الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب العاشر الأمر المطلق هل يقتضي فعل المأمور به
مرة واحدة أو التكرار
؟
إذا كان الأمر مقيداً بمرة واحدة مثل قولك: " اعط زيداً درهما مرة
واحدة " أو مقيداً بمرات كقولك: " اعط زيداً درهما ثلاث مرات "
فإن الأمر في هاتين الحالتين يكون مقيداً لما قيد به من المرة أو المرات،
وهذا بالاتفاق.
أما إذا وردت صيغة الأمر وهي: " افعل " مطلقة، أي: مجردة
عن القرائن، فهل تقتضي فعل المأمور به مرة واحدة، أو أنها تقتضي
التكرار؟
اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، أي: لا
يقتضي إلا فعل المأمور به مرة واحدة - فقط -، فلو قال السيد
لعبده: " صم "، فإنه يخرج عن العهدة وتبرأ ذمته بصوم يوم واحد
فقط.
وهو مذهب أكثر الحنفية والظاهرية، ورواية عن الإمام أحمد،
وهو اختيار كثير من الحنابلة كأبي الخطاب، وابن قدامة، ونُسب إلى
اكثر العلماء والمتكلمين، وهو الحق عندي للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن قول القائل لغيره: " ادخل الدار " معناه: كن
داخلاً، وبدخلة واحدة يوصف بأنه داخل، فكان ممتثلاً، وكان
الأمر عنه ساقطاً.
اعتراض على هذا:
قال قائل - معترضا -: هو بالدخلة الثانية يوصف بأنه داخل
- أيضا - فالدخلة الثانية تكون داخلة تحت الأمر.
جوابه:
إنه بالدخلة الأولى يكون داخلاً على الكمال؛ لأن بها يسمى
داخلاً على الإطلاق، فكمل بها فائدة الأمر، فاما الدخلة الثانية،
فتكرار لفائدة الأمر بعد استكمالها.
الدليل الثاني: قياس الأمر المطلق على اليمين، والنذر، والوكالة، والخبر.
بيان ذلك:
1 -
أنة - لو حلف قائلاً: " واللهِ لأصومن "، فإنه يَبَر بصوم يوم
واحد.
2 -
أنه لو نذر قائلاً: " لله علي أن أصوم "، أو قال: " لله
عليّ أن أتصدق "، فإنه يكون قد أوفى بنذره بصوم يوم واحد،
والتصدق بدرهم واحد مرة واحدة.
3 -
أنه لو قال لوكيله: " طلق زوجتي فلانة " لم، يجز للوكيل
أن يطلق أكثر من مرة واحدة.
4 -
أنه لو أخبر عن نفسه، وقال:" قد صمت "، فإنه يكون
صادقا لو صام يوما واحداً، ولو قال:" سوف أصوم "، لكان
صادقا بصوم يوم واحد.
فإذا كانت هذه الأمور يكتفي فيها بمرة واحدة، ويخرج بفعل هذه
المرة عن العهدة، فكذلك الأمر المطلق، فإذا أمر الشخص أمراً
مطلقا بشيء، فإن الواجب عليه فعل هذا الشيء مرة واحدة فقط،
وتبرأ ذمته.
اعتراض على ذلك:
قال قائل - معترضا -: إن الأمر في اليمين والتوكيل يقتضي
التكرار من جهة اللغة، ولكن تركنا مقتضى اللغة بالشرع، ولا يمتنع
أن يكون اللفظ في اللغة يقتضي أمراً، ثم يقرر الشرع فيه غير مقتضاه
في اللغة، كما لو حلف وقال:" والله لا آكل الرؤوس "، فإنه
يعم في اللغة كل رأس، وفي الشرع يُحملَ على رؤوس الغنم.
جوابه:
لا نسلم أن الشرع يغير مقتضى اللغة، وإنما الشرع يُقرر اللغة،
ويضيف إليها حكما زائداً، بدليل: أنه لو قال: " افعل ذلك أبداً "
أو قال: " طلق زوجتي ما أملكه ": لم يقطعه الشرع عن مقتضاه
في اللغة، فلا يقطعه عن التكرار، أما مسألة الرؤوس فلا نسلمها؛
حيث إنه يحمل على مقتضاه في اللغة.
الدليل الثالث: أن السيد لو قال لعبده: " ادخل الدار ".
فإنه لو دخل مرة واحدة، ثم خرج: لخرج عن العهدة، ولا
يجوز لومه، ولا توبيخه، ولو أن السيد لام عبده بسبب أنه لم
يدخل مرة ثانية وثالثة لخطأه العقلاء من أهل اللغة؛ لأنه بدخوله مرة
واحدة يكون قد امتثل الأمر، والصيغة لا دلالة فيها على العدد.
المذهب الثاني: أن الأمر المطلق يقتضي التكرار.
