المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالث في التأويل - المهذب في علم أصول الفقه المقارن - جـ ٣

[عبد الكريم النملة]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثاني في الأدلة المختلف فيها

- ‌المبحث الأول في الدليل الأول - من الأدلة - المختلف فيها- الاستصحاب

- ‌المبحث الثاني الدليل الثاني - من الأدلة المختلف فيها -شرع من قبلنا

- ‌المبحث الثالث في الدليل الثالث من الأدلة المختلف فيها قول الصحابي

- ‌المبحث الرابع في الدليل الرابع - من الأدلة المختلف فيها - الاستحسان

- ‌المبحث الخامس في الدليل الخامس - من الأدلة المختلف فيها -وهو: المصلحة المرسلة

- ‌المبحث السادس في الدليل السادس - من الأدلة المختلف فيها -سد الذرائع

- ‌المبحث السابع في الدليل السابع - من الأدلة المختلف فيها -وهو: العرف

- ‌المبحث الثامن في الدليل الثامن - من الأدلة المختلف فيها -- الاستقراء

- ‌الباب الرابع في الألفاظ ودلالتها على الأحكام

- ‌الفصل الأول في اللغات

- ‌المبحث الأول في تعريف اللغات، واللفظ، والكلام، والنطقوالقول، وسبب وضع اللغات

- ‌المبحث الثاني في دلالة اللفظ على معناه هل هي بالوضعأو لمناسبة طبيعية بين اللفظ والمعنى

