الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع عشر هل أمر النبي صلى الله عليه وسلم المطلق أمر لأمته وأمر الأمَّة المطلق هو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمر واحد من الصحابة هو أمر لغيره
؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم هو أمر لأمته، وأمر الأمة هو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمر واحد من الصحابة هو أمر لغيره، ولا يخرج أحد عن خطاب الآخر إلا بدليل.
وهذا مذهب أكثر الحنفية، وأكثر المالكية، وأكثر الحنابلة، وهو
المشهور من مذهب الإمام أحمد، وقال الإسنوي: " إنه ظاهر كلام
الشافعي "، وهو الحق عندي، وللاستدلال على ذلك لا بد من
ذكر حالات هذه المسألة الثلاث، وذكر أدلة كل حالة ليكون ذلك
أوضح في ذهن طالب العلم فأقول:
الحالة الأولى: إذا خاطب اللَّه تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بالأمر بفعل عبادة بلفظ ليس فيه تخصيص كقوله تعالى: (يا أيها المزمل قم الليل) ،
و (يا أيها النبي اتق الله) ، و (يا أيها المدثر قم فأنذر) ، فإن أُمَّته
تشاركه في حكم ذلك الأمر والفعل حتى يدل دليل على تخصيصه
بذلك الحكم، ويدل على قولنا هذا ما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) .
وجه الدلالة: أنه لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم منفرداً بما يتوجه إليه من الأوامر الشرعية لما كان لتخصيصه بذلك اللفظ فائدة.
أي: أن الأصل والقاعدة: دخول الأُمَّة في الخطابات الموجهة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك: أن الشارع إذا أراد تخصيصه بشيء فإنه يبين ذلك مثل هذه الآية، أما إذا لم يبين فالأمر يعمه ويعم جميع الأمة.
الدليل الثاني: أن بعض الصحابة يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأمر فيجيب عن حال نفسه، وهذا يدل على أنه لا فرق بينه وبينهم،
ومن ذلك:
1 -
ما روته عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً سأل النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم "، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم.:" وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ".
2 -
ما روته أم سلمة رضي الله عنها: أن امرأة قبلها زوجها
وهو صائم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا فأخبريها أني أفعل ذلك ".
فلو كان الحكم مختصا به لم يصلح فعله أن يكون جوابا لهم.
الدليل الثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم إذا اختلفوا في
حكم من الأحكام الشرعية، فإنهم يرجعون إلى أفعال النبي صلى الله عليه وسلم كرجوعهم إلى فعله في الغسل من التقاء الختانين من غير إنزال،
ونحو ذلك.
فلو كان مخصوصا بحكم الشريعة لما صح رجوعهم إلى فعله
صلى الله عليه وسلم، فدل على مساواته بغيره في أحكام الشرع.
الدليل الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك،
حيث قال: " إنما أسهوا لأسن "، فخطابه لا يختص به.
الحالة الثانية: إذا توجه الخطاب بالأمر إلى الصحابة - رضي الله
عنهم - والأمة فإن النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيه كقوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة)، وقوله عليه الصلاة والسلام: "يا أيها الناس قد
فرض عليكم الحج فحجوا " دلَّ على ذلك دليلان هما:
الدليل الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر الصحابة بالفسخ، قالوا: أتامرنا بالفسخ وأنت لا تفسخ، فقال: " لو استقبلت من أمري ما
استدبرت لجعلتها عمرة، ولحللت كما تحلون "،
وفي رواية عن ابن عمر أنه قال: لما أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نحل بعمرة قلنا: فما يمنعك يا رسول اللَّه أن تحل معنا؛ قال: " إني هديت ولبدت، فلا أحل حتى أنحر هديي ".
وجه الدلالة: أن صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم سؤالهم، بل أقرهم عليه؛ لأنه يُعرف أن الصحابة أرادوا - بسؤالهم - أن يُفسر لهم
انفراده عنهم بالحكم في هذه المرة، فلو لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم داخلاً معهم في الخطابات الموجهة إليهم لما سألوه عن سبب عدم موافقته لهم، ولما أقرهم على ذلك، وبين لهم عذره وسبب عدم موافقته
لهم في هذا الحكم الخاص.
الدليل الثاني: قياس مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة على مشاركتهم له، بيان ذلك:
أنه ثبت بالأدلة أن الأُمَّة يشاركون النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم الذي وجه إليه - كما سبق في الحالة الأولى - فكذلك يقاس عليه: أنه يشارك أمته في الأحكام الموجهة إليهم ولا فرق؛ لأنه لو ثبت حكم في حق
الصحابة انفردوا به دون صلى الله عليه وسلم للزم من ذلك أن يثبت حكم خاص به دون الصحابة، وقد ثبت بطلان الأخير - وهو ثبوت حكم خاص به دون الصحابة - بالأدلة السابقة، وإذا بطل هذا فقد بطل الأول -
وهو ثبوت حكم في حق الصحابة انفردوا به دون النبي صلى الله عليه وسلم.
