الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع في هل يجري القياس في اللغة
؟
تحرير محل النزاع:
أولاً: أسماء الأعلام كمحمد وزيد قد أجمع العلماء على أنه لا
يجري القياس فيها؛ لأنها غير موضوعة لمعان موجبة لها، وليست
معقولة المعاني.
ثانياً: أسماء الصفات كالعالم والقادر، فقد أجمع العلماء على
أنه لا يجري القياس فيها؛ لأنها واجبة الاطراد؛ نظراً إلى تحقق
معنى الاسم؛ لأن مسمى العالم - مثلاً - من قام به العلم، وهو
متحقق في حق كل من قام به العلم، فكان إطلاق اسم العالم عليه
ثابتا بالوضع، لا بالقياس؛ لأنه ليس قياس أحد الجزئين المتماثلين
في المسمى على الآخر أوْلى من العكس.
ثالثا: أسماء الأجناس والأنواع الموضوعة على مسمياتها مستلزمة
لمعان في محالها وجوداً وعدماً قد اختلف العلماء فيها هل يجري فيها
القياس؟
مثل إطلاق اسم " السارق " على النباش بواسطة مشاركته
للسارقين من الأحياء في أخذ المال على سبيل الحقيقة.
ومثل: إطلاق اسم " الخمر " على النبيذ بواسطة مشاركته
للمعتصر من العنب في الشدة المطربة المخمرة على العقل.
فهل يجوز إطلاق اسم " السارق " على " النباش " قياسا بعلة
أخذ مال الغير بخفية، وهل يجوز إطلاق اسم " الخمر " على النبيذ
قياساً بعلة الإسكار والتخمير؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: يجوز إثبات اللغة بالقياس، فيجوز أن يُسمَّى
النباش سارقا، والنبيذ خمراً.
ذهب إلى ذلك بعض المالكية كابن التمار، وأكثر الشافعية كابي
إسحاق الشيرازي، وابن سريج، وابن أبي هريرة، وحكي أنه نص
الإمام الشافعي، وهو قول أكثر علماء العربية كالمازني، وأبي علي
الفارسي، وابن درستويه؛ وهو اختيار أكثر الحنابلة كالقاضي أبي
يعلى، والقاضي يعقوب، وابن قدامة، وهو مذهب أكثر الفقهاء.
وهو الراجح عندي لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول -: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) .
وجه الدلالة: أن الاعتبار رد الشيء إلى نظيره بضرب من الشبه،
وهذا عام في إثبات الأحكام، وإثبات الأسماء.
الدليل الثاني: أن الاسم يدور مع الوصف وجوداً وعدماً - وهذا
هو الدوران - والدوران يفيد ظن العلية، فيحصل بذلك ظن أدق
العلَّة لتلك التسمية هو ذلك الوصف، فأينما حصل ذلك الوصف
حصَل ظن كونه مسمى بذلك الاسم، وحينئذ يلزم أن يثبت لتلك
المحال الأحكام المرتبة على ذلك الاسم، فالخمر دار مع الوصف
وهو السكر وجوداً وعدما، أما وجوداً ففي صورة الخمر، وأما
عدما ففي صورة الماء، فوجب أن يُسمى النبيذ أيضا خمراً بالقياس.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز إثبات اللغة بالقياس، فلا يجوز أن
يُسمَّى النبيذ خمراً.
ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية، وبعض المالكية كالباقلاني، وابن
خويز منداد، وابن الحاجب، وكثير من الشافعية كالغزالي،
والآمدي، وإمام الحرمين، وإلكيا الطبري، وابن القشيري،
واختاره بعض المتكلمين، وجماعة من أهل الأدب واللغة، وبعض
الحنابلة كأبي الخطاب.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) .
وجه الدلالة: أنها دلَّت على أنه تعالى علمه جميع الأسماء،
وهذا يدل على أنها توقيفية، فيدل على عدم وجود اسم يفتقر فيه
إلى القياس.
