الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس
نصوص اختلف في كونها مجملة
النص الأول: قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم)
اختلف فيه على مذهبين:
المذهب الأول: أن هذا النص لا إجمال فيه، وهو مذهب
جمهور العلماء.
واختلف أصحاب هذا المذهب هل هو ظاهر في مسح جميع
الرأس أو مسح بعضه؛ على قولين:
فقيل: إن هذا النص ظاهر في مسح بعض الرأس، وهو مذهب
كثير من العلماء.
وهو الحق؛ لأن الباء في اللغة أصل في الإلصاق، وعرف
الاستعمال قد اقتضى إلصاق المسح باللمس فقط مع قطع النظر عن
الكل والبعض، ولهذا لو قال قائل لغيره:" امسح يدك بالمنديل "
لا يفهم أحد من أهل اللغة أنه أوجب عليه إلصاق يده بجميع
المنديل، بل إن شاء بكله، وإن شاء ببعضه، فيخرج عن العهدة إذا
فعل أحدهما.
وقيل: إن هذا النص ظاهر في مسح جميع الرأس، وهو مذهب
بعض العلماء.
دليل هذا القول:
أن الباء في اللغة أصل في الإلصاق، وقد دخلت على المسح
وقرنته بالرأس، واسم الرأس حقيقة في كله، لا بعضه، ولهذا لا
يقال لبعض الرأس رأس فاقتضى ذلك مسح جميعه لغة.
جوابه:
إن هذا وإن كان هو الحق بالنظر إلى أصل وضع اللغة غير أن
عرف الاستعمال الذي ذكرناه في دليلنا قد طرأ على الوضع اللغوي
وخصصه.
المذهب الثاني: أن هذا النص مجمل، وهو مذهب جمهور
الحنفية.
دليل هذا المذهب:
أنه يتطرق إليه احتمالان وهما: " احتمال مسح جميع الرأس ".
وثانيهما: " احتمال مسح بعضه "، وليس أحدهما بأوْلى من
الآخر، فكان مجملاً.
جوابه:
إن القول بالإجمال لا وجه له؛ لأننا إن نظرنا إلى عرف
الاستعمال فهو ظاهر في مسح بعض الرأس وهو الحق - كما قلنا -
وإن نظرنا إلى الوضع اللغوي الأصلي فهو ظاهر في مسح جميع
الرأس.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي، حيث إنه على المذهب الأول - وهو أنه لا
إجمال فيه - يجوز العمل بما يقتضيه النص حال سماعنا له، أما
على المذهب الثاني فلا يجوز العمل به، إلا إذا دلَّت قرينة على أن
أحد المعنيين هو الصحيح.
النص الثاني: قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) ،
و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)، وقوله:(أحل لكم الطيبات) ، وما
شابه تلك الآيات قد اختلف العلماء فيها، هل فيها إجمال؛ على
مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا إجمال فيها، بل هي مبينة، وهذا يقال في
كل تحريم أو تحليل يضاف إلى الأعيان مثل تلك الآيات السابقة.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي، لما ثبت من
عرف أهل اللغة من أن تحريم أو تحليل كل عين فإنه ينظر فيها إلى ما
هي معدة له، بيان ذلك:
أنه لو قال قائل: " حرمت عليك هذا الطعام " أو " حرمت
عليك هذه الجارية "، فإنه لا يتبادر إلى فهم أي عارف باللغة إلا
تحريم الأكل، وتحريم الوطء - فقط - والأصل في كل ما يتبادر إلى
الفهم أن يكون حقيقة إما بالوضع الأصلي، أو بعرف الاستعمال،
والإجمال ينتفي بكل واحد منهما، ولهذا فإن الإجمال منتف عند
قول القائل: " رأيت دابة "؛ لأن المتبادر إلى الفهم منه ذوات الأربع
بعرف الاستعمال، وإن كان على خلاف الوضع الأصلي.
المذهب الثاني: أن فيها إجمال.
وهو مذهب بعض الحنفية كأبي الحسن الكرخي، وبعض
الشافعية، وبعض الحنابلة كأبي يعلى.
دليل هذا المذهب:
أن الأعيان لا تتصف بالتحريم - مثلاً -، وإنما يحرم فعل ما
يتعلق بالعين، أي: أن تحريم الأعيان لا يصح، وإنما الذي يحرم
أفعالنا في العين، وليس لأفعالنا ذكر في اللفظ، فلا نعلم ما هو
المحرم على الحقيقة في الآيتين السابقتين؛ أهو وطء الأم، أو
اللمس، أو النظر إليها؛ ولا نعلم ما هو المحرم من الميتة أهو الأكل،
أو اللمس، أو النظر، أو البيع؛ فلا نعلم - حقيقة - المراد من
التحريم والاحتمالات متعددة ومتساوية عند السامع، ولا بد من تقدير
فعل، وليس بعضها أوْلى من بعض، ولا مرجح لأحدها فكان
اللفظ مجملاً.
