المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الرابع في الدليل الرابع - من الأدلة المختلف فيها - الاستحسان - المهذب في علم أصول الفقه المقارن - جـ ٣

[عبد الكريم النملة]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثاني في الأدلة المختلف فيها

- ‌المبحث الأول في الدليل الأول - من الأدلة - المختلف فيها- الاستصحاب

- ‌المبحث الثاني الدليل الثاني - من الأدلة المختلف فيها -شرع من قبلنا

- ‌المبحث الثالث في الدليل الثالث من الأدلة المختلف فيها قول الصحابي

- ‌المبحث الرابع في الدليل الرابع - من الأدلة المختلف فيها - الاستحسان

- ‌المبحث الخامس في الدليل الخامس - من الأدلة المختلف فيها -وهو: المصلحة المرسلة

- ‌المبحث السادس في الدليل السادس - من الأدلة المختلف فيها -سد الذرائع

- ‌المبحث السابع في الدليل السابع - من الأدلة المختلف فيها -وهو: العرف

- ‌المبحث الثامن في الدليل الثامن - من الأدلة المختلف فيها -- الاستقراء

- ‌الباب الرابع في الألفاظ ودلالتها على الأحكام

- ‌الفصل الأول في اللغات

- ‌المبحث الأول في تعريف اللغات، واللفظ، والكلام، والنطقوالقول، وسبب وضع اللغات

- ‌المبحث الثاني في دلالة اللفظ على معناه هل هي بالوضعأو لمناسبة طبيعية بين اللفظ والمعنى