- ‌المبحث الثالث في مبدأ اللغات أي: هل اللغات توقيفية أو اصطلاحية

- ‌المبحث الرابع في هل يجري القياس في اللغة

- ‌الفصل الثاني في الدلالة وتقسيم اللفظ

- ‌المبحث الأول في تعريف الدلالة وأقسامها

- ‌المطلب الأول تعريف الدلالة

- ‌المطلب الثاني أقسام الدلالة

- ‌المطلب الثالثتعريف الدلالة اللفظية الوضعية

- ‌المبحث الثاني في تقسيم اللفظ

- ‌المطلب الأول في تقسيم اللفظ باعتبار الإفراد والتركيب

- ‌المطلب الثاني في تقسيم اللفظ المفرد

- ‌المطلب الثالث في تقسيم المركب

- ‌الفصل الثالث في الاشتقاق

- ‌المبحث الأول في تعريف الاشتقاق

- ‌المبحث الثاني أركان الاشتقاق

- ‌المبحث الثالث هل يُشترط كون المشتق حقيقة: دوام أصلهوهو: بقاء المشتق منه

- ‌الفصل الرابع في الاشتراك

- ‌المبحث الأول تعريفه

- ‌المبحث الثاني هل المشترك ممكن وثابت وواقع في اللغة

- ‌المبحث الثالث أقسام اللفظ المشترك بالنسبة لمسمياته

- ‌المبحث الرابع هل يصح استعمال المشترك في كل معانيه إذا أمكن الجمع بينها

- ‌المبحث الخامس بيان أن الاشتراك خلاف الأصل

- ‌المبحث السادس حالات اللفظ المشترك عند وجود القرينة أو عدمه

- ‌المبحث السابع الفرق بين المشترك والمتواطئ

- ‌المبحث الثامن الفرق بين المشترك والمتواطئ والمشكك

- ‌الفصل الخامس في الترادف

- ‌المبحث الأول تعريف الترادف

- ‌المبحث الثاني حكم الترادف

- ‌المبحث الثالثأسباب الترادف

- ‌المبحث الرابعشرط الترادف

- ‌المبحث الخامسبيان أن الترادف خلاف الأصل

- ‌المبحث السادس هل يجوز استعمال أحد المترادفين مكان الآخر

- ‌الفصل السادس في التأكيد والتابع

- ‌المبحث الأول في التأكيد

- ‌المطلب الأولتعريف التأكيد

- ‌المطلب الثاني الفرق بينه وبين المترادف

- ‌المطلب الثالث حكم التأكيد

- ‌المطلب الرابعأقسام التأكيد

- ‌المبحث الثاني في التابع

- ‌المطلب الأولتعريف التابع

- ‌المطلب الثانيالفرق بين التابع وبين المترادف

- ‌المطلب الثالث بيان وجه الاتفاق بين التابع والتأكيد

- ‌الفصل السابع في الحقيقة والمجاز

- ‌المبحث الأول في الحقيقة

- ‌المطلب الأولتعريف الحقيقة

- ‌المطلب الثاني أقسام الحقيقة

- ‌المبحث الثاني في المجاز

- ‌المطلب الأولفي تعريف المجاز

- ‌المطلب الثاني هل المجاز واقع في اللغة

- ‌المطلب الثالثأنواع العلاقة في المجاز

- ‌المطلب الرابعهل النقصان يعتبر من المجاز

- ‌المطلب الخامس أسباب العدول إلى المجاز

- ‌المطلب السادسبيان أن الحقيقة لا تستلزم المجاز

- ‌المطلب السابعهل المجاز يستلزم الحقيقة

- ‌المطلب الثامن اللفظ الذي يكون حقيقة ومجازاً والذي لا يكون

- ‌المطلب التاسع بيان أن المجاز خلاف الأصل

- ‌المطلب العاشر طرق معرفة الحقيقة من المجاز

- ‌المطلب الحادي عشر بيان أنه إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجازفإنه يحمل على الحقيقة

- ‌المطلب الثاني عشر بيان أنه إذا غلب المجاز في الاستعمالفإن اللفظ يحمل عليه

- ‌الفصل الثامن في تعارض ما يخل بالفهم

- ‌الفصل التاسع في النص، والظاهر، والمجمل وما يتعلق بها

- ‌المبحث الأول في النص

- ‌المطلب الأولتعريف النص

- ‌المطلب الثاني حكم إطلاق النص على الظاهر

- ‌المطلب الثالثحكم النص

- ‌المبحث الثاني في الظاهر

- ‌المطلب الأولتعريف الظاهر

- ‌المطلب الثانيحكم الظاهر

- ‌المطلب الثالث في التأويل

- ‌المبحث الثالث في المجمل

- ‌المطلب الأولتعريف المجمل

- ‌المطلب الثانيأسباب الإجمال

- ‌المطلب الثالثدخول الإجمال في الأفعال

- ‌المطلب الرابع حكم المجمل

- ‌المطلب الخامسنصوص اختلف في كونها مجملة

- ‌المطلب السادسهل يجوز بقاء المجمل بدون بيان بعد وفاة صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب السابع في المبيَّن - بفتح الياء - والمبيِّن - بكسرها - والبيان

- ‌الفصل العاشر في حروف المعاني

- ‌المبحث الأولفي " الواو

- ‌المبحث الثاني حرف " الفاء

- ‌المبحث الثالث حرف " ثُمَّ " بضم الثاء وفتح الميم مع تشديدها

- ‌المبحث الرابع حرف " أوْ " - بفتح الهمزة وتسكين الواو

- ‌المبحث الخامس حرف " الباء

- ‌المبحث السادسحرف " اللام " الجارة

- ‌المبحث السابع في حرف " في

- ‌المبحث الثامن في حرف " مِنْ

- ‌الفصل الحادي عشر في الأوامر والنواهي

- ‌المبحث الأول في الأمر

- ‌المطلب الأول في تعريف الأمر

- ‌المطلب الثاني هل تشتراط إرادة الآمر المأمور به

- ‌المطلب الثالث هل للأمر صيغة موضوعة في اللغة

- ‌المطلب الرابع هل الأمر حقيقة في الفعل

- ‌المطلب الخامس فيما تستعمل فيه صيغة الأمر - وهي: " افعل

- ‌المطلب السادس فيما تقتضيه صيغة الأمر - وهي: " افعل " - حقيقةإذا تجردت عن القرائن

- ‌المطلب السابع هل اقتضاء الفعل للوجوب ثبت عن طريق الشرعأو غير ذلك الطريق

- ‌المطلب الثامن بيان نوع القرينة التي تصرف الأمر من الوجوب إلى غيره

- ‌المطلب التاسع إذا ورد الأمر بعد النهي ماذا يقتضي

- ‌المطلب العاشر الأمر المطلق هل يقتضي فعل المأمور بهمرة واحدة أو التكرار

- ‌المطلب الحادي عشر الأمر المعلق بشرط أو صفة هل يقتضي تكرارالمأمور به بتكرار الشرط أو الصفة أو لا