وبذلك ثبت: أن الخطاب الموجه إلى - الصحابة يدخل فيه النبي
صلى الله عليه وسلم.
الحالة الثالثة: إذا توجه الأمر إلى واحد من الصحابة فإنه يدخل
غيره من الصحابة في ذلك الأمر، ويشمملهم حكمه مثل: " رجم
ماعز "، و " قطع يد سارق رداء صفوان بن أمية "، ودل على ذلك
أدلة، ومنها:
الدليل الأول: إجماع الصحابة في أحكام الحوادث؛ حيث إن
الصحابة - بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يرجعون إلى ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم على أعيان وأشخاص منهم، فيأخذون تلك الأحكام المعينة ويعممونها له ولهم كرجوعهم في حد الزاني إلى قصة ماعز، وفي دية الجنين إلى حديث حمل بن مالك، وفي المفوضة إلى قصة بروع بنت واشق، وفي السكنى والنفقة إلى حديث فاطمة بنت قيس،
ونحو ذلك، ولم يقل أحد من الصحابة: إن كل حكم خاص بمن
خوطب به - فقط -؛ إذ لو كان لنقل، ولكن لم ينقل إلينا شيء
من ذلك، فكان ذلك إجماعا منهم على تساوي الجميع في تلك
الأحكام.
الدليل الثاني: أن قول الصحابي: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة " أمر يعم الصحابي الذي رآهَ النبي صلى الله عليه وسلم يبيع بالمزابنة، ويعم غيره، وهذا بإجماع الصحابة؛ حيث احتجوا بهذا على تحريم بيع
المزابنة، فلو كان الحكم مختصا بمن خوطب به فقط لما كان ذلك
عاما لجميع الصحابة، ومن بعدهم إلى قيام الساعة.
الدليل الثالث: أنه لو كان الحكم يختص بمن خوطب به من
الصحابة فقط، دون غيره من الصحابة: لكان ذلك أصلاً يعرفه كل
صحابي، وبناء عليه: لا يحتاج إلى أن صلى الله عليه وسلم يخاطب بعض الصحابة ويخصصه بالخطاب، ويبين ذلك باللفظ مثل قوله لأبي بردة
في الجذع من الماعز: " يجزيك، ولا يجزي عن أحد بعدك "، فلو
كان الصحابي يختص بما خوطب به لما كان لقوله: " ولا يجزي
لأحد بعدك " فائدة.
الدليل الرابع: قياس هذا على الألفاظ الواردة في الكتاب
والسُّنَّة، بيانه:
أن الألفاظ الواردة في الكتاب والسُّنَّة من أوامر ونواهي إنما
خوطب بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،
وأجمع العلماء على أن كل خطاب موجه إلى الصحابة فهو موجه إلى غيرهم في جميع العصور إلى قيام الساعة، وإذا كان الأمر كذلك فمن باب أوْلى أن يكون الخطاب الموجه إلى واحد من الصحابة يدخل فيه غيره من الصحابة.
المذهب الثاني: أنه إذا توجه الأمر إلى واحد - مما ورد في تلك
الحالات - لم يدخل غيره فيه بإطلاقه، أي: أن الحكم يختص بمن
توجه إليه الأمر، ولا يدخل غيره فيه إلا بدليل يوجب التعميم.
وهو مذهب أكثر الشافعية، وبعض الحنابلة كأبي الحسن التميمي،
وأبي الخطاب.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قياس المتعبِّد على العبادة، بيان ذلك:
أنه لو ورد الأمر بعبادة لم يتناول هذا الأمر بمطلقه عبادة أخرى،
فكذلك إذا توجه الأمر إلى شخص متعبَّد لم يدخل فيه متعبَّد آخر؛
لأن الأمر يتناول العبادة والمتعبَّد بها، فكما لا يتعدى أحدهما لا
يتعدى الآخر.
جوابه:
إن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن
الله تعالى إذا أمر بعبادة، فإنه أراد أن تقام تلك العبادة بذاتها؛
لمصلحة يعلمها، بخلاف المتعبَّد فإنه سبحانه إذا أمره بأن يفعل شيئا
فإنه لا يقصده هو بالذات، ولكن يقصد جميع المكلَّفين، إذا لم
يوجد دليل يخصصه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة، دون تخصيص بعض الأفراد دون بعض.