- ‌المبحث الثالث في مبدأ اللغات أي: هل اللغات توقيفية أو اصطلاحية

- ‌المبحث الرابع في هل يجري القياس في اللغة

- ‌الفصل الثاني في الدلالة وتقسيم اللفظ

- ‌المبحث الأول في تعريف الدلالة وأقسامها

- ‌المطلب الأول تعريف الدلالة

- ‌المطلب الثاني أقسام الدلالة

- ‌المطلب الثالثتعريف الدلالة اللفظية الوضعية

- ‌المبحث الثاني في تقسيم اللفظ

- ‌المطلب الأول في تقسيم اللفظ باعتبار الإفراد والتركيب

- ‌المطلب الثاني في تقسيم اللفظ المفرد

- ‌المطلب الثالث في تقسيم المركب

- ‌الفصل الثالث في الاشتقاق

- ‌المبحث الأول في تعريف الاشتقاق

- ‌المبحث الثاني أركان الاشتقاق

- ‌المبحث الثالث هل يُشترط كون المشتق حقيقة: دوام أصلهوهو: بقاء المشتق منه

- ‌الفصل الرابع في الاشتراك

- ‌المبحث الأول تعريفه

- ‌المبحث الثاني هل المشترك ممكن وثابت وواقع في اللغة

- ‌المبحث الثالث أقسام اللفظ المشترك بالنسبة لمسمياته

- ‌المبحث الرابع هل يصح استعمال المشترك في كل معانيه إذا أمكن الجمع بينها

- ‌المبحث الخامس بيان أن الاشتراك خلاف الأصل

- ‌المبحث السادس حالات اللفظ المشترك عند وجود القرينة أو عدمه

- ‌المبحث السابع الفرق بين المشترك والمتواطئ

- ‌المبحث الثامن الفرق بين المشترك والمتواطئ والمشكك

- ‌الفصل الخامس في الترادف

- ‌المبحث الأول تعريف الترادف

- ‌المبحث الثاني حكم الترادف

- ‌المبحث الثالثأسباب الترادف

- ‌المبحث الرابعشرط الترادف

- ‌المبحث الخامسبيان أن الترادف خلاف الأصل

- ‌المبحث السادس هل يجوز استعمال أحد المترادفين مكان الآخر

- ‌الفصل السادس في التأكيد والتابع

- ‌المبحث الأول في التأكيد

- ‌المطلب الأولتعريف التأكيد

- ‌المطلب الثاني الفرق بينه وبين المترادف

- ‌المطلب الثالث حكم التأكيد

- ‌المطلب الرابعأقسام التأكيد

- ‌المبحث الثاني في التابع

- ‌المطلب الأولتعريف التابع

- ‌المطلب الثانيالفرق بين التابع وبين المترادف

- ‌المطلب الثالث بيان وجه الاتفاق بين التابع والتأكيد

- ‌الفصل السابع في الحقيقة والمجاز

- ‌المبحث الأول في الحقيقة

- ‌المطلب الأولتعريف الحقيقة

- ‌المطلب الثاني أقسام الحقيقة

- ‌المبحث الثاني في المجاز

- ‌المطلب الأولفي تعريف المجاز

- ‌المطلب الثاني هل المجاز واقع في اللغة

- ‌المطلب الثالثأنواع العلاقة في المجاز

- ‌المطلب الرابعهل النقصان يعتبر من المجاز

- ‌المطلب الخامس أسباب العدول إلى المجاز

- ‌المطلب السادسبيان أن الحقيقة لا تستلزم المجاز

- ‌المطلب السابعهل المجاز يستلزم الحقيقة

- ‌المطلب الثامن اللفظ الذي يكون حقيقة ومجازاً والذي لا يكون

- ‌المطلب التاسع بيان أن المجاز خلاف الأصل

- ‌المطلب العاشر طرق معرفة الحقيقة من المجاز

- ‌المطلب الحادي عشر بيان أنه إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجازفإنه يحمل على الحقيقة

- ‌المطلب الثاني عشر بيان أنه إذا غلب المجاز في الاستعمالفإن اللفظ يحمل عليه

- ‌الفصل الثامن في تعارض ما يخل بالفهم

- ‌الفصل التاسع في النص، والظاهر، والمجمل وما يتعلق بها

- ‌المبحث الأول في النص

- ‌المطلب الأولتعريف النص

- ‌المطلب الثاني حكم إطلاق النص على الظاهر

- ‌المطلب الثالثحكم النص

- ‌المبحث الثاني في الظاهر

- ‌المطلب الأولتعريف الظاهر

- ‌المطلب الثانيحكم الظاهر

- ‌المطلب الثالث في التأويل

- ‌المبحث الثالث في المجمل

- ‌المطلب الأولتعريف المجمل

- ‌المطلب الثانيأسباب الإجمال

- ‌المطلب الثالثدخول الإجمال في الأفعال

- ‌المطلب الرابع حكم المجمل

- ‌المطلب الخامسنصوص اختلف في كونها مجملة

- ‌المطلب السادسهل يجوز بقاء المجمل بدون بيان بعد وفاة صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب السابع في المبيَّن - بفتح الياء - والمبيِّن - بكسرها - والبيان

- ‌الفصل العاشر في حروف المعاني

- ‌المبحث الأولفي " الواو

- ‌المبحث الثاني حرف " الفاء

- ‌المبحث الثالث حرف " ثُمَّ " بضم الثاء وفتح الميم مع تشديدها

- ‌المبحث الرابع حرف " أوْ " - بفتح الهمزة وتسكين الواو

- ‌المبحث الخامس حرف " الباء

- ‌المبحث السادسحرف " اللام " الجارة

- ‌المبحث السابع في حرف " في

- ‌المبحث الثامن في حرف " مِنْ

- ‌الفصل الحادي عشر في الأوامر والنواهي

- ‌المبحث الأول في الأمر

- ‌المطلب الأول في تعريف الأمر

- ‌المطلب الثاني هل تشتراط إرادة الآمر المأمور به

- ‌المطلب الثالث هل للأمر صيغة موضوعة في اللغة

- ‌المطلب الرابع هل الأمر حقيقة في الفعل

- ‌المطلب الخامس فيما تستعمل فيه صيغة الأمر - وهي: " افعل

- ‌المطلب السادس فيما تقتضيه صيغة الأمر - وهي: " افعل " - حقيقةإذا تجردت عن القرائن

- ‌المطلب السابع هل اقتضاء الفعل للوجوب ثبت عن طريق الشرعأو غير ذلك الطريق

- ‌المطلب الثامن بيان نوع القرينة التي تصرف الأمر من الوجوب إلى غيره

- ‌المطلب التاسع إذا ورد الأمر بعد النهي ماذا يقتضي

- ‌المطلب العاشر الأمر المطلق هل يقتضي فعل المأمور بهمرة واحدة أو التكرار

- ‌المطلب الحادي عشر الأمر المعلق بشرط أو صفة هل يقتضي تكرارالمأمور به بتكرار الشرط أو الصفة أو لا

- ‌المطلب الثاني عشر إذا كرر لفظ الأمر بشيء واحد مثل: " صل ركعتينصل ركعتين " فهل يقتضي التكرار

