاً.
المذهب الثالث: التفصيل بين النفي والإثبات، بيانه:
أنه يصح استعمال اللفظ المشترك في كل معانيه في النفي، سواء
كان هذا اللفظ مفرداً أو غير مفرد، ولا يصح استعماله في الكل في
الإثبات مطلقا، وهو مذهب بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن المشترك إذا وقع في النفي يكون عاما؛ لأنه يكون نكرة في
سياق النفي وهي تعم، فإذا حلف لا يكلم مواليه: تناول الأعلى
والأسفل، وإذا قال:" ليس عندي عين "، وأراد نفي كل ما
يصدق عليه عين صح ذلك، ولو قال:" لا تعتدي بقرء "، فإنه
يحمل على معنييه الطهر والحيض، ولكن لو وقع ذلك في الإثبات
فلا يجم؛ لأن النكرة في سياق الإثبات لا تعم، فلا يوجد ما
يقتضي العموم، فلا تصح إرادته.
جوابه:
لا نسلم الفرق الذي ذكرتموه بين النفي والإثبات؛ حيث إن اللفظ
إذا وقع في النفي يكون مراداً منه ما أريد به في الإثبات، فإن أريد به
في النفي جميع معانيه كان المراد به في الإثبات جميع معانيه ولا فرق
بينهما.
وأيضا: فإن النكرة في سياق النفي تعم في أفراد مدلول واحد،
لا في أفراد المدلولات المختلفة.
المذهب الرابع: أنه يصح استعمال اللفظ المشترك في كل معانيه
بشرط: أن يكون مثنى أو جمعا سواء وقع ذلك في سياق الإثبات
أو النفي، ولا يصح استعماله في جميع معانيه إذا كان مفرداً، سواء
كان واقعا في الإثبات أو النفي.
دليل هذا المذهب:
أن اللفظ المشترك إذا كان جمعا، فإنه يكون بمثابة تكرار المفرد
وتعدده، ويكون كل لفظ من الألفاظ المفردة مراداً به معنى من
المعاني، فالمثنى والجمع في حكم تعدد الأفراد، فقولك: " ثلاث
عيون " في قوة قولك: عين، وعين، وعين، فكما يجوز أن تريد
بالأولى العين الباصرة مثلاً، وبالثانية العين الجارية، وبالثالثة
الذهب، فكذا في الجمع.
جوابه:
نسلم لكم أن الجمع بمثابة تكرار المفرد وتعدده، ولكن ذلك
مشروط بأن تكون تلك المفردات متساوية في المعنى، فمثلاً إذا قيل:
" عندي عيون " لزم أن تكون المفردات المجموعة من نوع واحد وهو
العيون الجارية، ولا يصح أن يكون مراداً بعين: الذهب، وبأخرى
الجارية، وبالثالثة الباصرة.
تنبيه: لقد قلت: إنه يصح أن يراد باللفظ جميع معانيه حقيقة،
وهو المذهب الأول، وأقصد بذلك: أن اللفظ المشترك وضع في
أصل اللغة ليدل على معانيه على البدل، فإذا وجدت قرينة تدل على
المعنى المراد باللفظ المشترك حمل عليه، وإن لم توجد قرينة تدل على
المعنى المراد: فلا يمتنع أن يراد باللفظ جميع معانيه الصالح لها مطلقا
أي: سواء كان مفرداً أو مثنى، أو جمعاً، أو مثبتا، أو منفيا بشرط
: إمكان الجمع بين معانيه.
أما إذا لم يكن الجمع بين معانيه ممكناً؛ نظراً لتضادها، أو
تناقضها، فلا يجوز حمله على معانيه المختلفة.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي قد أثر في بعض الفروع الفقهية،
ومنها:
1 -
هل يقع طلاق المكره؟
من قال: يحمل اللفظ المشترك على معنييه معا ذهب إلى أنه لا
يقع طلاق المكره مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم:
" لا طلاق ولا عتاق في إغلاق "
حملاً للفظ " إغلاق " على معنييه وهما: " الجنون والإكراه "،
وهو مذهب كثير من الفقهاء وهو الحق.
أما من منع حمل اللفظ المشترك على معنييه فعندهم أن حكمه:
التوقف؛ لأنه مجمل، فلا يحمل اللفظ على معنييه ولا على
أحدهما إلا بقرينة، ولذلك قالوا بوقوع طلاق المكره، وهم كثير من
الحنفية.
2 -
هل أولياء الدم يخيرون بين القصاص والدية في القتل العمد
العدوان؟
من حمل اللفظ المشترك على معنييه معا ذهب إلى أنهم يخيرون
بينهما حملاً لكلمة " سلطانا " في قوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) على معنييها وهما: القصاص والدية.
أما من منع حمل اللفظ المشترك على معنييه، فإنهم ذهبوا إلى
عدم التخيير، وحملوا لفظ " سلطانا " على القصاص فقط؛ لعدم
جوار حمل اللفظ على معنييه معا.