الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب التاسع هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه أو لا
؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه مطلقا، أي سواء
كان المنهي عنه عبادة، أو معاملة.
والمراد بالفساد: عدم ترتب الآثار.
فأثر النهي في العبادات: عدم براءة الذمة.
وأثر النهي في المعاملات: عدم إفادة الملك والحل.
فإذا ورد النهي عن السبب المفيد حكما يقتضي فساده، سواء كان
النهي عنه لعينه، أو لغيره في العبادات، أو في المعاملات كالنهي
عن البيع بعد النداء الثاني، والنهي عن بيع المزابنة، والنهي عن
نكاح المتعة، والشغار، وبيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها.
فالنهي عن كل ذلك يقتضي فسادها.
وهذا مذهب كثير من العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة،
والظاهرية، وبعض الحنفية، وبعض المتكلمين.
وهو الحق؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن الشارع لا ينهى عن شيء إلا لأن المفسدة متعلقة
بالمنهي عنه، أو لازمة له، فقد ثبت من استقراء وتتبع النصوص
الشرعية: أن الشارع لا ينهى عن مصلحة، فلم يبق إلا أن نهيه عن
مفسدة، وإذا كانت الأشياء المنهي عنها فيها مفاسد، فسيلحق الناس
منها ضرر، وإعدام الضرر مناسب عقلاً وشرعاً، ولا يمكن ذلك إلا
بقولنا: " إن النهي يقتضي الفساد مطلقا ".
الدليل الثاني: إجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ حيث إنهم
استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها، ومن أمثلة ذلك:
أنهم استدلوا على فساد عقود الربا بالنهي الوارد في قوله عليه
الصلاة والسلام: " لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق،
ولا البر بالبر
…
"، واستدلوا على فساد نكاح المحرم في الحج
بالنهي عنه الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم:
" لا ينكح المحرم ولا ينكح "،
وغير ذلك، فلو لم يكن النهي يقتضي الفساد لما استدلوا بتلك
النواهي على فساد الأمور المنهي عنها، ولم ينكر أحد هذا الاستدلال
فكان إجماعا.
اعتراض على ذلك:
قال قائل - معترضا -: لعلهم رجعوا إلى فساد ذلك بسبب قرينة
دلَّت في الحال على ذلك الفساد.
جوابه:
لو كان هناك قرينة لذكرت، ونقلت كما نقل استدلالهم بتلك
النواهي، فلما لم ينقل شيء من ذلك: دلَّ على أنهم فهموا من
النهي الفساد مطلقاً.
الدليل الثالث: أن النهي عن الشيء يقتضي ترك هذا الشيء المنهي
عنه واجتنابه، والأمر بذلك الشيء يقتضي إيجاده وعدم تركه.
وتركه وعدم تركه متناقضان، والشرع بريء من التناقض وما
يفضي إليه، ويلزم للتخلص من هذا التناقض - أن يقال: إن النهي
يقتضي فساد المنهي عنه مطلقا.
والأمر يقتضي صلاح المأمور به.
المذهب الثاني: التفريق بين العبادات والمعاملات، بيانه:
أن النهي عن العبادات يقتضي فسادها.
أما النهي عن المعاملات فلا يقتضي فسادها.
وهذا مطلقا أي: سواء كان النهي عن الشيء لعينه كالزنا، أو
كان النهي عنه لغيره كالبيع عند النداء الثاني يوم الجمعة.
وهو مذهب بعض الشافعية كفخر الدين الرازي، وبعض المعتزلة
كأبي الحسين البصري، وهو اختيار بعض الفقهاء.
تنبيه: اختلف أصحاب هذا المذهب فيما بينهم هل النهي اقتضى
الفساد مطلقا من جهة اللغة أو الشرع؛ على أقوال:
القول الأول: إن النهي اقتضى الفساد من جهة اللغة.
القول الثاني: إن النهي اقتضى الفساد من جهة الشرع.
القول الثالث: إن النهي اقتضى الفساد من جهة المعنى، وهو
الصحيح عندي؛ لأن النهي يدل على قبح المنهي عنه وحظره، وهو
مضاد للمشروعية.
دليل هذا المذهب:
أن العبادة طاعة، والطاعة عبارة عما يوافق الأمر، والأمر والنهي
متضادان، فما يوافق الأمر قربة وطاعة، وارتكاب النهي معصية،
فلا يمكن أن يجتمعا في شيء واحد، بأن يكون هذا الشيء منهيا عنه
ومأموراً به في حال واحدة، فهذا يجعل النهي عن العبادات يقتضي
فسادها.