- ‌المطلب الثالث عشر الأمر المطلق هل يقتضي فعل المأمور بهعلى الفور أو لا يقتضي ذلك

- ‌المطلب الرابع عشر هل يسقط الواجب المؤقت بفوات وقته

- ‌المطلب الخامس عشر امتثال الأمر هل يحصل به الإجزاء ويسقط القضاء

- ‌المطلب السادس عشر الأمر بالأمر بالشيء هل يكونأمراً بذلك الشيء أو لا

- ‌المطلب السابع عشر هل أمر النبي صلى الله عليه وسلم المطلق أمر لأمته وأمر الأمَّة المطلق هو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمر واحد من الصحابة هو أمر لغيره

- ‌المطلب الثامن عشر تعلق الأمر بالمعدوم

- ‌المطلب التاسع عشر هل يجوز الأمر من اللَّه تعالى بما يعلم أن المكلَّفلا يتمكن من فعله

- ‌المبحث الثاني في النهي

- ‌المطلب الأول في تعريف النهي

- ‌المطلب الثاني هل للنهي صيغة موضوعة في اللغة

- ‌المطلب الثالث في ما تستعمل فيه صيغة " لا تفعل

- ‌المطلب الرابع فيما تقتضيه صيغة النهي وهي: " لا تفعل

- ‌المطلب الخامس إذا ورد النهي بعد الأمر فماذا يقتضي

- ‌المطلب السادس هل النهي يقتضي الانتهاء على الفور والتكرار

- ‌المطلب السابع أحوال المنهي عنه

- ‌المطلب الثامن هل النهي عن الشيء أمر بضده

- ‌المطلب التاسع هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه أو لا

الفصل: ‌المبحث الرابع في الدليل الرابع - من الأدلة المختلف فيها - الاستحسان

‌المبحث الرابع في الدليل الرابع - من الأدلة المختلف فيها - الاستحسان

تعريفه لغة:

الاستحسان لغة: استفعال من الحسن، وهو: عدُّ الشيء

واعتقاده حسنا، سواء كان حسيا كالثوب، أو معنويا كالرأي.

ولفظ " الاستحسان " يجوز استعماله بالاتفاق؛ لوروده في

الكتاب كقوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) ،

وقوله: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) ، ولوروده

في السُّنَّة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:

"ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللَّه حسن "، ولأن هذا اللفظ يستعمله الفقهاء كثيراً كقول الإمام الشافعي:" أستحسن ترك شيء من نجوم الكتابة للمكاتب ".

وكقول كثير منهم: " استحسن شرب الماء من أيدي السقائين من غير

تقدير في الماء وعوضه ".

تعريفه اصطلاحا وحجيته:

لقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف الاستحسان، إليك

ذكر أهم تلك التعريفات، وبيان المراد منه، وموقف العلماء في ذلك

فأقول:

التعريف الأول: أن الاستحسان هو: العدول بحكم المسألة عن

ص: 991

نظائرها لدليل خاص أقوى من الأول، وهذا هو تعريف جمهور

العلماء، وهو الحق، ومعناه:

أن القياس يقتضي حكما عاماً في جميع المسائل، لكن خُصّصت

مسألة وعُدل بها عن نظائرها وصار لها حكم خاص بها نظراً لثبوت

دليل قد خصصها وأخرجها عما يماثلها، وهذا الدليل هو أقوى من

المقتضي العموم في نظر المجتهد.

وهذا القياس قد يكون هو القياس الأصولي، وقد يكون بمعنى

القاعدة، أو الأصل العام، أو بمعنى الدليل العام.

***

أنواع الاستحسان بناء على هذا التعريف:

الاستحسان يتنوع - بناء على التعريف السابق - إلى أنواع خمسة:

النوع الأول: الاستحسان بالنص، وهو العدول عن حكم القياس

في مسألة إلى حكم مخالف له ثبت بالكتاب والسُّنَّة.

من أمثل ذلك:

1 -

أن القياس لا يجوِّز السلم؛ لأنه عقد على معدوم وقت

العقد، ولكن عدلنا عن هذا الحكم إلى حكم آخر، وهو:

الجواز، لدليل ثبت بالسُّنَة، وهو قول الراوي:" ورخص بالسلم "

فتركنا القياس لهذا الخبر استحساناً.