- ‌المطلب الثاني عشر إذا كرر لفظ الأمر بشيء واحد مثل: " صل ركعتينصل ركعتين " فهل يقتضي التكرار

- ‌المطلب الثالث عشر الأمر المطلق هل يقتضي فعل المأمور بهعلى الفور أو لا يقتضي ذلك

- ‌المطلب الرابع عشر هل يسقط الواجب المؤقت بفوات وقته

- ‌المطلب الخامس عشر امتثال الأمر هل يحصل به الإجزاء ويسقط القضاء

- ‌المطلب السادس عشر الأمر بالأمر بالشيء هل يكونأمراً بذلك الشيء أو لا

- ‌المطلب السابع عشر هل أمر النبي صلى الله عليه وسلم المطلق أمر لأمته وأمر الأمَّة المطلق هو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمر واحد من الصحابة هو أمر لغيره

- ‌المطلب الثامن عشر تعلق الأمر بالمعدوم

- ‌المطلب التاسع عشر هل يجوز الأمر من اللَّه تعالى بما يعلم أن المكلَّفلا يتمكن من فعله

- ‌المبحث الثاني في النهي

- ‌المطلب الأول في تعريف النهي

- ‌المطلب الثاني هل للنهي صيغة موضوعة في اللغة

- ‌المطلب الثالث في ما تستعمل فيه صيغة " لا تفعل

- ‌المطلب الرابع فيما تقتضيه صيغة النهي وهي: " لا تفعل

- ‌المطلب الخامس إذا ورد النهي بعد الأمر فماذا يقتضي

- ‌المطلب السادس هل النهي يقتضي الانتهاء على الفور والتكرار

- ‌المطلب السابع أحوال المنهي عنه

- ‌المطلب الثامن هل النهي عن الشيء أمر بضده

- ‌المطلب التاسع هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه أو لا

الفصل: ‌المطلب الثالث في التأويل

‌المطلب الثالث في التأويل

ويشمل على مسائل:

المسألة الأولى: في مناسبة ذكره هنا.

المسألة الثانية: في تعريفه.

المسألة الثالثة: في أنواعه.

المسألة الرابعة: في شروط التأويل.

المسألة الخامسة: في أقسام دليل التأويل.

المسألة السادسة: حكم التأويل.

المسألة السابعة: في تطبيقات على التأويلات الصحيحة والمقبولة.

المسألة الثامنة: في تطبيقات على التأويلات الضعيفة والبعيدة.

ص: 1203

المسألة الأولى: في مناسبة ذكر التأويل هنا:

إننا قلنا في حكم الظاهر: إنه يجب العمل بالمعنى الظاهر

والراجح، ولا يجوز العمل بالمعنى المرجوح إلا بتأويل صحيح يسوغِّ

ترك المعنى الراجح والعمل بالمعنى المرجوح، وليس كل تأويل يقبل،

بل إن التأويل له تعريف خاص، وشروط وتقييدات قد ذكرها العلماء

لا بد من معرفتها لذلك عقدنا لبيان ذلك هذا المطلب.

***

المسألة الثانية: في تعريف التأويل:

أولاً: التأويل لغة مأخوذ من آل، يؤول، أي: رجع،

والتأويل آخر الأمر، وعاقبته، يقال: إلى أي شيء مآل هذا الأمر،

أي: مصيره وعقباه، ويقال: تأول فلان الآية الفلانية، أي: نظر

ما يؤول إليه معناها.

ئانيا: التأويل اصطلاحا هو: حمل اللفظ على غير مدلوله

الظاهر منه مع احتماله له بدليل يعضده.

معناه إجمالاً: أن يكون اللفظ يحتمل معنيين: معنى راجح،

ومعنى مرجوح، فثبت لدى المجتهد دليل يعضد ويقوي المعنى

المرجوح، فيحمل المجتهد اللفظ على المعنى المرجوح ويعمل بذلك،

ولا يعمل بالمعنى الذي دلَّ عليه الظاهر؛ لأنه صار مرجوحا، وهذا

هو التأويل الصحيح.

محترزات التعريف:

عبارة: " حمل اللفظ على غير مدلوله، أخرجت اللفظ الذى

يحمل على نفس مدلوله، فإن هذا لا يسمى تأويلاً.