وذلك بخلاف المعاملات، فإنها ليست قربة، فلا يناقض المقصود
منها ارتكاب النهي، فالنهي عن المعاملات لا يقتضي فسادها،
فمثلاً: البيع وقت النداء الثاني يوم الجمعة صحيح يفيد الملك، لكن
البائع آثم لارتكابه المنهي عنه، فلا يوجد تناقض هنا.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ عدم تناقض ذلك، فقد بيَّنا تناقضهما في
أدلتنا السابقة على مذهبنا.
الجواب الثاني: سلمنا أن النهي قد لا يناقض الصحة، لكن
الظاهر من النهي أنه يقتضي الفساد؛ للأدلة التي ذكرناها، والعمل
بالظاهر واجب.
وعلى فرض أنا خالفنا هذا الظاهر - وهو: أن النهي يقتضي
الفساد - وقلنا بالصحة في بعض الفروع، فإن هذا كان بسبب قرينة
صرفت اللفظ عن المعنى الراجح وهو الظاهر إلى المعنى المرجوح.
وهذا لا يعني أنا عدلنا عن قاعدتنا وأصلنا - وهو: أن النهي
يقتضي الفساد، بل نعمل على هذه القاعدة في مطلق النهي، قياسا
على قولنا: إن مطلق النهي يقتضي التحريم، لكن لو وردت صيغة
النهي مع قرينة صرفتها من التحريم إلى الكراهة: عملنا بتلك القرينة،
أما إذا تجرد النهي عن القرائن فإنه يقتضي التحريم، كذا هاهنا.
المذهب الثالث: التفريق بين ما نهي عنه لعينه، أو لغيره، بيانه:
إن كان النهي عن الشيء لعينه كالزنا والسرقة، فإنه يقتضي الفساد.
وإن كان النهي عن الشيء لغيره كالبيع عند النداء الثاني في يوم
الجمعة، فإنه لا يقتضي الفساد.
هذا هو المذهب المنسوب للإمام أبي حنيفة والشافعي.
دليل هذا المذهب:
أن الشيء المنهي عنه لذاته ولعينه له جهة واحدة كالنهي عن الزنا
والكفر، والملاقيح والمضامين، وبيع الميتة، ونكاح المحارم، فهذه
التصرفات فاسدة قطعا؛ لعدم قابلية المحل للتصرف الشرعي، فلا
يترتب عليها أي أثر شرعي.
أما الشيء المنهي عنه لغيره كالنهي عن البيع عند النداء الثاني في
يوم الجمعة، له جهتان، فيصح من جهة، ويأثم البائع من جهة
أخرى، فالبيع صحيح؛ لتوفر شروط وأركان البيع ويأثم البائع،
لوقوعه في هذا الوقت المنهي عنه، وعلى هذا: لا يقتضي النهي
الفساد إذا كان النهي عن الشيء لغيره.
كذلك يقال في الصلاة في الثوب الحرير، والصلاة في الثوب
المسروق، وصوم أيام التشريق.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن هذا مخالف لعموم النص، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد "؛ حيث إنه عام وشامل
للمنهي عنه لعينه ولغيره، فهو يبين: أن المنهي عنه ليس عليه أمره
مطلقا، فيجب أن يكون مردوداً، وهذا يشمل ذاته.، وآثاره،
ومتعلقاته.
الجواب الثاني: أنه لا فرق بين المنهي عنه لعينه، والمنهي عنه
لغيره، وذلك لأن الشارع لا ينهى عن شيء إلا لوجود المفسدة في
هذا الشيء المنهي عنه، ووجود هذه المفسدة إما قطعي - وهي
المفسدة الخالصة - أو ظني - وهي المفسدة الراجحة - والعمل
بالقطعي والظني واجب، ولا يجوز العمل بالمرجوح؛ لأنه كالمعدوم
لذا يجب اجتناب الشيء المنهي عنه مطلقا؛ نظراً لوجود المفسدة فيه.