جوابه:
إن القول بالإجمال لا وجه له؛ لأن عرف الاستعمال دلَّنا على أن
المراد من تحريم الميتة هو الأكل، والمراد من تحريم الأم هو وطئها،
فيكون هو المتبادر إلى الذهن؛ لما قلناه في الاستدلال من أن أهل
اللغة قد تعارفوا على أن تحريم أو تحليل كل عين ينظر فيها إلى ما هي
معدة له.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي، وتعليل ذلك قد سبق في النص الأول.
النص الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم:
"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان "
قد اختلف العلماء هل فيه إجمال أو لا؛ على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا إجمال فيه، بل هو مبين، حيث إن المراد
به: رفع حكم الخطأ، ورفع حكم النسيان.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الصواب؛ لأنه إما أن يحمل
على رفع صورة الخطأ وصورة النسيان وحقيقتهما، أو يحمل على
رفع حكم الخطأ وحكم النسيان، ولا يمكن حمله على غيرهما.
أما الأول - وهو حمل اللفظ على رفع صورة الخطأ والنسيان
وحقيقتهما - فهو ظاهر البطلان؛ حيث إن صورتهما وحقيقتهما
واقعتان كثيراً من الناس، فلو قلنا بأن صورتهما مرتفعتان للزم من
ذلك مخالفة الواقع، ويكون - حينئذ - كذبا، والرسول صلى الله عليه وسلم ينزه ويجل من أن يتكلم بكلام يخالف الواقع.
فإذا ثبت بطلان الأول ثبت الثاني وهو: أنه يُحمل الحديث على
نفي ورفع حكم الخطأ وحكم النسيان، لا نفي ورفع صورتهما.
المذهب الثاني: أن في هذا النص إجمالاً.
وهو مذهب أبي الحسين البصري، وأبي عبد اللَّه البصري.
دليل هذا المذهب:
أن المراد نفي حكم الخطأ والنسبان، وعند ذلك فإما أن يضمر نفي
جميع أحكام النسيان، والخطأ، أو بعضها.
والأول - وهو نفي جميع الأحكام - لا يمكن؛ لأن الإضمار
على خلاف الأصل، وإنما يصار إليه لدفع الضرورة اللازمة من
تعطيل العمل باللفظ، فيجب الاقتصار فيه على أقل ما تندفع به
الضرورة، وهو بعض الأحكام، ثم إن ذلك الحكم المضمر لا يمكن
القوِل بتعيينه؛ لعدم دلالة اللفظ عليه، فلم يبق إلا أن يكون غير
معين، وإذا كان كذلك فهو مجمل.
جوابه:
لا نسلم إضمار نفي جميع الأحكام في الحديث، بل نفي بعض
الأحكام، بيانه:
أن الحديث ليس بعام في جميع أحكامه من ضمان المتلفات،
ولزوم قضاء العبادة وغير ذلك، بل هو خاص فى نفي ورفع المؤاخذة
والعقاب، وهذا أخذناه من عرف الاستعمال عند أهل اللغة؛ فإنه لو
قال. السيد لعبده: " رفعت عنك الخطأ والنسيان "، فإن العارف
باللغة عند سماعه بذلك لا يتردد في أن مراده من ذلك: رفع
المؤاخذة والعقاب.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي، وتعليل ذلك هو ما ذكرناه في بيان نوع
الخلاف في النص الأول.
مسألة: خلاف الجمهور هل الحكم - في الحديث السابق - عام
وشامل أو هو خاص؛ على قولين:
القول الأول: أن الحكم المرفوع والمنفي في الحديث هو حكم
خاص، وهو: الإثم والمؤاخذة - فقط -، وليس المراد هو نفي
جميع أحكام الخطأ والنسيان، فلا يدخل ضمان المتلفات، ولا
يدخل قضاء العبادات.
قال بذلك كثير من المحققين منهم الغزالي، والآمدي.