ص: 1205

وعبارة: " الظاهر منه " أخرجت اللفظ المشترك؛ حيث إنه يحمل

على أحد معنييه، فإن هذا لا يسمى تاويلاً.

وعبارة: " مع احتماله له " أخرجت اللفظ إذا صرف عن معناه

الظاهر إلى معنى لا يحتمله أصلاً، فإن هذا لا يكون تأويلاً صحيحاً.

وعبارة: " بدليل يعضده " أخرجت اللفظ الذي صرفناه عن معناه

الظاهر إلى معنى مرجوح من غير دليل، فإن هذا لا يكون تأويلاً

صحيحاً.

***

المسألة الثالثة: في أنواعه:

يتنوع التأويل إلى ثلاثة أنواع، ويختلف الدليل باختلاف النوع.

النوع الأول: التأويل القريب، وهو: ما إذا كان المعنى المأول

إليه اللفظ قريباً جدا، فهذا يكفيه أدنى دليل.

مثاله: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، فإن القيام إلى الصلاة - في هذه الآية -

مصروف عن معناه الظاهر إلى معنى آخر قريب محتمل، وهو:

العزم على أداء الصلاة، أي: إذا عزمتم على أداء الصلاة، والذي

رجح هذا الاحتمال: أن الشارع لا يطلب الوضوء من المكلَّفين بعد

الشروع في الصلاة؛ لأن الوضوء شرط لصحتها، والشرط يوجد

قبل المشروط، وهو معنى قريب يتبادر فهمه إلى أي سامع.

النوع الثاني: التأويل البعيد، وهو ما إذا كان المعنى المأول إليه

اللفظ بعيداً جداً، فهذا يحتاج إلى دليل في غاية القوة.

مثاله: قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)

ص: 1206

فقد أول بعضهم ذلك بأن المراد مسح الرجلين بدلا من

غسلهما، وقد استدل هو على هذا التأويل بقراءة الجر في قوله:

(وأرجلكم)، وأن ذلك كان عطفا على قوله:(برءوسكم)

فقالوا ذلك نظراً إلى تلك القراءة، ولكن ما ثبت من الأحاديث

الصحيحة التي أمرت بغسل الرجلين وما ثبت في اللغة جعل هذا

التأويل بعيد جداً، وستأتي أمثلة كثيرة على التأويلات البعيدة في

المسألة الثامنة إن شاء اللَّه.

النوع الثالث: وهو ما إذا كان المعنى المأول إليه متوسطا، فهذا

يحتاج إلى دليل متوسط في القوة.

فإن قلت: ما حدود هذه الأنواع، وكيف تُعلَم؟

أقول: إن الفقيه المجتهد هو الذي يعين ذلك، فإن له دوراً وأثراً

كبيراً في اعتبار هذه المراتب، وتوضيح حدودها.

المسألة الرابعة: في شروط التأويل:

لا يقبل التأويل ويعمل به إلا إذا توفر فيه الشروط التالية:

الشرط الأول: أن يكون المتأول من أهل الاجتهاد، واشترطنا

ذلك؛ لئلا يأتي من لا علم عنده - أو عنده ولكنه لم يبلغ درجة

الاجتهاد - فيقوم بتأويل النصوص الشرعية على حسب علمه

القاصر، أو على الهوى والتشهي فيضل ويُضل.

الشرط الثاني: أن يكون المعنى الذي أول إليه اللفظ من المعاني

التي يحتملها اللفظ بأن يكون اللفظ ظاهراً فيما صرف عنه محتملاٌ لما

صرف إليه.

ص: 1207

الشرط الثالث: أن يقوم التأويل على دليل صحيح يدل دلالة

واضحة وصريحة على صرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره.

الشرط الرابع: أن يظهر المتأول ما اشترط في الثاني والثالث،

أي: أن يذكر المتأول المعنى المرجوح الذي أول إليه اللفظ، وأن يذكر

ْالدليل الذي عضد ذلك المعنى المرجوح وقواه حتى قدم على الظاهر

والراجح، وإن لم يبين ذلك كان كل ما ادعاه مجرد دعوى لا يقبل.

***

المسألة الخامسة: أقسام دليل التأويل:

لقد قلنا في الشرط الثالث: أن يقوم التأويل على دليل صحيح

يدل دلالة واضحة على صرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره، والدليل

هذا على أقسام:

القسم الأول: نص ظاهر آخر.

