الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثامن عشر تعلق الأمر بالمعدوم
اتفق العلماء على أن المعدوم لا يطلب منه إيقاع المأمور به حال
عدمه؛ لأن هذا محال، فلا يتعلق به الأمر ما دام معدوما تعلقا
تنجيزيا.
واتفقوا - أيضا - على أن المعدوم إذا وجد وهو مستكمل لشرائط
التكليف، فإنه يطلب منه إيقاع المأمور به، وأنه يتوجه إليه الخطاب،
فيتعلق الأمر به.
ولكنهم اختلفوا في تعلق الأمر بالمعدوم الذي علم اللَّه - تعالى -
أنه سيوجده مستكملاً لشرائط التكليف على مذهبين:
المذهب الأول: الأمر يتعلَّق بالمعدوم على تقدير وجوده، ووجود
شروط التكليف فيه، فالأمر يتناول المعدومين الذين علم اللَّه تعالى
أنهم سيوجدون على صفة التكليف.
وهذا مذهب أكثر المالكية، وأكثر الشافعية، وأكثر الحنابلة،
وكثير من الحنفية، ونسبه بعضهم إلى جمهور العلماء.
وهو الحق؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: إجماع الصحابة والتابعين على أن الأمر متعلق
بالمعدوم، بيانه:
أن جميع الصحابة والتابعين كانوا يأخذون بأوامر اللَّه وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم -
ويطبقونها على من لم يوجد في زمان نزول تلك الأوامر،
ولم يحدث أن واحداً امتنع من ذلك التطبيق؛ إذ لو حدث لنقل،
ووصلنا، ولكن لم يكن شيء من ذلك، فصار إجماعا منهم على
أن الأوامر الشرعية تتناول من كان معدوما حال الخطاب بالأمر.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) .
وجه الدلالة: أنه لا خلاف أنه أريد بذلك جميع أُمَّته، فقد
خاطبهم وهم معدومين.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) .
وجه الدلالة: أن المعدوم قد بلغه الأمر إذا وجد، فدل على أن
الأمر يتعلق بالمعدوم.
الدليل الرابع: قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد أمرنا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف في أنا مأمورون باتباعه، ولم نكن حين نزول الآية موجودين،
ومع ذلك فقد توجه الأمر إلينا بالتكليف، ومن لم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كفر؛ لأن مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم هي مخالفة لله، ومخالفة اللَّه كفر.
تنبيه: اختلف أصحاب هذا المذهب - وهم القائلون: إن الأمر
متعلق بالمعدوم - فيما بينهم - هل الأمر أمر إعلام، أو إلزام على
أقوال ثلاثة:
القول الأول: الأمر المتعلق بالمعدوم أمر إعلام، وليس أمر إلزام.
القول الثاني: إن المعدوم ليس مأموراً مباشرة، وإنما يتناوله تبعا.
القول الثالث: إن الأمر المتعلق بالمعدوم أمر إلزام، وهو الحق
عندي؛ لأن أوامر الشرع في موضوعها ملزمة لا معلمة من غير
إلزام، وليست مجرد تابعة.
المذهب الثاني: أن الأمر لا يتعلق بالمعدومين، ولا يتناولهم،
وإنما يختص بالموجودين فقط.
وهو مذهب بعض الحنفية كالجصاص، وأكثر المعتزلة.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن المعدوم لا يُعتبر شيئاً، فأمره هذيان وعبث لا
فائدة فيه.
جوابه:
إن المعدوم يتعلق به الأمر بشرط: أن يكون في العلم أنه يوجد،
وهذا غير محال.
وأيضا فإن من عادة الناس أن يوصلوا إلى من يحدث من أولادهم
بالنظر إلى وقوفهم، وصرفها في وجوه يعينها الواقف، وإن كان
هؤلاء الأولاد في حال الوصاية معدومين، فهذا لا يمكن أن يكون
هذيانا وعبثا.
فالأمر تعلق بمأمور وجد في الثاني كما تعلقت الوصية بمن يحدث
في الثاني.
الدليل الثاني: قياس الأمر مع المأمور على القدرة مع المقدور،
بيانه:
أنه إذا كانت القدرة لا يمكن أن تكون مع عدم المقدور، فكذلك
الأمر لا يمكن أن يكون مع عدم المأمور.
