المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب السابع في المبين - بفتح الياء - والمبين - بكسرها - والبيان - المهذب في علم أصول الفقه المقارن - جـ ٣

[عبد الكريم النملة]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثاني في الأدلة المختلف فيها

- ‌المبحث الأول في الدليل الأول - من الأدلة - المختلف فيها- الاستصحاب

- ‌المبحث الثاني الدليل الثاني - من الأدلة المختلف فيها -شرع من قبلنا

- ‌المبحث الثالث في الدليل الثالث من الأدلة المختلف فيها قول الصحابي

- ‌المبحث الرابع في الدليل الرابع - من الأدلة المختلف فيها - الاستحسان

- ‌المبحث الخامس في الدليل الخامس - من الأدلة المختلف فيها -وهو: المصلحة المرسلة

- ‌المبحث السادس في الدليل السادس - من الأدلة المختلف فيها -سد الذرائع

- ‌المبحث السابع في الدليل السابع - من الأدلة المختلف فيها -وهو: العرف

- ‌المبحث الثامن في الدليل الثامن - من الأدلة المختلف فيها -- الاستقراء

- ‌الباب الرابع في الألفاظ ودلالتها على الأحكام

- ‌الفصل الأول في اللغات

- ‌المبحث الأول في تعريف اللغات، واللفظ، والكلام، والنطقوالقول، وسبب وضع اللغات

- ‌المبحث الثاني في دلالة اللفظ على معناه هل هي بالوضعأو لمناسبة طبيعية بين اللفظ والمعنى