أي: أن الدليل الصارف عن المعنى الظاهر إلى المعنى المرجوح قد

يكون نصا آخر.

مثاله: قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) ، فإن لفظ

"الدم " عام وشامل للدم المسفوح وغير المسفوح، وهو المعنى الظاهر

من اللفظ.

ولكن صرف هذا اللفظ من ظاهره وهو العموم بنص ظاهر آخر،

وهو قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا) ، فخصصت هذه الآية

الثانية الآية الأولى، وذلك لأنها قد بيَّنت أن الدم المحرم هو الدم

المسفوح.

ص: 1208

القسم الثاني: القرينة، أي: أن الدليل الصارف عن المعنى

الظاهر إلى المعنى المرجوح قد يكون قرينة.

والقرينة نوعان:

النوع الأول: قرينة منفصلة مثل: المسلم من أهل الجهاد لو جاء

بمشرك، فادَّعى المشرك أنه أمنه، وأنكر المسلم ذلك وادعى بأنه

أسره، فهل يقبل قول المسلم أو الكافر؟

اختلف في ذلك:

فقيل: إنه يقبل قول المسلم على كل حال.

وقيل: إنه لا يقبل إلا ببينة.

والصحيح: أن القول هو قول من ظاهر الحال صدقه، فإن كان

الكافر أظهر قوة وبطشا وفروسية وإقداما من المسلم، فإنه يقبل قوله؛

لأن هذه الصفات قرينة جعلتنا نقدم قوله، مع أن قول المسلم أرجح

لعدالته وإسلامه، وقول الكافر مرجوح، لكن هذه القرينة المنفصلة

- وهي الصفات التي اتصف بها الكافر - عضدت قول الكافر حتى

صار أقوى من قول المسلم الراجح.

النوع الثاني: القرينة المتصلة بالظاهر المراد تأويله مثل: قول

الإمام الشافعي: إن الواهب لا يحرم عليه الرجوع فيما وهب

مستدلاً بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:

"العائد في هبته كالكلب يقيء، ثم يعود في قيئه "،

حيث إن الكلب لم يحرم عليه الرجوع في قيئه،

فالظاهر أن الواهب إذا رجع مثله في عدم التحريم؛ لأن الظاهر من

التشبيه استواء المشبه والمشبه به من كل وجه مع احتمال أن يفترقا من

بعض الوجوه احتمالاً قوياً.

فحينئذ ضعف جانب من قال بعدم جواز رجوع الواهب فيما

ص: 1209

وهب - كالإمام أحمد - لأنه لم يبق معه إلا احتمال ضعيف قواه

بالقرينة المتصلة بالنص الظاهر، وهي قوله - في أول الحديث -:

"ليس لنا مثل السوء.. العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في

قيئه "، وهو دليل قوي، وجعل ذلك مقدما على المثل المذكور،

وهو دليل الاهتمام به، فأفاد ذلك لغة وعرفا: أن الرجوع في الهبة

مثل السوء، وقد نفأه صاحب الشرع، وما نفاه صاحب الشرع

يحرم إثباته، فلزم من ذلك عدم جواز الرجوع في الهبة.

القسم الثالث: القياس الصحيح الراجح، أي: أن الدليل

الصارف عن المعنى الظاهر إلى المعنى المرجوح قد يكون قياسا راجحا

مثل: أن الشارع ذكر في كفارة الظهار والصيام " الإطعام "، ولكنه

لم يذكر تلك الكفارة في " القتل الخطأ "، وترك ذلك ظاهر في

عدم وجوبه؛ لأنه لو كان واجبا لذكره، كما ذكر تحرير الرقبة،

والصيام، ويمكن إثبات الإطعام في كفارة القتل الخطأ؛ قياسا على

إثباته في كفارة الظهار والصيام، والجامع: أن الكفارات حقوق لله

تعالى، وحكم الامتثال واحد، فثبوت الإطعام في تلك الكفارات

تنبيه على إثباته في كفارة القتل، هذا على مذهب من يرى جواز

القياس في الكفارات، وذكرت ذلك مفصلاً في كتابي " إثبات

العقوبات بالقياس ".