2 -

إذا ضرب وجل جمطن امرأة فالقت جنينا ميتا، فحكم

القياس: أنه لا يجب شيء على الضارب؛ لأنه لم يتيقن بحياته،

ولكن عدلنا عن هذا الحكم إلى حكم آخر، وهو: أنه يجب على

الضارب غرة، وهي:" نصف عشر الدية "؛ لدليل قوي ثبت في

ص: 992

هذا، وهو قوله عليه السلام: " في الجنين غرة عبد أو أمَة قيمته

خمسمائة "، فتركنا القياس لهذا الخبر استحسانا.

النوع الثاني: الاستحسان بالإجماع، وهو: العدول عن حكم

القياس في مسألة إلى حكم مخالف له ثبت بالإجماع مثل: عقد

الاستصناع - وهو: أن يتعاقد شخص مع صانع على أن يصنع شيئا

له نظير - مبلغ معين بشروط معينة - فالقياس يقتضي عدم جواز مثل

ذلك العقد؛ لأنه بيع معدوم من كل وجه، لكن عدلنا عن هذا

الحكم إلى حكم آخر، وهو: جواز هذا العقد؛ نظراً لتعامل الأُمَّة

به من غير نكير، فصار إجماعاً.

النوع الثالث: الاستحسان بالعرف والعادة، وهو: العدول عن

حكم القياس في مسألة إلى حكم آخر يخالفه؛ نظراً لجريان العرف

بذلك، وعملاً بما اعتاده الناس، مثل لو قال شخص: " والله لا

أدخل بيتا "، فالقياس يقتضي: أنه يحنث إذا دخل المسجد؛ لأنه

يسمى بيتا لغة، ولكن عدل عن هذا الحكم إلى حكم آخر، وهو:

عدم حنثه إذا دخل المسجد، لتعارف الناس على عدم إطلاق هذا

اللفظ على المسجد.

النوع الرابع: الاستحسان بالضرورة، وهو: العدول عن حكم

القياس في مسألة إلى حكم آخر مخالف له ضرورة مثل: جواز

الشهادة في النكاح والدخول، فالقياس يقتضي عدم جواز الشهادة

في النكاح والدخول؛ لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة، وذلك

بالعلم ولم يحصل في هذه الأمور، لكن عدل عن هذا الحكم إلى

حكم آخر، وهو: جواز الشهادة في النكاح والدخول ضرورة؛

لأنه لو لم تقبل فيها الشهادة بالتسامح؛ لأدى إلى الحرج وتعطيل

الأحكام.

ص: 993

النوع الخامس: الاستحسان بالقياس الخفي، وهو: العدول عن

حكم القياس الظاهر المتبادر فيها إلى حكم آخر بقياس آخر هو: أدق

وأخفى من الأول، لكنه أقوى حُجَّة، وأسد نظراً، وأصح استنتاجا

منه، مثل: عدم قطع يد من سرق من مدينه، بيان ذلك:

أن من له على آخر دين حال من دراهم فسرق منه مثلها قبل أن

يستوفيها فلا تقطع يده، أما إذا كان الدين مؤجلاً، فالقياس يقتضي

قطع يده إذا سرق مثلها قبل حلول الأجل؛ لأنه لا يباح له أخذه قبل

الأجل، لكن عدل عن هذا الحكم إلى حكم آخر، وهو: أن يده

لا تقطع؛ لأن ثبوت الحق - وإن تأخرت المطالبة - يصير شبهة

دارئة وإن كان لا يلزمه الإعطاء الآن، فعدم قطع اليد هنا ثبت

استحساناً.

بيان حجية الاستحسان بناء على هذا التعريف:

الاستحسان بهذا المعنى حُجَّة باتفاق العلماء؛ حيث لم ينكره

أحد، وإنما الخلاف في تسميته استحسانا، فبعضهم سماه بهذا الاسم

وبعض آخر لم يسمه بذلك.

وهو راجع إلى العمل بالدليل القوي الذي ترجح بذلك على ما

هو أضعف منه، وهذا لا نزاع فيه.

التعريف الثاني: أن الاستحسان هو: ما يستحسنه المجتهد بعقله.

وهو محكي عن أبي حنيفة رحمه الله.

والمراد منه: ما سبق إلى الفهم العقلي، دون أن يكون له دليل

شرعي يستند إليه من كتاب أو سُنة أو إجماع أو قياس، أو أي دليل

آخر معتمد شرعا.

