الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني الدليل الثاني - من الأدلة المختلف فيها -
شرع من قبلنا
تعريفه:
المراد به: ما نقل إلينا من أحكام تلك الشرائع التي كانوا مكلفين
بها على أنها شرع لله تعالى.
حجيته:
ما أورده اللَّه عز وجل في كتابه، أو أورده رسوله صلى الله عليه وسلم في سُنَّته من القصص والأخبار والأحكام التي وردت في الشرائع السابقة من غير إنكار، ولم يدل دليل على أنها مشروعة في حقنا، ولم يدل
دليل على أنها منسوخة عنا مثل قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) ، فهل هذه الأحكام شرع لنا ملزمون بها أم لا؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن شرع من قبلنا شرع لنا، فيكون حُجَّة.
ذهب إلى ذلك الحنفية، والمالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد،
واختاروه أكثر الحنابلة، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة.
الدليل الأول: قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع جميع الأنبياء السابقين، فيكون هو متعبداً بشرع من قبله، فيجب ذلك في كل ما
ثبت عنهم إلا ما قام الدليل على أنه منسوخ.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) .
وجه الدلالة: أنه عئر بلفظ "- يحكم بها النبيون " بصيغة الجمع،
فيعم جميع الأنبياء عليهم السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم من جملة الأنبياء فوجب عليه الحكم بالتوراة، فيكون متعبداً بشرع من قبله.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) .
وجه الدلالة: أن هذا يدل على أن شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثل شرع غيره من الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى، ولا فرق بينهم في أخذ الأحكام من جميع الشرائع السابقة.
الدليل الرابع: قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى بين أن من لم يحكم بما أنزل اللَّه فقد
خرج عن الملَّة، والأحكام التي عمل بها النبيون السابقون هو مما
أنزل اللَّه، فَيجب العمل بها.
الدليل الخامس: قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم باتباع مِلَّة إبراهيم عليه السلام، وهو أمر مطلق، فيقتضي الوجوب، فيكون متعبداً بشرع من قبله.
اعتراض على تلك الأدلة الخمسة:
قال المعترض: إن تلك الآيات الخمس لا تصلح للاستدلال بها
على أن شرع من قبلنا شرع لنا، لأن المراد من تلك الآيات إنما هو
التوحيد، والأصول الكلية المعلومة في أصول الدين، ودلالة الأدلة
على وحدانيته وصفاته، ونحو ذلك، وهذه الأمور مشتركة بين
جميع الشرائع، وأما الأحكام الفرعية فإن الشرائع فيها مختلفة، فلا
يمكن اتباع الجميع فيها، خاصة أن فيها الناسخ والمنسوخ.
جوابه:
إن ألفاظ تلك الآيات عامة وشاملة لأصول الدين وفروعه، فيجب
حملها على هذا العموم، ولا يجوز تخصيص لفظ إلا بدليل ولا
دليل صحيح هنا، فينتج: أن شرع من قبلنا شرع لنا في الفروع
والأصول.
ونعمل بالحكم الناسخ منها، ونترك العمل بالحكم المنسوخ كما
نفعل بشريعتنا.
الدليل السادس: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن اللَّه تعالى قال:(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)
وجه الدلالة: أن الآية خطاب مع موسى عليه السلام فلو لم
يكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم متعبداً بما كان عليه موسى عليه السلام لما صح استدلاله بتلك الآية.
الدليل السابع: أن اللَّه تعالى إذا شرع حكما شرعيا فى حق أُمَّة
من الأمم السابقة فإن هذا يدل على أمرين:
أولهما: أن اللَّه سبحانه لم يشرعه إلا لأن مصلحة هذه الأُمَّة قد
اقتضت هذا الحكم.
ثانيهما: أنه لم يشرعه إلا لأنه قد اعتبره لكل زمان، ولكل
مكان، ولكل مكلَّف؛ حيث إنه شرع مطلق فيدخل فيه كل مكلَّف.
ونظراً إلى هذين الأمرين فإن الحكم الذي أنزله اللَّه تعالى في أي
شريعة يجب أن يستمر من حين نزوله إلى أن ينسخ، وبناء على ذلك
فيجب العمل بما جاء في الشرائع السابقة حتى يرد دليل على نسخه
وإبطاله، وليس في نفس بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب نسخ الأحكام التي قبله؛ لأن النسخ إنما يكون عند التنافي، ولم يوجد تنافي فلا نسخ إذن، فيكون شرع من قبلنا شرع لنا.