القسم الرابع: حكمة التشريع، أي: أن الدليل الصارف عن

المعنى الظاهر إلى المعنى المرجوح قد يكون حكمة التشريع والمقاصد

الشرعية مثل: قوله صلى الله عليه وسلم:

"في سائمة الغنم في كل أربعين شاة شاة"،

فإن ظاهر هذا: أنه لا يجزئ عن الأربعين شاة إلا إخراج

شاة بعينها، ولكن جمهور الحنفية قد أولو ذلك، وقالوا: يجوز

إخراج قيمة الشاة ويجزئ ذلك، وعللوا ذلك بقولهم: إن حكمة

ص: 1210

التشريع نفع الفقير، ونفع الفقير يتحقق بالقيمة، بل قد تكون القيمة

أنفع للفقير من إعطائه عين الشاة.

***

المسألة السادسة: حكم التأويل:

التأويل مقبول معمول به إذا تحقق مع شروطه، ولم يزل العلماء

في كل عصر من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى زماننا هذا

عاملين به من غير أن ينكر عليهم أحد.

***

المسألة السابعة: تطبيقات على التأويلات الصحيحة والمقبولة:

أمثلة ذلك كثيرة تكاد لا تحصى، ومنها:

المثال الأول: قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم)، فقد أوله العلماء إلى أن المراد: العزم على أداء

الصلاة، وقد سبق بيانه.

المثال الثاني: قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ والدم) ، فقد

أوله العلماء إلى أن المراد: الدم المسفوح فقط هو المحرم، وقد سبق

بيانه.

المثال الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم:

"يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود "،

فقد أوله جمهور العلماء إلى أن مرور هذه المذكورات لا تبطل الصلاة،

وقالوا: إن المراد بالقطع - هنا - نقص الصلاة

لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد إبطالها، أي: أن المراد

بالقطع عن الخشوع والذكر للشغل بها والالتفات إليها، لا أنها تفسد

الصلاة، ومن الأدلة على هذا التأويل: أن ابن عباس - وهو أحد

ص: 1211

رواة أحاديث قطع الصلاة بذلك - روي عنه أنه حمل ذلك على

الكراهة.

المثال الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم:

"إذا كفَّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما "،

فقد أوَّله كثير من العلماء على أن معناه: أنه رجعت

عليه نقيصته لأخيه، ومعصية تكفيره، فليس المراد ظاهره وهو: أنه

يكفر؛ ودليل ذلك: أنه لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنا،

وكذا قوله لأخيه: يا كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام.

المثال الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم:

" لا يدخل الجنة نمام "،

فقد تأوله كثير من العلماء إلى أن المراد: لا يدخل الجنة دخول الفائزين.

المسألة الثامنة: تطبيقات على التأويلات البعيدة والفاسد والضعيفة:

إن التأويل يختلف باختلاف المجتهدين، فقد يقوم مجتهد بتأويل

بعض النصوص ويصرفه عن معناه الظاهر إلى معنى له مرجوح،

ولكن تأويل هذا المجتهد، وإن كان ممكناً ومحتملاً فقد تجتمع قرائن

تدل على فساده، وإليك أمثلة على ذلك:

المثال الأول: قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) .

فإن بعض الحنفية قد أولوا هذا إلى أن الخمس يعطى القريب

المحتاج، وعلى ذلك فإنه يحرم من ليس بمحتاج من ذوي القربى.

وهذا التأويل بعيد جداً؛ لأن الآية ظاهرة في إضافة الخمس إلى

كل ذوي القربى بلام التمليك، فهم يستحقون الخمس بالقرابة فقط،

ص: 1212

فتكون علَّة الاستحقاق هى: القرابة فقط؛ حيث إنها مناسبة

للاستحقاق إظهاراً لشرفها، فتخصيص المأوِّل أن المستحق هو:

القريب المحتاج هذا تخصيص للعموم بلا دليل، وفيه ترك لما ظهر

من كون القرابة هي العِلَّة في الاستحقاق، ووضع الحاجة المسكوت

عنها علَّة، وهذا بعيد جَداً.

المثال الثاني: قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى

الكعبين) ، فقد أول بعضهم ذلك بأن المراد مسح الرجلين بدلاً من

غسلهما، محتجاً بقراءة الجر في قوله:(وأرجلِكم) نظراً لكونه

معطوفاً على قوله: (برءوسكم) ، وهذا تأويل بعيد كما بيناه فيما

سبق - في النوع الثاني من أنواع التأويل -.