ص: 994

بيان حجية الاستحسان بناء على هذا التعريف:

هل الاستحسان حُجَّة بناء على هذا التعريف " التعريف الثاني "؟

لقد اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن الاستحسان بهذا التعريف ليس بحُجَّة.

وهو المذهب الحق عندي؛ لأدلة ثلاثة:

الدليل الأول: حديث معاذ، وهو: أنه لما بعثه إلى اليمن قال

له: " إن عرض عليك قضاء فبمَ تقضي؟ "

قال: بكتاب الله،

قال: فإن لم تجد؟ "

قال: بسُنَةَ رسول اللَّه،

قال: " فإن لم تجد؟ "

قال: اجتهد رأيي ولا آلو، فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم.

وجه الدلالة: أن معاذاً ذكر الكتاب، والسُّنَّة، والاجتهاد، ولم

يذكر الاستحسان، فأقره النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك، فالاستحسان ليس بدليل، فلا يعتبر.

فإن قال قائل: إن الاجتهاد عام وشامل يضم القياس، والمصلحة

والاستحسان، فيدخل الاستحسان ضمن الأدلة.

فإنا نقول - في الجواب عن ذلك -: إن المقصود بالاجتهاد هو

الاجتهاد بالأدلة الشرعية، والاستحسان على تعريفكم إياه - وهو:

ما يستحسنه المجتهد بعقله - لا يدخل ضمن الأدلة المجتهد فيها؛

لعدم استناده إلى الأدلة الشرعية.

الدليل الثاني: أن الاستحسان بالتعريف الثاني - وهو: ما

يستحسنه المجتهد بعقله - لا ضابط له، كما أنه ليس له مقاييس

يقاس بها الحق من الباطل، فلو جاز لكل شخص أن يستحسن بعقله

كيفما شاء؛ لأدى ذلك إلى وجود أحكام مختلفة في النارلة الواحدة

لا ضابط لها، ولا معيار يبين الحق فيها.

ص: 995

الدليل الثالث: أن الاستحسان بالتعريف الثاني - وهو: ما

يستحسنه المجتهد بعقله - لو كان يصلح طريقا لإثبات الأحكام

الشرعية لما احتيج إلى الأدلة الشرعية، وحفظها، والاهتمام بها،

والحرص عنى دراستها دراسة دقيقة متانية من الكتاب والسُّنَّة، ولما

كان هناك فرق بين المجتهد العارف بتلك الأدلة، والعامي العاقل

الذي لا يعرف شيئاً عن تلك الأدلة، ويلزم منه أيضا: عدم اشتراط

أهلية النظر.

المذهب الثاني: أن الاستحسان بالتعريف الثاني حُجَّة.

وهو مذهب أبي حنيفة، وتبعه أكثر الحنفية.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: قوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) .

وجه الدلالة: أن الآية وردت في معرض الثناء والمدح لمتبع أحسن

القول، والقرآن كله حسن، ثم أمر باتباع الأحسن، ولولا أن

الاستحسان حُجَّة لما أورد ذلك.

وكذلك قوله تعالى: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) .

وجه الدلالة: أن اللَّه أمر باتباع أحسن مأ أنزل، فدل على ترك

بعض، واتباع بعض بمجرد كونه أحسن، وهو: معنى الاستحسان،

فدل على أن الاستحسان حُجَّة.

جوابه:

يجاب عنه باجوبة:

الجواب الأول: أن اللفظ عام فيدخل "فيه استحسان - العوام

ص: 996

والصبيان، فيلزم من ذلك اتباع استحسانهم، وهذا باطل، ولا

يقوله أحد، إذن الآيتان لا تصلحان للاستدلال بهما على حجية

الاستحسان.

الجواب الثاني: أن اتباع أحسن ما أنزل إلينا هو اتباع الأدلة،

وهذا واجب، فبينوا أولاً أن هذا مما أنزل إلينا فضلاً عن أن يكون من

أحسنه.

الجواب الثالث: أنا نستحسن إبطال الاستحسان، وأن لا يكون

لنا شرع سوى المصدق بالمعجزة، فليكن هذا حُجَّة عليهم.

الدليل الثاني: أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

" ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللَّه حسن ".

وجه الدلالة: أن هذا يدل على أن ما رآه الناس في عاداتهم ونظر

عقولهم مستحسنا فهو حق؛ لأن الذي ليس بحق فليس بحسن عند

الله تعالى، وما هو حق وحسن عند اللَّه فهو حُجَّة، ولولا أنه حُجَّة

لما كان عند اللَّه حسنا.