المذهب الثاني: أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، وليس بحُجَّة.
وهو اختيار الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) .
وجه الدلالة: أن معنى الشرعة: الشريعة، والمنهاج: الطريق
الواضح، وهذا يقتضي أن يكون كل نبي داعيا إلى شريعته - فقط -؛
لاختصاصه بها لا يشاركه في هذه الشريعة غيره من الأنبياء، فتكون
كل أمَّة مختصة بالشريعة التي جاء بها نبيهم - فقط -.
جوابه:
إن الشريعتين قد تتشاركان في بعض الوجوه إلا أن هذه المشاركة لا
تمنع من اختصاص كل نبي بشريعته، ونسبة هذه الشريعة إلى النبي
المبعوث بها؛ لأن أكثر الشريعة قد أتى بها ذلك النبي، وقد تتفق في
بعض الأحكام القليلة مع شريعة نبي آخر، فلا ينظر إلى هذا الأقل،
وإنما الحكم للأكثر.
مثل قولهم: " لحية زيد سوداء "، فهذا صحيح مع أن بها عدداً
من الشعيرات البيضاء، فأطلق عليها بأنها سوداء نظراً إلى الأكثر.
الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان متعبداً بشرائع من قبله للزمه البحث عنها، والعمل بها، ولوجب ألا ينتظر الوحي ولا يتوقف
في حكم الظهار، واللعان، والمواريث؛ لأن هذه الحوادث
أحكامها في التوراة ظاهرة، ولكنه - مع ذلك - لم يرجع إليها مما
يدل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا.
جوابه:
إن تلك الشرائع السابقة لو كانت ثابتة بطريق يوثق به لرجع إليها
النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الحق: أن تلك الشرائع السابقة لم تصلنا بطريق موثوق به، بل قد بُدِّلت، وغيِّرت، وقد أخبر اللَّه تعالى بذلك، ويستحيل خلاف خبر اللَّه تعالى.
الدليل الثالث: أنه لو كان شرع من قبلنا شرع لنا دليلاً من أدلة
الأحكام التي يجب أن يرجع إليها لكان تعلمه، والاطلاع عليه،
وحفظه، ونقله، والحرص على سنده، والاهتمام به فرضاً من
فروض الكفاية كغيره من الأدلة الشرعية مثل القرآن والسُّنَّة.
جوابه؛ هو نفس الجواب عن الدليل الثاني لهم؛ حيث يقال: إنه لو
كانت تلك الشرائع السابقة قد وصلتنا بطريق موثوق به بدون تغيير
ولا تبديل لجاز أن نتعلمها ونهتم بها كما نهتم بأي دليل آخر.
الدليل الرابع: أنه لو كان شرع من قبلنا شرع لنا دليلاً من أدلة
الأحكام لوجب على الصحابة - رضي اللَّه غنهم - أن يرجعوا إلى
تلك الشرائع، ويبحثوا عنها، ويسألوا ناقليها عند حدوث الحوادث
المختلف فيها فيما بينهم مثل: مسألة الجد والإخوة، والعول،
والمشركة، وغيرها، ولكن الواقع يخالف ذلك، فلم يرجع أي
واحد من الصحابة إلى شرع من قبلنا لمعرفة حكم شرعي مع إسلام
كثير ممن يوثق به من اليهود والنصارى.
جوابه:
هو نفس الجواب السابق عن الدليل الثاني لهم؛ حيث يقال: إنه
لو كانت تلك الشرائع السابقة قد وصلتنا بطريق يوثق به بدون تغيير
لرجع إليها الصحابة.
الدليل الخامس: أن صلى الله عليه وسلم قد غضب لما رأى بيد عمر بن الخطاب قطعة من التوراة وقال: " ما هذا؟ ألم آت بها بيضاء نقية؛
لو أدركني موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي ".
وجه الدلالة: أنه لو كان شرع من قبلنا شرع لنا لما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
جوابه:
هو نفس الجواب السابق عن الدليل الثاني لهم؛ حيث يقال: إنه
لو كانت تلك الشرائع السابقة وصلتنا سليمة بدون تحريف ولا تبديل
لأقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه يعلم أن اليهود قد حرَّفوا ما جاء في التوراة، ولهذا أنكر عليه.
الدليل السادس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صوَّب معاذاً لما ذكر أن الأدلة
التي يجب أن يرجع إليها هي: الكتاب، والسُّنَّة، والاجتهاد،
فلو كان شرع من قبلنا شرع لنا لذكر مع تلك الأدلة.