وهو الحق عندي؛ لأن الحكم المرفوع ليس على إطلاقه، بل
الحكم الذي عرف بعرف الاستعمال قبل ورود الشرع إرادته بهذا
اللفظ؛ حيث إن العارف بعرف أهل اللغة قبل ورود الشرع لا
يتشكك ولا يتردد عند سماعه قول "لسيد لعبده: (رفعت عنك الخطأ
والنسيان " في أن مراده من ذلك: رفع المؤاخذة والعقاب، فكذلك
هذا الحديث - وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان "،
فإن العارف بعرف أهل اللغة عند سماعه لذلك، فإنه لا يتردد في أن
مراده: رفع المؤاخذة والعقاب؛ قياسا على قوله تعالى:
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)، وقوله تعالى:(حرمت عليكم أمهاتكم) ، فإنا
لم نجعل ذلك عاما، بل إن المحرم في الآية الأولى: الأكل فقط،
والمحرم في الآية الثانية: الوطء فقط، وهذا أخذناه من عرف
الاستعمال - كما سبق - مع أنه لا بد من إضمار فعل في الآيتين،
فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان "
لا بد من إضمار حكم يضاف الرفع إليه كالفعل، ثم ينزل على ما يقتضيه
عرف الاستعمال قبل الشرع وهو: المؤاخذة والعقاب.
اعتراض على ذلك:
قال معترض: إن المرفوع - كما أقررتم - هو حكم خاص وهو:
الإثم والعقاب، فيلزم على هذا رفع دخول ضمان المتلفات فليرتفع؛
لأنه يُعتبر من جملة المؤاخذات والعقوبات.
جوابه:
يمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: إنا لا نُسَلِّمُ أن الضمان من حيث هو ضمان
عقوبة، ولهذا يجب في مال الصبي والمجنون، وهما ليسا أهلاً
للعقوبة، وكذلك يجب الضمان على المضطر في المخمصة إذا ممل
مال غيره، مع أن الأكل واجب عليه حفظا لنفسه، والواجب لا
عقوبة على فعله، وكذلك يجب الضمان على من رمى إلى صف
الكفار فأصاب مسلما مع أنه مأمور بالرمي، وهو مثاب عليه.
الجواب الثاني: نسلم لكم أن الضمان عقاب، لكن عموم اللفظ
قد خصص بعرف الاستعمال على نفي عقاب خاص وهو: نفي
الإثم وعقاب الآخرة، وذلك أقرب الى الصواب من القول
بالعموم.
القول الثاني: أن الحكم المرفوع والمنفي في الحديث هو: جميع
أحكام الخطأ والنسيان، وهذا شامل للإثم، والعقاب، والضمان،
والقضاء، وهو قول بعض الشافعية كفخر الدين الرازي، وبعض
الحنابلة كأبي الخطاب، وابن قدامة.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه لا بد من تقدير لفظ " حكم " في الحديث،
فتكون العبارة - بعد التقدير -: " رفع عن أمتي حكم الخطأ
والنسيان "، فيكون اسم منكر أضيف إلى معرفة وهو: " حكم
الخطأ "، وهذه صيغة من صيغ العموم، وهذا يقتضي رفع جميع
أحكام الخطأ والنسيان، فيترتب على ذلك: أن من ترك عبادة خطأ
أو نسيانا، أو إكراها لا يأثم بتركها ولا يعاقب، ولا يلزم قضاؤها،
ومن أتلف خطأ، أو نسيانا لا يأثم بذلك ولا يضمنه.
جوابه:
أنا نوافقكم على أن عبارة: " حكم الخطأ والنسيان " تفيد العموم
لوجود صيغة من صيغ العموم، ولكن هذا العموم قد خُصص
بعرف استعمال أهل اللغة، حيث إن العارف بعرف أهل اللغة
يخصصه برفع الإثم والعقاب، والعرف من المخصصات المعروفة،
وقد سبق بيان ذلك.
الدليل الثاني: أن الشارع لو أراد نفي ورفع المؤاخذة والعقاب
والإثم فقط، لترتب على ذلك إبطال فائدة تخصيص الأُمَّة بالرفع
والنفي الوارد في الحديث؛ حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان "،
فقوله: " عن أمتي " يقتضي اختصاصها بهذه الرخصة، أي: أنا لو قلنا: إن النفي والرفع حكم مختص
بالإثم - فقط - فإنه لا يكون لهذه الأُمَّة مزية تميزت لها من غيرهما
في ذلك؛ لأن الناسي غير مكلف في الشرائع السابقة، فثبت: أن
المرفوع: الإثم، والضمان، ونحوهما.
