الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن في تعارض ما يخل بالفهم
الذي يخل بفهم السامع لما أراده المتكلم من اللفظ: أمور خمسة
هي: الا شتراك، والنقل، والمجاز، والإضمار، والتخصيص.
فإن تعارضت هذه الأمور الخمسة مع بعضها، فإنه لا بد من
معرفة الراجح من المرجوح، ولمعرفة ذلك فإن كل واحد يكون ما
بعده أرجح منه، فيقدم عليه فتقول: النقل يقدم على الاشتراك،
والمجاز يقدم على النقل، والتخصيص يقدم على المجاز والإضمار،
أما المجاز والإضمار إذا تعارضا فلا يقدم أحدهما على الآخر؛
لتساويهما، ويكون اللفظ مجملاً.
وإليك بيان ذلك على عشرة أوجه هي كما يلي:
الوجه الأول: إذا وقع التعارض بين الاشتراك والنقل - بأن كان
اللفظ محتملاً لهما وادَّعى أحد الخصمين حمله على النقل، والآخر
حمِله على الاشتراك: فالنقل أَوْلى بالتقديم؛ لأن المعنى في النقل
متعيِّن.
بيان ذلك: أن لفظ " الزكاة " يحتمل أن يكون مشتركا بين
"النماء" - وهو معناه اللغوي - و " القدر المخرج من المال " - وهو
معناه الشرعي -، ويحتمل أن يكون حقيقة في " النماء "، ثم نقل
إلى القدر المخرج.
فالنقل هنا أوْلى؛ لأنه على تقدير النقل يكون اللفظ لحقيقة مفردة؛
لأنه إن اشتهر النقل فالمراد المنقول إليه، وإن لم يشتهر فالمراد المنقول
عنه فلا يوجد له إلا معنى واحد في الحالتين، أما على تقدير
الاشتراك فليس كذلك؛ لأن اللفظ في حالة الاشتراك له معنيان
فأكثر في وقت واحد، وما له معنى واحد - وهو النقل - أولى مما
له معنيان - وهو الاشتراك.
الوجه الثاني: إذا وقع التعارض بين " الاشتراك " و " المجاز ":
فالمجاز أَوْلى بالتقديم؛ لأمرين:
أولهما: أن المجاز أكثر استعمالاً من الاشتراك، والكثرة أمارة
الظن والرجحان.
ثانيهما: أنه على تقدير المجاز إن كان اللفظ مع القرينة: وجب
حمله على المجاز، وإن كان مجرداً عنها: وجب حمله على
الحقيقة، فهو مفيد على التقديرين، بخلاف الاشتراك فإنه إن تجرد
اللفظ عن القرينة وجب التوقف؛ لاحتمال تنافي معاني المشترك، أو
امتناع حمله على معنييه إذا لم يمكن الجمع بينها.
مثاله: لفظ " النكاح " فنقول: " موطوءة الأب بالزنا تحل للابن
فيجوز أن يتزوجها "؛ لقوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ) ،
وهي قد طابت للابن.
فإن قال قائل: هذا معارض بقوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) ، والنكاح حقيقة في الوطء.
قلنا: لا نُسَلِّمُ، بل النكاح حقيقة في العقد في الشرع؛ لقوله
صلى الله عليه وسلم: "النكاح من سنتي "، وإذا كان حقيقة في العقد لا يكون حقيقة في الوطء، ولو كان حقيقة في العقد والوطء للزم الاشتراك
بينهما دون ترجيح، فكونه حقيقة في العقد مجازاً في الوطء، أو
العكس أوْلى، ويعمل على أحدهما، أوْلى من حمله على الاشتراك
بينهما والتوقف عن العمل بهما.
الوجه الثالث -: إذا وقع التعارض بين " الاشتراك "، و " الإضمار"
فالإضمار أوْلى بالتقديم؛ لأن الإضمار يحتاج إلى القرينة في صورة
واحدة، وهي صورة إرادة المعنى الإضماري، أما المشترك فإنه يحتاج
إلى القرينة في صورتي كل واحد من معنييه، فيكون الاشتراك
مرجوحاً؛ لأن الاحتياج فيه أكثر.
مثاله: قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) فإنه يحتمل أن يكون
مشتركاً بين " الموضع " و " الأهل "، ويحتمل أن يكون للموضع
والأهل مضمر، فالإضمار أوْلى بالتقديم.
