الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ْ
المطلب الخامس عشر امتثال الأمر هل يحصل به الإجزاء ويسقط القضاء
؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن امتثال الأمر يحصل به الإجزاء، ويسقط
القضاء.
أي: أن الأمر يقتضي وقوع الإجزاء بفعل المأمور به إذا امتثل وفعل
المأمور على الصفات والشروط التي أمر الشارع بها.
فالمكلف إذا أتى بالمأمور به على الوجه المشروع يستلزم الإجزاء.
وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن الأصل براءة الذمة من جميع التكاليف، فإذا
أمر المكلف بفعل شيء فإن ذمته تكون مشغولة بهذا المأمور به، أي:
أن الأمر اقتضى الوجوب في الذمة، ولا يمكن أن تبرأ ذمته إلا بأحد
طريقين:
الأول: أداء وفعل المأمور به على الوجه المشروع.
الثاني: إبراء المكلف مما عليه من الديون - مثلاً - وهذا خاص
با لآدميين.
فإذا كان المأمور به واجباً مما أوجبه اللَّه عليه: فلا تبرأ ذمته، ولا
يخرج عن العهدة إلا بالإتيان به وفعله، فإذا فعله على الوجه
المشروع تكون ذمته بذلك بريئة من هذا التكليف كما كانت في
الأصل، فدل على أن امتثال الأمر يحصل به الإجزاء، وإسقاط
القضاء، وإبراء الذمة.
الدليل الثاني: أن المأمور بفعل شيء وفعله على الوجه المشروع إذا
قيل له: " هل فعلت ما أمرت به؟ " حسن أن يقول: " نعم
فعلت " ويكون خبره صدقا، فلو كان امتثال الأمر لا يحصل به
الإجزاء وليس مسقطا للقضاء لكان خبره غير صدق.
الدليل الثالث: أنه لو كان امتثال الأمر لا يحصل به الإجزاء ولا
بسقط القضاء ولا يخرج عن العهدة: للزم من ذلك الامتثال طول
عمرة: فمثلاً: لو قال: " صم " فامتثل المأمور وصام يوما واحداً
- كما اقتضت صيغة الأمر:: فإنه - مع الامتثال - يجب القضاء؛
حيث إن الأمر لا زال متوجها إليه بصوم يوم كما كان متوجهاً إليه
قبل الامتثال، فيكون فعل المأمور به لازما له طول عمره، وهذا
خلاف ما أجمع عليه العلماء.
المذهب الثاني: أن امتثال الأمر لا يمنع من وجوب القضاء،
فامتثال الأمر لا يسقط القضاء.
وهو مذهب بعض المعتزلة كالقاضي عبد الجبار بن أحمد، وأبي
هاشم..
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: إن قولنا: " يجزئه " معناه: أنه لا يجب عليه
القضاء، وقد علمنا أنه غير ممتنع أن يأمر الحكيم بفعل من الأفعال،
ويقول: إذا فعلتموه فقد فعلتم الواجب، واستحققتم الثواب،
وعليكم القضاء، وهناك أمثلة في الشرع تؤيد ذلك، ومنها:
1 -
أن المسلم إذا فسد حجه فإنه مأمور بأن يكمله ويمضى فيه،
مع أنه يجب عليه قضاؤه في السنة القادمة.
2 -
أن المسلم قد أمر أن يصلي بغير طهارة إذا عدم الماء والتراب،
ثم يجب قضاء تلك الصلاة إذا وجد الماء أو التراب.
3 -
أن المسلم إذا ظن أنه على طهارة وهو في آخر الوقت، فإن
الصلاة واجبة عليه، وهو مأمور بها، ومع ذلك فعليه قضاؤها إذا
علم أنه كان على غير طهارة.
4 -
أن المكلَّف مأمور بالإمساك في الصوم الفاسد كأن يصوم يوما
على أنه من شعبان، فتبين أنه من رمضان، فهذا إذا صامه فإنه يؤجر
عليه، ومع ذلك يجب قضاؤه.
جوابه:
إن المأمور إذا فعل المأمور به على الوجه الشرعي: فإن ذلك يمنع
لزوم القضاء؛ لأن القضاء للعبادة المؤقتة هو: فعلها بعد خروج
وقتها المحدد شرعاً، ويكون ذلك لأحد أمرين هما:
1 -
إما لأن العبادة ما فعلت أصلاً.
2 -
أو فعلت على وجه الفساد.
وكل من الأمرين غير حاصل؛ لأن المأمور بالعبادة قد فعلها في
وقتها بكمال شروطها على الوجه المشروع، فلم يُتصوَّر لزوم القضاء.
أما إذا حصل أحد الأمرين فلا شك أنه يجب عليه القضاء، وإن
كان فاعلاً له، فالحج الفاسد، والصوم الفاسد، والصلاة الفاسدة
فلا نسلم أن القائم بها قد امتثل الأمر؛ لأنه لم يأت بها على ما
اقتضاه الأمر؛ حيث إنه أوقعها فاسدة، فلم يأت بها على الوجه
الشرعي، فيبقى التعبد الواجب بالأمر في ذمته، ولن تبرأ هذه الذمة
من الأمر إلا إذا تدارك الخلل، وقضاها على الوجه المشروع.
أما إذا أتى بالحج والصوم والصلاة كاملة ومستوفية لجميع شروطها
فإن ذمته تبرأ بذلك الإتيان والامتثال، فلا يعقل مع ذلك إيجاب
القضاء.
-
الدليل الثاني: أن القضاء يجب بأمر جديد - كما هو مذهب أكثر
العلماء، كما قلنا سابقا - وإذا كان الأمر كذلك فلا دلالة للأمر على
امتناع التكليف بمثل فعل ما أمر به، فلا يكون الأمر مقتضيا له.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن القضاء يجب بأمر جديد - كما هو
مذهبنا كما سبق بيانه - حيث إننا قد صححنا: أن القضاء يجب
بالأمر السابق، ولا يحتاج إلى أمر جديد.
الجواب الثاني: إن سلمنا صحة أن القضاء يجب بأمر جديد، فإن
القضاء إنما سمي بذلك، لأنا نقضي العبادة التي فات وقتها، ولم
نفعلها، لذلك قلنا في حقيقة القضاء: " إنه فعل الشيء بعد خروج
وقته شرعاً "، وقد سبق بيانه، وهذا هو الذي نتفق معكم على
تسميته قضاء، فإن لم يكن كذلك فلا يمكن أن نسميه قضاء.
أما إذا وقع الفعل صحيحا لا خلل فيه ثم فعل مرة أخرى، فلا
يُسمى ذلك قضاء.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي، لأنه إن كان المراد لزوم الإتيان بمثله فهي
مسألة: " الأمر المعلق يقتضي التكرار "، والخلاف فيها كما سبق،
وعلى هذا فالأول يجزئ عن الآخر.
وإن كان المراد: أن الفعل الأول فيه خلل ولم يقع الموقع فهو غير
مجزئ، ويجب القضاء بالاتفاق.