المذهب الرابع: أن النهي عن الفعل يقتضي صحة المنهي عنه،
وهو اختيار أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، وكثير من الحنفية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن مجرد صدور صيغة النهي يدل على تصور وقوع
المنهي عنه، فالنهي - مثلاً - عن صوم يوم النحر يدل على انعقاده،
فلو استحال انعقاده في نفسه لما نهى عنه؛ لأن المحال لا ينهى عنه،
أي: أن النهي عن غير المقدور عليه عبث، والعبث لا يليق
بالحكيم، فلا يجوز أن يقال للمقعد:" لا تطر "، ولا يجوز أن
يقال للأعمى: " لا تبصر هذا القلم "؛ لأن مثل ذلك عبث.
جوابه:
أنا نوافقكم بأن النهي يدل على تصور وقوع المنهي عنه عن طريق
الحس وهي الأفعال، أما الصحة والفساد فهما حكمان شرعيان
وضعيان لم يرد الأمر بهما، ولا النهي عنهما، يؤيد ذلك: سائر
مناهي الشرع، فلم يرد فيها ذلك، بل إنا نحن وأنتم قد أجمعنا
على إبطال كل ما نهى الشارع عنه، فقد أبطلنا بيع المحاقلة،
والمزابنة، والمنابذة، والملامسة، والربا، والصلاة أثناء الحيض،
ونحو ذلك، ولا مستند لذلك إلا النهي، فهذا يدل على أن النهي
يقتضي الفساد والبطلان مطلقا.
تنبيه: إن هذا المذهب بعيد جداً؛ لأن النهي لا يدل على الصحة
عن طريق اللغة، ولا عن طريق الشرع، ولا عن طريق الضرورة،
فالمصير إليه تحكم ودعوى بلا دليل، بل الاستدلال بالنهى على فساد
الشيء المنهي عنه أقرب من الاستدلال بالنهي على الصحة،
وأصحاب هذا المذهب منعوا أن يكون النهي يدل على الفساد،
فكيف منعوا أن يكون النهي يدل على الفساد مع قربه منه، ويجيزوا
أن يكون النهي يدل على الصحة مع بعده؛ هذا بعيد وغريب.
المذهب الخامس: أن النهي لا يقتضي فساداً، ولا صحة مطلقا.
وهو مذهب بعض الفقهاء، وبعض المتكلمين.
دليل هذا المذهب:
أنه لا يوجد دليل صحيح من العقل ولا من النقل يفيد أن النهي
يقتضي الفساد، ولا يقتضي الصحة، ولا يوجد ما يفيد أنه يقتضي
الصحة.
أما كون الفاعل يأثم بفعل المنهي عنه، فذلك من دليل خارجي.
جوابه:
إن هذا الدليل متضمن للمطالبة بالدليل على الفساد، والمطالبة
بالدليل على الصحة، وهذا باطل من وجهين:
الوجه الأول: أن المطالبة بالدليل ليست بدليل.
الوجه الثاني: على فرض أن المطالبة بالدليل دليل، فإنا قد ذكرنا
أدلة صريحة تدل على أن النهي يقتضي الفساد، ولا يصرفه عنه إلا
بقرينة، وأبطلنا أدلة المخالفين، وإذا كان النهي يقتضي الفساد، فإنه
لا يقتضي الصحة بالضرورة.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي؛ حيث أثر ذلك في بعض الفروع الفقهية
ومنها:
1 -
أن نكاح المحرم فاسد؛ لأن النهي الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ينكح المحرم.. " يقتضي الفساد، وهو مذهب جمهور العلماء.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يفسد، ولم يعملوا بهذه القاعدة
وعملوا بأدلة أخرى، وهو مذهب الحنفية.
2 -
من نذر صيام يوم العيد، فإن هذا النذر فاسد ولو صام لا
يصح صومه، ولا يسقط القضاء عنه؛ لأنه نهي عن صوم يوم العيد
والنهي يقتضي الفساد؛ فلا يكون صوم يوم العيد مشروعا، وهو
مذهب جمهور العلماء.
وذهب بعض العلماء إلى أن النذر صحيح بأصله دون وصفه.
وهو ما قاله الحنفية: فالناذر عندهم يجب عليه الفطر، والقضاء،
لكن لو صام هذا اليوم صح صيامه مع التحريم، ولم يعملوا بتلك
القاعدة - وهي: أن النهي يقتضي الفساد، فالنهي عندهم لا ينافي
المشروعية.
هذا آخر المجلد الثالث من كتاب: " المهذب في علم أصول الفقه المقارن "
للشيخ الأستاذ الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة حفظه الله
ونفع به الإسلام والمسلمين، ويليه المجلد الرابع إن شاء الله
وأوله " العموم والخصوص " وهو الفصل الثاني عشر من الباب الرابع