الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس هل النهي يقتضي الانتهاء على الفور والتكرار
؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن النهي يقتضي الانتهاء عن المنهي عنه على الفور
ويقتضي التكرار، وهو مذهب أكثر العلماء، وهو الحق؛ لما يلي
من الأدلة:
الدليل الأول: أن النهي يقتضي عدم الإتيان بالفعل، وعدم
الإتيان لا يتحقق إلا بترك الفعل في جميع أفراده في كل الأزمنة،
وبذلك يكون ترك الفعل مستغرقا جميع الأزمنة، ومن جملتها الزمن
الذي يلي النهي مباشرة، فيكون النهي مفيداً للتكرار كما هو مفيد
للفور.
الدليل الثاني: أن الناهي لا ينهى إلا عن قبيح، والقبيح يجب
اجتنابه. على الفور، وفي كل وقت.
الدليل الثالث: أن السيد لو قال لعبده: " لا تدخل الدار "،
فإن ذلك يقتضي: أن لا يدخل الدار على الفور وعلى التكرار
والمداومة، وإن دخلها في أي وقت من الأوقات فإفه يستحق الذم
والعقوبة، ولو لم يكن مقتضيا لذلك لما استحق مخالفه الذم
والعقوبة.
المذهب الثاني: أن النهي لا يقتضي الفور، ولا يقتضي التكرار.
وهو مذهب بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
قياس النهي على الأمر، فكما أن الأمر لا يقتضي الفور ولا
التكرار، فكذلك النهي لا يقتضي الفور ولا التكرار، والجامع: أن
كلاً منهما استدعاء وطلب.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ الحكم في الأصل المقاس عليه؛ لأن
الأمر يقتضي الفور، وهذا ثبت بأدلة قد سبق بيانها.
الجواب الثاني: سلمنا أن الأمر لا يقتضي الفور ولا التكرار،
لكن قياس النهي عليه لا يصح؛ لأنه قياس فاسد؛ حيث إنه قياس
مع الفارق، ووجه الفرق: أن النهي يقتضي عدم الإتيان بالفعل،
وعدم الإتيان لا يتحقق إلا بترك الفعل في جميع أفراده في كل
الأزمنة، ومن جملتها الزمن التالي لصدور صيغة النهي.
أما الأمر فهو طلب الفعل، والفعل يتحقق ولو في مرة واحدة،
فليس في الأمر ما يقتضي التكرار، فصح أن يقال: إنه لا يفيد
التكرار، وحيث كان لا يفيد التكرار فهو لا يفيد الفور.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف - هنا - لفظي؛ لأن أصحاب المذهبين قد اتفقوا على
المعنى، وإن اخلفوا في اللفظ والاصطلاح؛ إذ لا يمكن لأحد أن
يقول: إن النهي يقتضي الانتهاء عن المنهي عنه بعد صدور صيغة
الأمر بفترة ولا يمكن لأحد أن يقول: يجب الانتهاء عن المنهي عنه
مرة واحدة، ثم يعود لفعله، هذا لا يقوله أحد.
قد يقول قائل: ما دام الأمر كذلك إذن ما سبب قول أصحاب
المذهب الثاني: إن النهي لا يقتضي الفور ولا التكرار؟
أقول - في الجواب عن ذلك -: إن سبب قولهم ذلك: أنهم
لما استقرؤا النصوص وجدوا: أن النهي يرد مرة للدوام والتكرار
كقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا)، ومرة يرد لخلافه كقول الطبيب:
" لا تشرب اللبن ولا تأكل السمك ".
أما أصحاب الأول - وهم الجمهور القائلون: إن النهي يدل على
التكرار والدوام والعموم والفور مدة القيد في مثل قول الطبيب: "لا
تشرب اللبن ولا تأكل السمك ".
وبناء على ذلك: يكون النهي للدوام مدة العمر في المطلق ومدة
القيد في المقيد، فهم نجعلوا النهي يقتضي التكرار ويريدون من ذلك
مطلق الدوام الأعم من الدوام مدة العمر، ومن مدة القيد.
فأصحاب المذهب الثاني نظروا إلى الإطلاق من جهة، ونظروا
إلى التقييد من جهة أخرى، وغايروا بين النظرين، وهما واحد عند
أصحاب المذهب الأول، فلا خلاف في المعنى، فيكون الخلاف
لفظيا.