جوابه:
إن هذا القياس فاسد؛ لأنا لا نُسَلِّمُ الأصل المقاس عليه؛ حيث
إن اللَّه سبحانه يوصف بأنه قادر قبل وجود المقدور، واذا بطل الأصل
فإنه يبطل الفرع المقاس عليه، فيبطل دليلكم.
الدليل الثالث: أن المعدوم يستحيل خطابه، وهو: توجيه الكلام
إليه بحيث يفهم ذلك الكلام ويسمعه، فإذا استحالت مخاطبته:
استحال أن يكلف بامتثال الأمر وفعله.
جوابه:
إنا لما قلنا: إن الأمر يتعلق بالمعدوم: لم نقل ذلك مطلقا، بل
بشرطين هما: " أن يوجد "، و " أن يكون قد استكمل شروط
التكليف " فخطابه بإيجاد الفعل حال عدمه مستحيل، أما توجيه
ْالأمر إليه بشرط الوجود فلا يكون مستحيلاً؛ لأنه يفعل في حال
وجوده ما أمر به سابقا، وعلى هذا يصح أن يكون مأموراً.
يدل على ذلك: أن الولد يصير مكلفا بوصية والده الذي لم يراه،
وملزما بها حتى إنه يوصف بالطاعة بالامتثال، ويوصف بالعصيان
بالمخالفة.
الدليل الرابع: قياساً المعدوم على الصبي والمجنون، بيانه:
أنه اتفق على عدم تعلق الأمر بالصبي والمجنون مع وجودهما،
فمن باب أوْلى: أن لا يتعلق الأمر بالمعدوم، والجامع: عدم فهم
الخطاب، وعدم معرفة الأمر والمأمور به، وأنه لا يقع منهم فعل
صحيح.
جوابه:
أنا قلنا: إنه يصح أن يؤمر المعدوم بشرط أن يزول العدم، مثل:
الصبي والمجنون، فإنهما مأموران بشرط البلوغ والعقل.
اعتراض على هذا الجواب:
قال قائل - معترضاً -: هذا الجواب مخالف للنص وهو قوله
صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق
…
"، فكيف تزعم أن الصبي والمجنون مأموران مع
أنهما قد رفع القلم عنهما بالنص؟!
جوابه:
إنه ليس المراد برفع القلم - في هذا الحديث - هو أنه لا يتوجه
إلى الصبي والمجنون أي أمر، بل المراد برفع القلم - هنا - هو:
رفع المأثم، ورفع الإيجاب المضيق.
أي: أن الصبي والمجنون - في حال الصبا والجنون - لا يأثمان
إذا تركا ذلك الأمر، وأن هذا الأمر المتوجه إليهما لا يراد منه التضييق
عليهما بالتنفيذ فوراً، وإنما يوجه الأمر الآن، وامتثاله يكون بعد
البلوغ والإفاقة.
يدل على ذلك: أنه قرن معهما النائم، فالنائم يتوجه إليه الأمر
حال نومه، ولكن الامتثال يكون بعد استيقاظه، فكذلك الصبي
والجنون مثله.
بيان نوع الخلاف:
قد يبدو أن الخلاف لفظي لاتفاق أصحاب المذهبين على أن المعدوم
مكلَّف إذا وجد وهو مستكمل لشروط التكليف.
ولكن الحق أن الخلاف معنوي؛ لأمرين:
أولهما: أن أصحاب المذهب الأول قصدوا: أن الأمر للمعدومين
ثبت عن طريق النص واللفظ.
أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم قصدوا أن الأمر للمعدومين ثبت
عن طريق القياس.
وفرَّق بين ما ثبت عن طريق النص، وما ثبت عن طريق القياس
من وجهين ذكرناهما فيما سبق.
ثانيهما: أن السيد لو خاطب عبيده قائلاً: " ليقف كل واحد
منكم ساعة "، ثم اشترى عبداً جديداً فهل يدخل في ذلك؟
أصحاب المذهب الأول يقولون: نعم يدخل معهم بالنص.
أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم يقولون: إنه لا يدخل معهم إلا
بدليل.