المثال الثالث: قول النبي صلى الله عليه وسلم لغيلان بن سلمة الثقفي - حيث أسلم على عشرة نسوة -:

" امسك أربعا وفارق من سواهن ".

فقد أوَّل الحنفية ذلك بأن المراد: ابتدئ زواج أربع منهن إن كان

الزواج بعقد واحد، وفارق سائرهن بأن لا تبتدئ العقد عليهن،

وأمسك الأوائل منهن إن كان الزواج مرتبا بعقد لكل منهن، وفارق

سائرهن، أي: الأواخر، فيكون الحكم عند الحنفية على هذا

التأويل: أنه إن نكحهن معاً فليس له إمساك واحدة منهن، وإن

نكحهن متفرقات: فإنه يمسك أربعا من الأوائل، ودليلهم على هذا

التأويل: القياس؛ حيث قاسوا العقد على النسوة قبل الإسلام على

العقد عليهن بعد الإسلام، وأنه ليس بعض النسوة أوْلى بالإمساك من

بعض.

وهذا التأويل بعيد جداً؛ لأن الحديث ظاهر في استدامه النكاح

للأربع بدون عقد مطلقاً، ويتمسك بهذا الظاهر؛ حيث وجدت

وجوه تدل على هذا الظاهر، وهي كما يلي:

ص: 1213

الوجه الأول: أن المتبادر إلى الفهم من لفظ " الإمساك " إنما هو

استدامة عقد النكاح والاستمرار عليه، دون التجديد.

الوجه الثاني: أن الشارع قد فوَّض الإمساك والفراق إلى خيرة

الزوج، مما يدل على أن المراد الاستمرار في النكاح على ما هو

عليه، فلو كان المراد هو: ابتداء النكاح - كما قالوا - لما جعل

الاختيار كله لغيلان، لوقوع الفراق بنفس الإسلام، وتوقف النكاح

على رضا الزوجة.

الوجه الثالث: أن الظاهر من الزوج المأمور إنما هو امتثال أمر

النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك، ولم ينقل أحد من الرواة تجديد النكاح في الصورة المذكورة.

الوجه الرابع: أنه لو كان المراد هو: ابتداء النكاح - كما قالوا -

لذكر شروط النكاح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤخر البيان - عن وقت الحاجة؛ حيث إن غيلان جديد عهد بالإسلام في هذه القصة، فهو بحاجة إلى بيان شروط النكاح، وما يجوز وما لا يجوز فيه لا سيما في أمر

فيه استحلال فروج، وضبط للأنساب، ولكنه لم يذكر شيئاً من

ذلك، مما يدل على أن المراد هو ما دلَّ عليه ظاهر الحديث وهو:

استدامة النكاح.

فصار التمسك بظاهر الحديث - بعد توفر تلك الأوجه - أقوى من

التمسك بالتأويل المستدل عليه بالقياس الذي ذكره الحنفية.

المثال الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم

" لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل "،

فالظاهر من هذا: اشتراط النية لجميع أنواع الصوم: وهي

صيام الفرض، وصيام القضاء، وصيام النذر، وصيام الكفارة،

وصيام التطوع إلا أن صيام التطوع خرج بحديث عائشة رضي الله عنها حيث قالت:

ص: 1214

دخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: " هل عندكم من شيء؟ "

فقلنا: لا، فقال:" فإني إذن صائم "، ثم أتانا يوما آخر فقلنا:

يا رسول اللَّه، أهدي إلينا حيس، فقال: " أرنيه فقد أصبحت

صائماً " فأكل، فلا تشترط النية - لذلك - لصيام التطوع، هذا ما

ذهب إليه جمهور العلماء.

ولكن الحنفية أولوا ذلك وقالوا: إن المراد هو: اشتراط النية

لصوم قضاء رمضان، وصوم النذر المطلق، وصوم الكفارة؛ نظراً

لكونها غير متعينة، فتحتاج إلى نية تعين ذلك، أما الصوم المعين

- كصوم رمضان والنذر المعين، فلا تشترط فيه النية؛ لوجود التعيين.