الوجه الرابع: إذا وقع التعارض بين " الاشتراك " و " التخصيص "
فإنه يقدم التخصيص؛ لأن التخصيص أوْلى من المجاز إذا تعارضا،
لأن الباقي بعد التخصيص متعين، بخلاف المجاز فإنه ربما يتعدد
المجاز، فلم يتعين المجاز المقصود - كما سيأتي في الوجه التاسع -.
والمجاز أَوْلى من الاشتراك إذا تعارضا؛ لما سبق ذكره في الوجه
الثاني.
ينتج: أن التخصيص أوْلى من الاشتراك.
مثاله: قوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) فالنكاح هنا
يحتمل أن يكون مشتركاً بين " الوطء " و " العقد "، فعلى هذا:
تكون موطوءة الأب مطلقاً محرمة على الأب.
ويحتمل أن يكون لفظ " النكاح " - هنا - موضوعاً للعقد - فقط -
وخص العقد الفاسد، فإن النكاح الفاسد لا يحرم، فالتخصيص
أولى، وعلى هذا: لو نكح الأب نكاحا فاسداً فللابن أن ينكح
منكوحته ولا تكون محرمة عليه.
تنبيه: النسخ شبيه بالتخصيص؛ لأن " النسخ " تخصيص في
الأزمان، فهل - على هذا - يقدم النسخ على الاشتراك؛ نظراً
لكون التخصيص مقدما على الاشتراك؟
نقول - في الجواب عن ذلك -: إن النسخ لا يقدم على
الاشتراك، بل إن الاشتراك هو المقدم عليه؛ لأن النسخ يلزم منه
الإبطال بالكلية، أما الاشتراك فإنه يستلزم التأخير إلي وقت ظهور
القرينة، والتأخير أهون من الإبطال، فعلى هذا لو وقع التعارض
بينهما لكان الاشتراك أوْلى.
الوجه الخامس: إذا وقع التعارض بين " النقل " و " المجاز "،
فإنه يقدم " المجاز "؛ لأنه يلزم من " النقل ": أن يكون الوضع
الأول - المنقول عنه - مهجوراً، وهو خلاف الأصل؛ لأن الأصل:
الإعمال، لا الإهمال، والمجاز لا يستلزم ذلك، فيكون المجاز
راجحا عليه.
مثاله: " الصلاة "، فإنها مجاز في ذات الأركان - على قول -
وهي منقولة من الدعاء إلى هذا المعنى - على قول آخر لبعض
العلماء.
الوجه السادس: إذا وقع التعارض بين دؤ النقل " و " الإضمار "،
فإن الذي يقدم هو " الإضمار "؛ لأن " الإضمار " و " المجاز "
متساويان؛ نظراً لاحتياج كل واحد إلى قرينة تصرف السامع عن فهم
ما يدل عليه اللفظ ظاهراً - كما سيأتي في الوجه الثامن -.
والمجاز مقدم على النقل؛ لأن " النقل " يستلزم أن يكون الوضع
الأول مهجوراً، وهو خلاف الأصل، والمجاز ليس كذلك - كما
قلنا في الوجه الخامس -.
فينتج: أن يكون الإضمار أوْلى من النقل؛ لأن المساوي للأولى
أوْلى.
مثل: قوله تعالى: (وَحَرَّمَ الرِّبَا)، فإنه سيقول قائل: إن
الربا موضوع للزيادة والمفاضلة، ثم نقل إلى العقد المشتمل على
المفاضلة، وحينئذٍ لا يجوز بيع درهم بدرهمين.
وسيقول قائل آخر: إن الربا موضوع للمفاضلة والزيادة، والأخذ
مضمر، والتقدير: وحرم أخذ الربا، وحينئذ: يجوز بيع درهم
بدرهمين، ويفيد - الملكية؛ لأن المحرم الأخذ لا البيع.
الوجه السابع: إذا وقع التعارض بين " النقل " و " التخصيص "
فإن التخصيص يقدم على النقل؛ لأن التخصيص أوْلى من المجاز؛
لأن الباقي بعد التخصيص متعين، بخلاف المجاز؛ فانه قد يتعدد
- كما سبق ذكره وكما سيأتي في الوجه التاسع -.
والمجاز أوْلى من الثقل - كما سبق بيانه في الوجه الخامس -.