جوابه:
أنا لا نُسَلِّمُ هذا، حيث إن الأُمَّة الإسلامية قد تميزت واختصت
بعفو الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، وإسقاط الإثم والعقوبة
عن ذلك كله، وهذه الميزة لا توجد في الأمم السابقة، ويدل على
ذلك ما يلي:
الأول: هذا الحديث، حيث إن ورود قوله:" عن أمتي " يفيد
أن غيرها ليست كذلك.
الثاني: أن قوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) ،
وقوله تعالى: " قد فعلت " في الحديث القدسي، يدل دلالة
واضحة على أن المؤاخذة بالخطأ والنسيان كانت معهودة على من قبلنا،
لأنه لو كانت المؤاخذة مرفوعة عن كل أحد لما دعت ضرورة إلى
ذلك الدعاء، وإظهار الكرامة بالإجابة بقوله سبحانه:" قد فعلت "
فظاهر الامتنان أنه خاص بنا.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي قد أثر في بعض الفروع؛ حيث إنه يترتب
على القول الأول - وهو: أن الحكم المرفوع خاص وهو: المؤاخذة
والعقاب فقط - أن الناسي والمخطئ يضمن ما أتلفه من أملاك
الآخرين، ويقضي ما فاته من العبادات.
أما على القول الثاني - وهو: أن الحكم المرفوع عام لجميع
أحكام الخطأ والنسيان - فإن الناسي، والمخطئ لا يضمن ما أتلفه من
أملاك الآخرين، ولا يلزمه قضاء الفوائت من العبادات.
النص الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم:
" لا صلاة إلا بطهور "، و " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "،
و" لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل "،
و" لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل "، و " لا وضوء لمن لم يذكر
اسم اللَّه عليه "، ونحو ذلك،
قد اختلف في ذلك هل فيه إجمال أو لا؛ على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا إجمال في هذه النصوص وما شابهها.
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الحق عندي؛ لأنه إما أن يكون للشارع في هذه الأسماء
عرف، أو لا.
فإن كان الأول - وهو: أن الشارع له في هذه الأسماء عرف -
فإنه يجب تنزيل كلام الشارع على عرفه، فيكون لفظه منزلا على
نفي الحقيقة الشرعية، وهذا لا إجمال فيه؛ لأن نفي الحقيقة الشرعية
ممكن، وإن كان مسمى هذه الأمور بالوضع اللغوي غير منفي، فإذا
جاءنا مثل هذه الأسماء - كالصوم، والصلاة، والوضوء،
والنكاح - فإنه يجب حملها على حقيقتها الشرعية، فإذا اختل ركن
أو شرط فإله يصح نفيه حقيقة؛ لأن الشرعي هو التام الأركان
والشروط، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته:
" ارجع فصل فإنك لم تصل "،
وإذا كانت الحقيقة هي المراد نفيها فلا يحتاج نفيها
لإضمار حكم، فلا إجمال.
وإن كان الثاني - وهو: أنه لا عرف للشارع في هذه الأسماء -
فإنها تنزل على الوضع اللغوي، وحينئذٍ لا إجمال فيها أيضا؛ لأن
اللفظ ظاهر بعرف استعمال أهل اللغة قبل ورود الشرع في مثل هذه
الأسماء والألفاظ بأن المتبادر إلى الفهم من نفي كل فعل كان متحقق
الوجود، إنما هو نفي فائدته وجدواه ومنفعته، ومن ذلك قولهم:
"لا علم إلا ما نفع "، و " لا كلام إلا ما أفاد "، و " لا حكم إلا
لله "، و " لا بلد إلا بسلطان "، فيقال ذلك وإن كان العلم غير النافع
يُسمى علماً، والكلام غير المفيد يُسمى كلاماً، والحكم لغير الله
يسمى حكماً، والبلد بغير سلطان يسمى بلداً، لكن نفي ذلك - في
الأمثلة السابقة - لعدم فائدة العلم غير النافع، ولعدم فائدة الكلام،
ولعدم صحة الحكم لغير اللَّه، ولعدم فائدة البلد بدون سلطان؛
حيث إنه لا فائدة من الحياة فيه.
فكذلك هنا يحمل النفي في قوله: " لا صلاة إلا بطهور " على
نفي الصحة؛ لانتفاء فائدة الصلاة بغير طهور.
فالصلاة بلا طهور، والنكاح بلا ولي، والصلاة بدون فاتحة
الكتاب، ونحو ذلك لا تفيد شيئاً، فانتفت صحتها، نظراً لانتفاء
فائدتها.
