الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع فيما تقتضيه صيغة النهي وهي: " لا تفعل
"
حقيقة إذا تجردت عن القرائن
اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن صيغة النهي - وهي: " لا تفعل " - تقتضي
التحريم حقيقة، ولا يحمل على غيره من المعاني السابقة إلا بقرينة.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين:
الدليل الأول: إجماع الصحابة رضي الله عنهم والتابعين؛
حيث إنهم كانوا يستدلون على تحريم الشيء بصيغة النهي - وهي:
"لا تفعل " - فيقولون: الزنا محرم؛ لقوله تعالى:
(ولا تقربوا الزنا)، والقتل محرم ل قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم
الله إلا بالحق) ، والربا حرام لقوله تعالى:(ولا تأكلوا الربا) ،
ونحو ذلك، فهم كانوا ينتهون عن ذلك بمجرد سماعهم لتلك
الصيغة، ويعاقبون من يفعل المنهي عنه، واستدلالهم على التحريم،
وانتهائهم عن المنهي عنه، ومعاقبتهم لمن يفعل المنهي عنه دليل واضح
على أن الصيغة حقيقة في التحريم، فإذا استعملت في غيره كان ذلك
مجازاً.
الدليل الثاني: إجماع أهل اللغة واللسان، بيان ذلك:
أن السيد إذا قال لعبده: " لا تخرج من الدار " فخرج، ثم
عاقبه على خروجه، فإن العقلاء من أهل اللغة لا ينكرون على السيد
معاقبة عبده، فلو لم تكن صيغة " لا تفعل " تقتضي التحريم لما
استحق العقوبة بمخالفتها.
المذهب الثاني: أن صيغة النهي - وهي: " لا تفعل " تقتضي
الكراهة التنزيهية، ولا يحمل على التحريم ولا على غيره إلا بقرينة.
وهو مذهب بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن صيغة النهي وهي: " لا تفعل " ترد والمراد بها التحريم، وترد
والمراد بها الكراهة التنزيهية، والتحريم: طلب الترك والمنع من
الفعل، والكراهة: طلب الترك مع عدم المنع من الفعل، فاشتركا
في شيء واحد وهو: طلبط الترك، فنحمله عليه؛ لأنه هو المتيقن،
أما المنع من الفعل - وهو التحريم "، فهو شيء زائد يحتاج إلى
دليل.
جوابه:
هذا الدليل يفيد أنكم تطالبوننا بإثبات دليل على أنه يقتضي
التحريم - وهو المنع من الفعل - والمطالبة بالدليل ليس بدليل.
وإن سلمنا أن المطالبة بالدليل دليل، فإنا قد بينا أن مقتضى صيغة
النهي التحريم بدليلين قد سبق ذكرهما، ولهذا كان المخالف لهذه
الصيغة يستحق العقوبة، فلو كان النهي للتنزيه لما استحق مخالفها
للعقوبة.
المذهب الثالث: التوقف حتى يرد دليل يبين المراد من تلك الصيغة.
وهو لبعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن كون صيغة: " لا تفعل " موضوعة للتحريم، أو الكراهة
التنزيهية إنما يعلم بدليل، ولم يثبت دليل من العقل، ولا من النقل
على أحدهما، فيجب التوقف.
جوابه:
إن كان توقفكم جاء بسبب عدم ثبوت دليل على أن المراد بها
التحريم أو الكراهة، فهو باطل؛ لأنا قد أثبتنا أدلة من إجماع
الصحابة، وإجماع أهل اللغة على أن صيغة " لا تفعل " للتحريم
حقيقة.
وإن كان توقفكم جاء بسبب تعارض أدلة المثبتين للتحريم، وأدلة
المثبتين للكراهة، وأنه لا مرجح لأحدهما على الآخر، فهذا باطل
- أيضا -؛ لأن الدليل المثبت للتحريم أرجح من الدليل المثبت
للكراهة، فيجب العمل به، والقول بالتحريم؛ لأن العمل بالراجح
واجب، فيكون التوقف فيه مخالفة لهذا الدليل، وهذا لا يجوز.
وإن كان توقفكم جاء بسبب: أن الصيغة لا تفيد شيئاً، فهذا
باطل - أيضا - لأنه يلزم منه تسفيه واضع اللغة، وإخلاء الوضع
عن الفائدة بمجرده.
المذهب الرابع: أن صيغة " لا تفعل " لفظ مشترك بين التحريم
والكراهة، فهي موضوعة لكل منهما بوضع مستقل، وهو لبعض
العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن صيغة " لا تفعل " قد استعملت في التحريم، والكراهة،
والأصل في الاستعمال الحقيقة، فكان اللفظ حقيقة في كل منهما.
جوابه:
إن الاشتراك اللفظي ينقدح إذا كان اللفظ - وهو: " لا تفعل "
متردداً بين التحريم والكراهة على السواء، ولا يتبادر منه واحد منهما
بخصوصه عند الإطلاق، وهذا لم يحصل؛ لأن اللفظ عند إطلاقه
يتبادر منه التحريم، فيكون حقيقة فيه؛ لأن الحقيقة هي التي تتبادر
في الذهن وتسبق إليه.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي وهو ظاهر.
فأصحاب المذهب الأول يقولون: إن الوعيد على فعل المنهي عنه
مستفاد من نفس صيغة " لا تفعل "، فيعاقب على فعل المنهي عنه
بدون قرائن.
أما أصحاب المذهب الثاني، والثالث، والرابع، فإنهم يقولون:
إن الوعيد على فعل المنهي عنه لا يستفاد من نفس الصيغة وهي:
" لا تفعل "، وإنما هو مستفاد من قرائن احتفت بالصيغة، فلا يجوز
للناهي أن يعاقب المنهي على فعل الشيء المنهي عنه إلا بدليل وقرينة.
فمثلاً قوله صلى الله عليه وسلم:
"ولا يبع بعضكم على بيع بعض "،
فإن النهي هنا للتحريم ابتداء عند أصحاب المذهب الأول،
ولا يصرف عنه إلى غيره إلا بقرينة.
ويكون النهي للكراهة ابتداء عند أصحاب المذهب الثاني، ولا
يصرف عنه إلى غيره إلا بقرينة.
وكان عند بقية المذاهب مجملاً لا يحمل على التحريم ولا على
الكراهة إلا بقرينة.
وكذلك قوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضا) تقول فيه كما
سبق، وقل ذلك في كل نهي ورد مطلقا.