وهذا التأويل بعيد جداً؛ لوجوه:

الأول: أنه ورد في الحديث صيغة عموم وهي: النكرة في سياق

النفي، حيث قال:" لا صيام "، فهي عامة لكل صيام، وعلى

هذا لا يخرج من ذلك إلا ما قام الدليل على إخراجه كصيام التطوع.

الثاني: أن المتبادر من لفظ " صيام "، إنما هو الصيام الأصلي

المتخاطب به في اللغات وهو الفرض، دون ما كان وجوبه بعارض

ووقوعه نادر، وهو القضاء والنذر المطلق.

الثالث: أن حمل ذلك على صيام القضاء، والنذر المطلق وهو

نادر، وإخراج الأصل الغالب يعتبر إلغازاً في القول، ولهذا فإن

السيد لو قال لعبده: " من دخل داري من أقاربي فأكرمه "، ثم

أكرم العبد جميع أقاربه، فلامه السيد، وقال: إنما أردت أقاربي من

النسب، دون أقاربي من السبب، فإن هذا اللوم لا يقبل، ويكون

تصرف العبد موافقاً للغة، فيكون كلام السيد منكراً مستبعداً.

المثال الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم:

"أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل ".

ص: 1215

فالظاهر من هذا النص هو: اشتراط الولي في النكاح مطلقا،

وهو مذهب جمهور العلماء.

ولكن الحنفية - وهم القائلون: إنه لا يشترط ذلك، فالمرأة تزوج

نفسها - قد أوَّلوا هذا الحديث بأن المراد بالمرأة هنا: هي الأمة؛

حيث إنه لا يجوز لها أن تزوج نفسها، بل أمرها بيد سيدها.

فقيل لهم: إنه ورد في آخر الحديث عبارة: " فلها المهر بما

استحل من فرجها "، فهذه العبارة تبطل هذا التأويل؛ لأنه معلوم

أن الأَمَة لا تملك شيئاً؛ لأنها وما تملك لسيدها.

فقالوا: إذن يُحمل الحديث على المرأة المكاتبة - وهي التي اشترت

نفسها من سيدها - وقالوا ذلك لأن المكاتبة فيها شوبا من الحرية،

فيكون مهرها لها كالحرة، وشوبا من الرق فلا تستقل بتزويج نفسها.

وهذا التأويل بعيد وضعيف جداً للأوجه التالية:

الوجه الأول: أن الحديث ورد فيه صيغة من صيغ العموم المتفق

عليها، وهي:" أي " المؤكدة بـ " ما " مما يجعل العموم قويا،

فيكون الولي مشترطا في النكاح في جميع نساء العالم - وهو

الظاهر -، فكيف يحمل هذا العموم على النادر والشاذ من النساء،

وهي المكاتبة؟!

الوجه الثاني: أنه لم ينقل ألينا أن الصحابة أو واحداً منهم، فهم

من هذا الحديث أن المقصود: المكاتبة فقط، ولو نقل لبلغنا، ولكن

لم يصلنا شيء من ذلك مما يجعلنا نقطع بأن هذا الفهم شاذ.

الوجه الثالث: أن فهم اشتراط الولي لجميع النساء من هذا

الحديث هو الموافق للغة العربية، أما فهم أن المراد من هذا الحديث

ص: 1216

هي: المكاتبة فقط، فهو فهم شاذ، ويوصف هذا بالجهل باللغة

العربية.

فلو قال رجل لغيره: " أيما امرأة رأيتها اليوم فأعطها درهما "،

فإن كل أحد يفهم أن المراد جميع النساء بدون استثناء، ولا يفهم أن

المراد هي: المكاتبة فقط.

ولو قال المتكلم: " أردت بذلك الكلام المكاتبة " لنسب إلى

الجهل باللغة العربية، وأنه اصطلح على ذلك بنفسه دون غيره.

ولو أخرج المكاتبة عن ذلك، فلما سئل عن ذلك قال: " ما

خطرت ببالي " لا يمكن أن ينكر عليه أحد، نظراً لشذوذها؛ لأن

العادة اقتضت ألا تخطر الشواذ ببال الإنسان.

فهذه الأوجه دلَّت على أن الحديث يحمل على ظاهره وهو:

اشتراط الولي في النكاح في جميع نساء العالم دون تخصيص، وأن

من أوَّل الحديث إلى غير ذلك فتأويله فاسد.

ص: 1217