الدليل الثاني: قياس لفظ الخصوص على لفظ العموم، بيانه:
أن لفظ الخصوص ضد لفظ العموم، ثم إن لفظ العموم لا
يُحمل على الخصوص بمطلقه، فكذلك لفظ الخصوص لا يحمل
على العموم والاستغراق بمطلقه.
جوابه:
إن هذا - أيضا - قياس فاسد -؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه
الفرق: أن الخطاب وإن وجه إلى شخص فإنه يعم جميع الأشخاص؛
بناء على أن الشريعة عامة وشاملة لجميع المكلَّفين؛ حيث قال تعالى:
(وما أرسلناك إلا كافة للناس)، وقال صلى الله عليه وسلم:
" بعثت إلى الأحمر والأسود ".
وأما لفظ العموم إذا ورد فإنه جاء على أصله، فلا يصرف عن
هذا الأصل إلا بدليل.
الدليل الثالث: قياس كلام الشارع على كلام المكلَّفين، بيانه:
أنه لا خلاف بين أهل اللغة: أن السيد إذا قال لعبد واحد من
عبيده: " افعل كذا وكذا " لم يدخل بقية عبيده في ذلك الأمر،
فكذلك إذا أمر اللَّه نبيه بأمر لم تدخل فيه الأُمَّة، وكذلك الأمر
للصحابي الواحد لا يعم غيره من الصحابة.
جوابه:
إن هذا - أيضا - قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه
الفرق: أن لفظ صاحب الشرع أدل على العموم من لفظ غيره
بدليل: أنه لو قال اللَّه تعالى لنبيه، أو قال صلى الله عليه وسلم لبعض أُمته:"صم " لأنك صليت " دخل في ذلك كل مصل؛ اعتباراً بتعليله، أما
لو قال السيد لواحد من عبيده: " اسقني ماء؛ لأنك صليت " لم
يدخل غيره من عبيده المصلين في ذلك، ولو قال: " والله لا آكل
السكر؛ لأنه حلو " لم يدخل في يمينه غيره من الحلويات، فكلام
الشارع يختلف عن كلام المكلَّفين.
بيان نوع الخلاف:
لقد اختلف في الخلاف هنا هل هو معنوي أو لفظي على قولين:
القول الأول: إن الخلاف معنوي.
وهو الحق؛ لأن أصحاب المذهب الأول قصدوا: أن دخول
الرسول صلى الله عليه وسلم في الخطابات الموجهة إلى الأُمَّة، ودخول الأُمَّة في الخطابات الموجهة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخول بقية الصحابة في الخطاب الموجه إلى فرد منهم: ثبت عن طريق اللفظ والنص، ولا يخرج كل واحد من هؤلاء عن خطاب الآخر إلا بدليل خارجي.
أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم قصدوا: أن كل خطاب مختص
بمن وجه إليه ولا يدخل غيره إلا بدليل كقياس غير المخاطب على
المخاطب.
فعلى المذهب الأول: يكون دخول غير المخاطب عن طريق عموم
اللفظ والنص.
وعلى المذهب الثاني: يكون دخول غير المخاطب عن طريق
القياس.
والفرق بين ما ثبت عن طريق النص، وما ثبت عن طريق القياس
من وجهين:
الوجه الأؤل: أن الحكم الثابت عن طريق عموم اللفظ والنص
أقوى من الحكم الثابت عن طريق القياس.
الوجه الثاني: أن الحكم الثابت عن طريق عموم اللفظ والنص
ينسخ وينسخ به، أما الحكم الثابت عن طريق القياس فلا ينسخ ولا
ينسخ به؛ لأنه ثبت عن طريق الاجتهاد، والنسخ خاص بالنصوص.
القول الثاني: إن الخلاف لفظي، وهو ما أشار إليه إمام الحرمين.
دليل هذا القول:
أن أصحاب المذهبين قد اتفقوا على أن الناس سواء في الشرع،
ولا فرق بين المخاطب وغير المخاطب إذا كان صالحاً له.
واتفقوا - أيضاً - على أن الخطاب الموجه إلى الواحد خاص به
عن طريق اللغة وااللسان.
فإذا كان هذا متفقا عليه فلا خلاف في المعنى، بل في اللفظ.
-
جوابه:
إن جميع أصحاب المذهبين قالوا: إن غير المخاطب يدخل في
الحكم الخاص، وهذا متفق عليه بشرط صلاحيته له.
لكنهم اختلفوا هل هذا الدخول ثبت عن طريق عموم اللفظ
والنص أو قياس غير المخاطب على المخاطب.
فأصحاب المذهب الأول يقولون: إن دخول غير المخاطب ثبت
عن طريق اللفظ والنص، وأصحاب المذهب الثاني يقولون: إن
دخول غير المخاطب ثبت عن طريق القياس، وفرق بينهما كما بينا.