فينتج: أن التخصيص يقدم على النقل؛ لأن الراجح على الراجح
راجح.
مثاله: قوله تعالى: (وأحل الله البيع) ، فانه يحتمل أن يكون
" البيع " هو: البيع اللغوي - وهو مبادلة الشيء بالشيء مطلقا -
ثم خص عنه الفاسد؛ إذ البيع الفاسد غير حلال، ويحتمل أن
يكون " البيع " قد نقل من المبادلة مطلقا إلى العقد المستجمع لشرائط
الصحة.
الوجه الثامن: إذا وقع التعارض بين " المجاز " و " الإضمار "،:
فإنهما مستويان؛ لأن كل واحد منهما يحتاج إلى قرينة تصرف السامع
عن فهم ما يدل عليه ظاهر اللفظ، واستوائهما في احتمال وقوع
الخفاء في تعيين المراد؛ فإنه كما يتوقع وقوع الخفاء في تعيين " المجاز "
كذلك يتوقع وقوع الخفاء في تعيين المضمر.
مثاله: أن يقول السيد لعبده - الذي هو أصغر منه سنا -: " هذا
ابني "، فإنه يحتمل أن يكون قد عبر عن العتق بالبنوة مجازاً،
فيعتق ذلك العبد بذلك اللفظ، ويحتمل أن يكون في الكلام إضمار
ويكون تقدير الكلام: " هذا مثل ابني " في العطف أو المحبة، فلا
يعتق العبد بهذا.
الوجه التاسع: إذا وقع التعارض بين " المجاز " و " التخصيص "،
فإنه يقدم التخصيص؛ لأن الباقي بعد التخصيص متعين بخلاف
المجاز، فإنه قد لا يتعين المجاز المقصود، بيان ذلك:
أنه عند التخصيص انعقد اللفظ دليلاً على جميع الأفراد، فإذا
خرج بعض الأفراد بدليل: بقي اللفظ معتبراً في الباقي من غير تأمل
أو تفكر.
أما في المجاز فإن اللفظ انعقد دليلاً على المدلول الحقيقي، فإذا
انتفت الحقيقة بقرينة، افتقر صرف اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلى
نوع تأمل وتفكر واستدلال؛ لأنه ربما تعدد المجاز، ولم يتعين
المقصود، فيكون التخصيص أبعد عن الاشتباه والشك، فيقدم على
المجاز.
مثاله: قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) فإنِه
يحتمل أن يكون المراد التلفظ " الذي هو المدلول الحقيقي - وهو:
التلفظ بذكر اسم الله تعالى - وعلى هذا خص منه الناسي، أي:
الذي ترك فيه التلفظ بالنسيان، وعلى هذا يكون متروك التسمية عمداً
لا يؤكل، أما متروك التسمية نسيانا يؤكل، وهذا هو الصحيح.
ويحتمل أن يكون المراد به: لا تكلوا مما لم يذبح بأن مات حتف
أنفه بطريق المجاز، وعلى هذا: فمتروك التسمية مطلقا يؤكل،
وليس في الآية ما يدل على عدم جواز أكله، وهذا المجاز من باب
إطلاق اسم المسبب - وهو ذكر اسم اللَّه تعالى - على السبب -
وهو الذبح؛ حيث إن الذبح سبب ذكر اسم اللَّه تعالى.
الوجه العاشر: إذا وقع التعارض بين " الإضمار " و " التخصيص "،
فإن التخصيص هو المقدم؛ لأن " التخصيص " مقدم على " المجاز "
- كما مضى في الوجه التاسع -، والمجاز والإضمار متساويان - كما
مضى في الوجه الثامن - فينتج: أن " التخصيص " مقدم على
الإضمار ".
مثاله: قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) ، فإنه يحتمل
أن يكون خطابا عاما اختص بالورثة؛ إذ القاتل صار عدوأ للورثة،
فإذا قتل ذلك القاتل بقيت الورثة سالمة وحية، ويحتمل أن يكون
خطابا عاما والشرعية مضمرة، وتقدير الكلام: " ولكم في شرعية
القصاص حياة "، وذلك لأن الناس إذا علموا شرعية القصاص اندفع
القتل من بينهم، فمثلاً إذا هم شخص بالقتل فتذكر القصاص منه،
فإنه يمتنع عن القتل، فتسبب ذلك في حياة نفسين.