وهو مذهب بعض الشافعية كالأستاذ أبي إسحاق، وهو رواية عن
الإمام أحمد، وهو اختيار بعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى، وهو
قول جماعة من الفقهاء والمتكلمين.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن أبا بكر رضي الله عنه قد قاتل من منع
الزكاة، واستند في ذلك على قوله تعالى:(وَآتُوا الزَّكَاةَ) ؛
حيث إنه حمل هذا الأمر على أنه لا بد أن يتكرر، وكان ذلك
بحضرة الصحابة، فكان ذلك إجماعاً منهم على أن الأمر يفيد
التكرار وإلا لما سكتوا على تلك المخالفة، ولما صح لأبي بكر
محاربة أهل الردة على ذلك؛ لكونهم قد امتثلوا دفع الزكاة في عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم.
جوابه:
إن تكرار دفع الزكاة ثبت عن طريق قرينة وهي: كون النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذها منهم مراراً في أعوام متعددة،
وهذا خارج عن محل النزاع، لثبوت القرينة.
الدليل الثاني: أن الأمر لا اختصاص له بزمان دون زمان؛ لأنه لا
يوجد زمان أَوْلى من زمان آخر، فاقتضى إيقاع الفعل في جميع
الأزمان.
جوابه:
لا نسلم ذلك، بل الأمر يختص بأقرب الأزمان إليه؛ لأن الأمر
يقتضي الفور، فيختص إيقاع الفعل بأقرب الأوقات إليه، فيكون
مقتضى الأمر: افعله في أول الأوقات، فإن فات فافعله في الثاني،
فإن فات الثاني فافعله في الثالث، وهكذا، فعلى هذا: لا يكون
الأمر عاماً في جميع الأزمان.
"الدليل الثالث: قياس الأمر على النهي، بيانه:
أن الأمر كالنهي بجامع أن كلًّا منهما: استدعاء وطلب، فالنهي
أفاد وجوب ترك الشيء، والأمر أفاد وجوب فعله.
والنهي اقتضى وجوب الترك أبداً، فكذلك الأمر يجب أن يكون
مثله بأن يقتضي الفعل أبداً.
جوابه:
أن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن
النهي يقتضي عدم الماهية، وعدمها إنما يكون بعدم الإتيان بها في أي
فرد من أفرادها، بخلاف الأمر فإنه يقتضي طلب الماهية، والماهية
تتحقق ولو بفرد من أفرادها، فمقتضى التكرار موجود في النهي،
وليس موجوداً في الأمر.
الدليل الرابع: أن الأمر يقتضي العزم والفعل، ثم إنه يقتضي
العزم على التكرار، فكذلك يقتضي الفعل على التكرار، ولا فرق.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنه لا يمتنع أن يجب دوام العزم، دون دوام
الفعل كما لو قال: " صل مرة "، فإن العزم والاعتقاد تجب
استدامته، ولا تجب استدامة الفعل، فإذا فعل الصلاة وصلى ركعتين
برأت ذمته، لكن دوام العزم والاعتقاد واجب.
الجواب الثاني: أن قياس الفعل على الاعتقاد والعزم قياس فاسد؛
لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن الاعتقاد والعزم على الفعل
لم يجب بصيغة الأمر الواردة، وإنما يُستند في وجوبه إلى قيام
الدلالة على صدق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإذا أخبر بالوجوب: وجب
اعتقاده، فإذا عرف المكلَّف الأمر فلم يعتقد وجوبه صار مكذبا له في
خبره، فيصير كافراً بذلك.
بخلاف الفعل، فإنه يجب بصيغة الأمر، فإذا فعل ما يصح أن
يعلم الآمر أنه ممتثل كفاه مثل: أن يقول: " صل " فيصلي المأمور
ركعتين - فقط - فيحسن أن يقول: " قد صليت ".
المذهب الثالث: أن الأمر لا يدل على التكرار ولا على المرة
الواحدة، وإنما يدل على طلب الماهية، والماهية كما تتحقق في المرة
الواحدة تتحقق كذلك في غيرها، إلا أن المرة الواحدة ضرورية،
وليست المرة مما وضع له الأمر.
وهو مذهب بعض الشافعية كالإمام الرازي، والآمدي،
والبيضاوي.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الأمر المطلق ورد استعماله في التكرار شرعا
وعرفا، أما في الشرع فمثل قوله تعالى:(أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)
أما في العرف فمثل قولك: " أحسن إلى الناس ".
وورد استعمال الأمر المطلق في المرة الواحدة شرعا وعرفا.
أما في الشرع فمثل قوله عليه الصلاة والسلام: " إن اللَّه كتب
عليكم الحج فحجوا ".
أما في العرف فمثل قول السيد لعبده: " اشتر اللحم ".
والأصل في الاستعمال الحقيقة، فبطل أن يكون اللفظ حقيقة في
واحد منهما مجازاً في الآخر؛ لأن المجاز خلاف الأصل،
ولا يجوز أن يقال: إنه وضع لكل واحد منهما حقيقة؛ لأن هذا يلزم
منه أن يكون الأمر المطلق مشتركا لفظياً، والاشتراك خلاف الأصل،
وتخلصاً من ذلك فإنه يقال: إن اللفظ - وهو لفظ الأمر المطلق -
وضع للقدر المشترك بينهما، وهو طلب الماهية.