جوابه:
أنا قلنا في المسألة السابقة: إن هذه الآية ليست صريحة في دلالتها
على ذلك، فيجوز أن يكون علمه البعض بالتوقيف، والبعض
بالتنبيه والقياس، والجميع من علم اللَّه تعالى، كما أن الأحكام
الشرعية معلومه من جهة اللَّه تعالى، وإن كنا نعرف بعضها بالنص،
وبعضها بالاجتهاد، ويجوز أن يكون هذا خاصا في حق آدم - عليه
السلام -، ويجوز أن يكون قد علم الجميع بالتوقيف، ومن عداه
يعرف ذلك مرة بالتوقيف ومرة بالقياس، كما أن جهات القبْلة قد
تدرك حساً، وقد تدرك اجتهاداً.
الدليل الثاني: أن وضع اللغة على خلاف مقتضى القياس، بيان
ذلك:
أنا رأينا العرب يفرقون بين الشيئين المتفقين في الصفة الموضوعة
لذلك، فيقولون للفرس الأبيض:" أشهب "، ولا يقولون ذلك
للحمار الأبيض، ويقولون للفرس الأحمر الذي يميل إلى السمرة
"الكميت "، والذي يميل للسواد: أدهم، ولا يطلقون ذلك على
غيره.
كذلك " القارورة " سميت بهذا الاسم؛ لأنه يستقر فيها الماء،
وهذا المعنى وهو: استقرار الماء حاصل في الحياض والأنهار، ولا
تسمى قارورة، كذلك " الخمر " سميت بهذا الاسم لمخامرتها
العقل، ثم المخامرة حاصلة في الأفيون والحشيش وغيرهما، ولا
يسمى خمراً.
فيعلم من ذلك كله أن المرجع في اللغة إلى الوضع دون القياس.
جوابه:
إن غاية ما في هذا الدليل أنكم ذكرتم صوراً لا يجري فيها القياس
وذلك لا يقدح في صحة العمل بالقياس في اللغة، كما أنه حصل
في أحكام الشرع أحكام لا يجري القياس فيها؛ لكونها تعبدية،
ولم يدل ذلك على المنع من القياس في الشرع.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي له أثره في بعض الأحكام الفقهية، ومنها:
1 -
أنه بناء على المذهب الأول - وهو جواز إثبات اللغة قياسا -
قالوا: إذ النباش سارق، فيكون قطع يد النباش قد ثبت بالنص؛
حيث يدخل في عموم قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) .
أما على المذهب الثاني - وهو عدم جواز إثبات اللغة قياسا - فإن
قطع يد النباش لم يثبت بالنص وهو دخوله في عموم قوله:
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) .
وإنما ثبت قطع يده عن طريق القياس على السارق بجامع أخذ مال
الغير خفية من حرز مثله.
2 -
أنه بناء على المذهب الأول، فإن اللائط زان، فيكون
وجوب الحد عليه ثبت بالنص، وهو قوله تعالى:(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) .
أما على المذهب الثاني، فإن اللائط لا يُسمى زان، لذلك
اختلف أصحاب هذا المذهب في عقوبة اللائط، فقال بعضهم: إن
عقوبته القتل على كل حال مستندين إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به "،
وقال آخرون: إن عقوبته التعزير على الفاعل والمفعول به؛ لامتناع قياس اللائط على الزاني.
وقال فريق ثالث: إن عقوبته مثل عقوبة الزانى قياسا عليه، فإذا
كان اللائط غير محصن يجلد ويغرب، وإذا كان محصنا يجلد
ويرجم قياساً على الزاني.
3 -
أنه بناء على المذهب الأول فإن النبيذ خمر، فيكون وجوب
الحد على شارب النبيذ قد ثبت بالنص، وهو قوله تعالى: (إنما
الخمر والميسر) ، وقوله صلى الله عليه وسلم:
"من شرب الخمر فاجلدوه ".
أما على المذهب الثاني، فإن النبيذ لا يسمى خمراً، فيكون
وجوب الحد على شارب النبيذ قد ثبت بالقياس على الخمر.