جوابه:
هو نفس الجواب السابق عن الدليل الثاني لهم؛ حيث إنه لو
كانت تلك الشرائع السابقة غير محرفة لذكرت مع تلك الأدلة، ثم
إن شرع من قبلنا نوع من أنواع الاجتهاد كالقياس، وقول الصحابي،
والمصلحة.
الدليل السابع: قوله صلى الله عليه وسلم:
"أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود ".
وجه الدلالة: أن هذا صريح في أن كل نبي يُبعث إلى قومه فقط،
وشريعته اختصت بهم، ولو قلنا: إن شرعهم هو شرع لنا: للزم
من ذلك أنا نشاركهم في شرعهم، وهذا يناقض الاختصاص؛ حيث
إن مشاركتنا لهم تمنع ذلك الاختصاص.
جوابه:
إن هذا لا يفيد أن كل نبي يختص شرعه قومه فقط - كما زعمتم -
بل قد يبعث النبي صلى الله عليه وسلم بشرع قد يشوبه شيء من شرع من قبله، أو بعض شرع من قبله، وهذا لا يمنع من ذلك الاختصاص، كما قلنا في جوابنا عن دليلكم الأول.
الدليل الثامن: أن الأُمَّة قد أجمعت على أن هذه الشريعة هي
شريعة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التي أوحى بها إليه اللَّه تعالى، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم متعبداً باتباع شرع من قبله في الجملة لما نسب إليه شيء
من شرعنا، ولكان مخبراً عنها، وناقلاً لشرائع من قبله فقط، لا
شارعاً لها ابتداء.
جوابه:
إن اللَّه تعالى إذا تعبد نبينا بشرع من قبلنا لم يكن في ذلك نقص،
ولا إقلال من منصبه، ولا جعله تابعاً لغيره؛ لأنه في ذلك قد أطاع
الله، واتبعه، ولم يتبع غيره من الأنبياء السابقين.
بيان نوع الخلاف:
لقد اختلف في الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو معنوي؟
على قولين:
القول الأول: أن الخلاف معنوي له ثمرة وهو الصواب؛ حيث
إن أصحاب المذهب الأول قد استدلوا بشرع من قبلنا وجعلوه من
أدلتهم في إثبات أحكام شرعية، منها:
أنهم استدلوا به على قتل الرجل بالمرأة، حيث إن قوله تعالى:
(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ..) يدل على ذلك مع أنه
خطاب من قبلنا.
كذلك استدلوا به على جواز الجعالة - وهي: الإجارة على منفعة
مظنون حصولها مثل مشارطة المعلم - على حذق المتعلم - وقالوا: إن
قوله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير..) يدل على ذلك مع أنه
وارد في شرع من قبلنا.
وكذلك استدلوا به على ضمان ما تفسده الدواب المرسلة في
الليل؛ حيث إن قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) والنفش عند أهل اللغة لا يكون إلا في الليل.
أما أصحاب المذهب الثاني - وهو القائلون: إنه ليس بحجة -
وإن كانت بعض تلك الأحكام جائزة عندهم إلا أنهم لم يستدلوا
بشرع من قبلنا، بل استدلوا بأدلة أخرى.
القول الثاني: إن الخلاف لفظي، لا ثمرة له؛ حيث إنا نجد
أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إنه حُجَّة - لا يحتجون به
لوحده على إثبات حكم شرعي، بل يذكرونه مع عدد من الأدلة
الشرعية الثابتة بشرعنا، فهو ليس العمدة عندهم في إثبات الحكم،
فهم بذلك موافقون أصحاب المذهب الثاني في أنه ليس بحجة يعتمد
عليه لوحده.
جوابه:
إنا نسلم أن أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن شرع مَن
قبلنا حُجَّة - لا يستدلون به على إثبات الحكم لوحده، بل يعضدونه
بأدلة أخرى ثابتة بشرعنا، ولكنهم اعتمدوه دليلاً معاضداً ومقويا
للأدلة الأخرى، ولو لم يوجد في المسألة إلا هو لاستدلوا به
لوحده، ولكنهم يذكرونه مع غيره من باب تعاضد الأدلة كما يفعل
كثير من المجتهدين حينما يريدون الاستدلال على حكم معين.
أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن شرع من قبلنا
ليس بشرع لنا - فإنهم لا يذكرونه مع الأدلة الثابتة بشرعنا، ولو لم
يوجد إلا هو لما استدلوا به على إثبات حكم شرعي، فهذا هو
الخلاف بين المذهبين، وما دام أنه وجد خلاف، إذن الخلاف معنوي.