جوابه:

يجاب عنه بأجوبة:

الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن هذا الخبر مرفوع، بل هو موقوف

على ابن مسعود كما قال الزيلعي في " نصب الراية "، والسخاوي

في " المقاصد الحسنة "، وغيرهما.

الجواب الثاني: على فرض أن الحديث مرفوع، فإنه خبر واحد،

وخبر الواحد لا تثبت به قاعدة أصولية مثل " حجية الاستحسان ".

الجواب الثالث: أن المراد به ما رآه جميع المسلمين؛ لأنه لا

يخلو: إما أن يريد به جميع المسلمين، أو يريد به آحادهم.

ص: 997

فإن كان الأول - وهو: أن المراد به جميع المسلمين - فهو

صحيح؛ لأن الأُمَّة لا تجتمع على حسن شيء إلا عن دليل،

والإجماع حُجَّة، وهذا لا يخالف فيه أحد.

وإن أراد به الآحاد من المسلمين لزم منه استحسان العوام والصبيان،

وهذا لا يمكن.

فإن قال قائل - معترضا -: إنا نقصد استحسان من هو أهل

للنظر في الأدلة الشرعية، أما من ليس أهلاً للنظر كالصبيان والعوام

فلا يقبل استحسانهم.

فإنا نقول - في الجواب عنه -: إن المجتهد إذا استحسن الشيء

وحكم به بعقله دون النظر إلى الأدلة الشرعية، فلا فائدة في اشتراط

أهلية النظر في الأدلة؛ لأن الذي عنده الأهلية للنظر في الأدلة،

ولكنه لا ينظر هو مثل العامي والصبي الذي لا أهلية له أصلا في

النظر فيها سواء بسواء، فلا فرق بينهما، والجامع: الاستحسان

بالعقل المجرد دون النظر في الأدلة الشرعية.

الدليل الثالث: أن الأُمَّة قد استحسنت دخول الحمام من غير

تقدير أجرة، ولا تقدير للماء المصبوب، ولا تقدير لمدة اللبث في

الحمام، واستحسنت - أيضا - شرب الماء من أيدي السقائين من غير

تقدير العوض، ولا سبب لعدم تقدير ذلك إلا أن التقدير في مثل

هذه الأمور قبيح في العادة، فاستحسن الناس تركه، ووقع هذا

دليل على جوازه.

جوابه:

يجاب عنه: بأن عدم تقدير أجرة دخول الحمام، وعدم تقدير

ص: 998

الماء واللبث، وعدم تقدير العوض لمن شرب من أيدي السقائين

يحتمل احتمالين:

الاحتمال الأول: أنه يحتمل أن يكون سند ذلك السنة التقريرية؛

حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى الصحابة يفعلون ذلك ولا ينكر عليهم، وهذا من رخص الإسلام، وسبب هذه الرخصة هو: المشقة في تقدير الماء، والعوض؛ حيث إن الناس يختلفون في كمية الماء

المستعمل، وفي الوقت الذي يمكثون فيه بالحمام، ويختلفون في

كمية الماء المشروب.

الاحتمال الثاني: أنه يحتمل أن يكون سند ذلك: القياس؛ حيث

إن داخل الحمام مستبيح، فإذا أتلف ماء حمامي فعليه ثمن المثل،

وذلك لأن قرينة حاله تدل على طلب العوض فيما يبذله في الغالب،

وما يبذله يكون ثمن المثل فيقبله الحمامي إن رضي به، وإن لم يرض

به: طالبه بالمزيد إن شاء، فليس هذا أمرا جديدا، ولكنه مقاس،

والقياس حُجَّة.

وكذلك يقال في شارب الماء من السقاء، فإن عليه ثمن المثل،

فإن رضي السقاء، وإلا طالبه بالمزيد إن شاء.

فثبت إن عدم تقدير الماء والأجرة يثبت عن طريق السنة، أو

القياس، فقولكم: إنه ثبت عن طريق الاستحسان تحكم لا دليل

عليه.

التعريف الثالث للاستحسان: أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد

يعسر عليه التعبير عنه.

وهو لبعض الحنفية المتقدمين.

ص: 999

ومرادهم من هذا: أن الاستحسان دليل يستدل به المجتهد، وهذا

الدليل ينقدح في ذهن المجتهد لا يستطيع أن يظهره بعبارة أو لفظ.