يؤيد ذلك: أن هذا هو الظاهر؛ لأنه أقرب إلى موافقة دلالة
اللفظ على النفي، لأنه إذا قال:" لا صلاة إلا بكذا " مثلاً، فقد
دلَّ بدلالة المطابقة على نفي أصل الفعل، ودلَّ على صفته - وهي
الصحة - بدلالة الالتزام، فإذا تعذر العمل بدلالة المطابقة تعين
العمل بدلالة الالتزام، تقليلاً لمخالفة الدليل.
المذهب الثاني: أن هذه النصوص مجملة.
وهو مذهب كثير من الحنفية، واختاره القاضي أبو بكر، وأبو
عبد اللَّه البصري، وأكثر المعتزلة.
دليل هذا المذهب:
أنه لا يمكن حمل هذا اللفظ على نفي صورة الفعل، وهو
الصلاة، والصوم، والنكاح، وغير ذلك - مما ورد في الأحاديث
السابقة - وذلك لأن صورة الصلاة مثلاً يمكن إيجادها بغير طهور
كصلاة المحدث، كذلك صورة النكاح والصوم والوضوء يمكن
إيجادها بدون توفر شرطها، فلو نفي ذلك لكان خلفا.
فتعين أن المراد بالنفي هنا: نفي الحكم، أي: نفي حكم الصلاة،
ونفي حكم الصوم، ونفي حكم النكاح، وهكذا.
والحكم متعدد ومتنوع إلى أنواع هي: " الصحة "، و " الإجزاء"،
و" الكمال "، فلا نعلم هل المراد: لا صلاة صحيحة، أو لا صلاة
مجزئة، أو لا صلاة كاملة، وهي متساوية عندنا، فلا حكم بأوْلى
من حكم، ولا مرجح لأحدها، فيكون اللفظ متردداً بينهما
بالتساوي، فيكون مجملاً.
جوابه:
أنا لا نُسَلِّمُ وجود إجمال في تلك النصوص؛ لأنا إن نظرنا إلى
عرف الشارع في هذه الأسماء، فهو ظاهر في نفي الحقيقة الشرعية،
وهو ممكن - كما قلنا سابقا -.
وإن نظرنا إلى الوضع اللغوي فهو ظاهر في نفي الفائدة والجدوى
والمنفعة، وذلك بسبب عرف استعمال أهل اللغة قبل ورود الشرع،
فيكون المراد هو: نفي الصحة.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي، وتعليل دلك هو ما ذكرناه في بيان نوع الخلاف
في النص الأول.
النص الخامس: قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) .
اختلف فيه هل فيه إجمال أو لا؛ على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا إجمال فيه لا من جهة " اليد "، ولا من
جهة "القطع ".
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن لفظ " اليد " تطلق على الكل حقيقة،
ويذكر لفظ " اليد " للبعض عن طريق المجاز، وعلى هذا: لا تكون
دلالة " اليد " على الكل مساوية لدلالتها على البعض.
وكذلك لفظ " القطع " يطلق حقيقة على إبانة الشيء عما كان
متصلاً به، فإذا أضيف القطع إلى " اليد "، وكان مسمى اليد حقيقة
في جملتها إلى الكوع، فإنه يجب حمله على إبانة مسمى " اليد "
وهو جملتها، وحيث أطلق قطع اليد عند إبانة بعض أجزائها عن
بعض لا يكون حقيقة، بل تجوزاً.
المذهب الثاني: أن هذا النص فيه إجمال، حيث إن لفظ " اليد "
ولفظ " القطع " قد دخلهما الإجمال، وهو مذهب بعض الحنفية.
دليل هذا المذهب:
قالوا في بيان الإجمال في هذين اللفظين: إن لفظ " اليد " يطلق
على كل اليد إلى المنكب، ويطلق على اليد إلى المرفق، ويطلق
على اليد إلى الكوع، وليس أحد هذه الاحتمالات أظهر من الآخر،
فكان لفظ " اليد " مجملاً.
وكذلك لفظ " القطع " يطلق على إبانة العضو من العضو، وعلى
شق الجلد من العضو بالجرح من غير إبانة للعضو، فكان لفظ
"القطع "مجملاً.
جوابه:
أنا قد بيَّنَّا أن إطلاق لفظ " اليد " على كل اليد إلى المنكب هو
الإطلاق الحقيقي وهو الأصل، أما إطلاق اليد على بعض اليد فهو
إطلاق مجازي، وهو "خلاف الأصل.
أما القطع فإنه يطلق على " الإبانة " حقيقة، وإطلاق القطع على
الشق إطلاق مجازي؛ لأن مجرد شق الجلد لا يحقق القطع المعروف
وهو فصل عضو عن عضو.