جوابه:
إذا كان الأمر المطلق وضع للقدر المشترك وهو طلب الماهية - كما
زعمتم - فإنه يلزم من هذا: أنه إذا استعمل في المرة الواحدة، أو
التكرار يكون عن طريق المجاز؛ لأنه استعمال له في غير ما وضع
له، وينتج من ذلك: تكثير المجاز، وهو خلاف الأصل.
فوجب القول بأنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر؛ تقليلاً
للمجاز بقدر الإمكان.
ونظراً لقوة أدلتنا على أن الأمر المطلق يقتضي المرة الواحدة،
وضعف أدلة القائلين: إن الأمر يقتضي التكرار - كما سبق بيانه -
فإن لفظ الأمر المطلق يقتضي المرة الواحدة حقيقة، ولا يحمل على
أنه يقتضي التكرار إلا بقرينة، فيكون مجازاً فيه.
الدليل الثاني: أنه يحسن السؤال من المأمور بهذه الصيغة، فإذا
قال السيد لعبده: " قم "، فإنه يحسن من العبد أن يسأل ويقول:
ماذا تريد بأمرك هذا؛ هل تريد فعل المأمور به مرة، أو فعله أكثر من
مرة؛ فهذا الاستفسار يدل على أنه لا يفهم من الصيغة المرة الواحدة ولا
التكرار، بل لا يفهم منها إلا طلب الماهية.
جوابه:
إن السؤال والاستفسار قد استحسن هنا طلبا لتأكيد العلم أو الظن:
-
فالمأمور فهم عدم التكرار؛ ولكنه استفسر ليتأكد من ذلك، والتأكيد
يكون؛ لئلا يتسع الفهم، أو طرد المجاز، لذلك يدخل في الخبر
فيقول شخص: " ختمت الليلة الماضية القرآن "، فسمع السامع
هذا، ولكنه أراد أن يتأكد فقال:" ختمت القرآن الليلة الماضية؛ ".
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا فيه تفصيل:
الخلاف الأول:
وهو الخلاف بين أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن
الأمر المطلق لا يقتضي التكرار - وبين أصحاب المذهب الثاني - وهم
القائلون: إن الأمر يقتضي التكرار - خلاف معنوي؛ حيث تأثر
بهذا الخلاف بعض الفروع الفقهية، ومنها:
1 -
حكم السارق مرة ثانية.
أصحاب المذهب الأول: يرون أن السارق إذا سرق مرة ثانية فلا
تقطع يده اليسرى بدليل: أن الأمر في قوله تعالى:
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) لا يقتضي التكرار، ولا يحتمله، فلا
تقع من الأيدي إلا يمين السارق فقط.
أما أصحاب المذهب الثاني: فإنهم قالوا: الأصل: أن تقطع يد
السارق اليسرى إذا سرق مرة ثانية؛ لأن الأمر في الآية السابقة يقتضي
التكرار، ولكن هناك قرينة منعت من العمل على هذا الأصل وهي:
مراعاة حال السارق، وجعله ينتفع باليسرى.
2 -
إذا وكل شخص شخصا آخر يطلاق امرأته فماذا يملك؟
لو قال شخص لشخص آخر: " طلق زوجتي فلانة "، فقد
اختلف في ذلك.
فأصحاب المذهب الأول يقولون: إنه لا يجوز للوكيل أن يطلق
إلا مرة واحدة؛ لأن الأمر عندهم يقتضي المرة الواحدة.
أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم قالوا: إنه يجوز للوكيل أن
يطلق أكثر من طلقة؛ لأن الأمر عندهم يقتضي التكرار.
الخلاف الثاني:
وهو الخلاف بين أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن
الأمر لا يقتضي التكرار -، وبين أصحاب المذهب الثالث - وهم
القائلون: إن - الأمر لا يقتضي التكرار، ولا المرة الواحدة -: فإن
هذا الخلاف يمكن أن يكون لفظيا، ويمكن أن يكون معنويا.
فيكون الخلاف لفظيا إذا نظرنا إلى أن أصحاب المذهبين قد اتفقا
على أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، فمقصد أصحاب المذهب
الثالث هو: نفي التكرار والخروج عن العهدة بالمرة الواحدة ضرورة،
وهو نفسه مقصد أصحاب المذهب الأول، فلا خلاف إذن.
ويكون الخلاف معنوياً إذا نظرنا إلى دلالة الأمر المطلق على المرة
هل هي بطريق المطابقة أو الالتزام؟
فبناء على المذهب الأول - وهو: أن الأمر المطلق يقتضي المرة
الواحدة ولا يقتضي التكرار، فإن الأمر المطلق يدل على المرة الواحدة
دلالة مطابقة.
وبناء على المذهب الثالث - وهو: أنه لا يقتضي المرة ولا التكرار
وإنما هو طلب الماهية، فإن الأمر المطلق يدل على المرة الواحدة دلالة
التزام: على اعتبار أنها لازمة للامتثال؛ إذ لا يحصل بأقل منها.