بيان فساد هذا الثعريف:

أن هذا التعريف فاسد؛ لأن الدليل الذي لا يستطيع المجتهد أن

يفصح عنه - ويظهره، ويعبر عنه بلفظ لا يعلم هل هو وهم توهم

المجتهد أنه دليل، أو ليس كذلك، فلا بد للمجتهد من إظهاره،

والتعبير عنه بلفظ مفهم حتى نسبره ونختبره بواسطة الأدلة الشرعية

الأخرى، فإما أن نصححه، ويكون دليلاً معتبراً، أو نبطله فلا

يعتبر، أما الحكم بما لا يدرى ما هو فمن أين يعلم جوازه أبضرورة

العقل، أو نظره، أو بسمع متواتر أو آحاد، ولا وجه لدعوى شيء

من ذلك.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف في الاستحسان خلاف لفظي، بيان ذلك:

أن متأخري الحنفية لما رأوا هذا الإنكار الشديد على التعريف

الثاني، والتعريف الثالث للاستحسان اللذين نقلا عن بعض الحنفية

المتقدمين حاولوا أن يصححوا هذين التعريفين بسبب استقرائهم

وتتبعهم للفتاوى الصادرة عن أئمة الحنفية المتقدمين، فأتوا بتعريفات

تناسب الاستحسان الذي كان يطبقه المتقدمون منهم.

فقال أبو الحسن الكرخي: إن لفظ الاستحسان عندهم ينبئ عن

ترك حكم إلى حكم هو أوْلى منه، لولاه لكان الحكم الأول ثابتا.

ويقرب من ذلك قول بعض الحنفية: " الاستحسان: ترك طريقة

للحكم إلى أخرى أوْلى منها لولاها لوجب الثبات على الأولى ".

ص: 1000

ويقرب منه - أيضاً - تعريف الجصاص له بقوله: " بأنه ترك

القياس إلى ما هو أوْلى منه "، وكذلك فعل الدبوسي، والسرخسي

وغيرهما من أئمة الحنفية.

ثم جاءت الطبقة التي بعد هؤلاء من علماء الحنفية مثل الكمال بن

الهمام وابن عبد الشكور فلاحظوا تعريفات المتقدمين للاستحسان،

وتعريفات المتأخرين منهم له كالكرخي ومن معه، فجمعوا بينهما

بقولهم: إن الاستحسان قسمان: " عام " و " خاص ".

أما العام فهو كل دليل في مقابلة القياس الظاهر يقتضي العدول

عن القياس من نص، أو إجماع، أو ضرورة، أو غيرها.

أما الخاص فهو القياس الخفي في مقابلة القياس الجلي.

وإذا دققت في تعريفما الجمهور للاستحسان - وهو التعريف الأول

له - وما ذكرناه من أنواع له، ودققت في كلام الحنفية المتقدمين،

وما ذكره الحنفية المتأخرون من تعريفات وشروح وتفسيرات: لوجدت

أن التعريف الأول - وهو: " العدول بحكم المسألة عن نظائرها

لدليل خاص أقوى من الأول "، قد اتفق عليه الحنفية، والمالكية،

والشافعية، والحنابلة، إلا أن الحنفية قد عبروا عنه بلفظ يخالف تعبير

الجمهور.

ومن تتبع واستقرأ ما ورد عن الحنفية من تعريفات، وشروح

وتفسيرات وتطبيقات، لثبت أنهم لا يقولون بأن الاستحسان هو:

"ما يستحسنه المجتهد بعقله "، ولا يقولون بأنه: " دليل ينقدح في

نفس المجتهد يعجز عن التعبير عنه "، ولثبت أنهم يقولون: إن

الاستحسان: العدول في الحكم عن دليل إلى دليل هو أقوى منه،

وهذا مما لا ينكره الجمهور. فكان الخلاف لفظياً.

ص: 1001

وهذا ما أشار إليه ابن السمعاني رحمه الله؛ فإنه حينما ذكر

أن الخلاف في هذه المسألة لفظي: علل ذلك بأن تفسير الاستحسان

بما يشنع عليهم - أي: على الحنفية - لا يقولون به، والذي يقولون

به أنه العدول في الحكم عن دليل إلى دليل هو أقوى منه، فهذا مما

لا ننكره.

ص: 1002