- ‌المبحث الثالث في مبدأ اللغات أي: هل اللغات توقيفية أو اصطلاحية

- ‌المبحث الرابع في هل يجري القياس في اللغة

- ‌الفصل الثاني في الدلالة وتقسيم اللفظ

- ‌المبحث الأول في تعريف الدلالة وأقسامها

- ‌المطلب الأول تعريف الدلالة

- ‌المطلب الثاني أقسام الدلالة

- ‌المطلب الثالثتعريف الدلالة اللفظية الوضعية

- ‌المبحث الثاني في تقسيم اللفظ

- ‌المطلب الأول في تقسيم اللفظ باعتبار الإفراد والتركيب

- ‌المطلب الثاني في تقسيم اللفظ المفرد

- ‌المطلب الثالث في تقسيم المركب

- ‌الفصل الثالث في الاشتقاق

- ‌المبحث الأول في تعريف الاشتقاق

- ‌المبحث الثاني أركان الاشتقاق

- ‌المبحث الثالث هل يُشترط كون المشتق حقيقة: دوام أصلهوهو: بقاء المشتق منه

- ‌الفصل الرابع في الاشتراك

- ‌المبحث الأول تعريفه

- ‌المبحث الثاني هل المشترك ممكن وثابت وواقع في اللغة

- ‌المبحث الثالث أقسام اللفظ المشترك بالنسبة لمسمياته

- ‌المبحث الرابع هل يصح استعمال المشترك في كل معانيه إذا أمكن الجمع بينها

- ‌المبحث الخامس بيان أن الاشتراك خلاف الأصل

- ‌المبحث السادس حالات اللفظ المشترك عند وجود القرينة أو عدمه

- ‌المبحث السابع الفرق بين المشترك والمتواطئ

- ‌المبحث الثامن الفرق بين المشترك والمتواطئ والمشكك

- ‌الفصل الخامس في الترادف

- ‌المبحث الأول تعريف الترادف

- ‌المبحث الثاني حكم الترادف

- ‌المبحث الثالثأسباب الترادف

- ‌المبحث الرابعشرط الترادف

- ‌المبحث الخامسبيان أن الترادف خلاف الأصل

- ‌المبحث السادس هل يجوز استعمال أحد المترادفين مكان الآخر

- ‌الفصل السادس في التأكيد والتابع

- ‌المبحث الأول في التأكيد

- ‌المطلب الأولتعريف التأكيد

- ‌المطلب الثاني الفرق بينه وبين المترادف

- ‌المطلب الثالث حكم التأكيد

- ‌المطلب الرابعأقسام التأكيد

- ‌المبحث الثاني في التابع

- ‌المطلب الأولتعريف التابع

- ‌المطلب الثانيالفرق بين التابع وبين المترادف

- ‌المطلب الثالث بيان وجه الاتفاق بين التابع والتأكيد

- ‌الفصل السابع في الحقيقة والمجاز

- ‌المبحث الأول في الحقيقة

- ‌المطلب الأولتعريف الحقيقة

- ‌المطلب الثاني أقسام الحقيقة

- ‌المبحث الثاني في المجاز

- ‌المطلب الأولفي تعريف المجاز

- ‌المطلب الثاني هل المجاز واقع في اللغة

- ‌المطلب الثالثأنواع العلاقة في المجاز

- ‌المطلب الرابعهل النقصان يعتبر من المجاز

- ‌المطلب الخامس أسباب العدول إلى المجاز

- ‌المطلب السادسبيان أن الحقيقة لا تستلزم المجاز

- ‌المطلب السابعهل المجاز يستلزم الحقيقة

- ‌المطلب الثامن اللفظ الذي يكون حقيقة ومجازاً والذي لا يكون

- ‌المطلب التاسع بيان أن المجاز خلاف الأصل

- ‌المطلب العاشر طرق معرفة الحقيقة من المجاز

- ‌المطلب الحادي عشر بيان أنه إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجازفإنه يحمل على الحقيقة

- ‌المطلب الثاني عشر بيان أنه إذا غلب المجاز في الاستعمالفإن اللفظ يحمل عليه

- ‌الفصل الثامن في تعارض ما يخل بالفهم

- ‌الفصل التاسع في النص، والظاهر، والمجمل وما يتعلق بها

- ‌المبحث الأول في النص

- ‌المطلب الأولتعريف النص

- ‌المطلب الثاني حكم إطلاق النص على الظاهر

- ‌المطلب الثالثحكم النص

- ‌المبحث الثاني في الظاهر

- ‌المطلب الأولتعريف الظاهر

- ‌المطلب الثانيحكم الظاهر

- ‌المطلب الثالث في التأويل

- ‌المبحث الثالث في المجمل

- ‌المطلب الأولتعريف المجمل

- ‌المطلب الثانيأسباب الإجمال

- ‌المطلب الثالثدخول الإجمال في الأفعال

- ‌المطلب الرابع حكم المجمل

- ‌المطلب الخامسنصوص اختلف في كونها مجملة

- ‌المطلب السادسهل يجوز بقاء المجمل بدون بيان بعد وفاة صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب السابع في المبيَّن - بفتح الياء - والمبيِّن - بكسرها - والبيان

- ‌الفصل العاشر في حروف المعاني

- ‌المبحث الأولفي " الواو

- ‌المبحث الثاني حرف " الفاء

- ‌المبحث الثالث حرف " ثُمَّ " بضم الثاء وفتح الميم مع تشديدها

- ‌المبحث الرابع حرف " أوْ " - بفتح الهمزة وتسكين الواو

- ‌المبحث الخامس حرف " الباء

- ‌المبحث السادسحرف " اللام " الجارة

- ‌المبحث السابع في حرف " في

- ‌المبحث الثامن في حرف " مِنْ

- ‌الفصل الحادي عشر في الأوامر والنواهي

- ‌المبحث الأول في الأمر

- ‌المطلب الأول في تعريف الأمر

- ‌المطلب الثاني هل تشتراط إرادة الآمر المأمور به

- ‌المطلب الثالث هل للأمر صيغة موضوعة في اللغة

- ‌المطلب الرابع هل الأمر حقيقة في الفعل

- ‌المطلب الخامس فيما تستعمل فيه صيغة الأمر - وهي: " افعل

- ‌المطلب السادس فيما تقتضيه صيغة الأمر - وهي: " افعل " - حقيقةإذا تجردت عن القرائن

- ‌المطلب السابع هل اقتضاء الفعل للوجوب ثبت عن طريق الشرعأو غير ذلك الطريق

- ‌المطلب الثامن بيان نوع القرينة التي تصرف الأمر من الوجوب إلى غيره

- ‌المطلب التاسع إذا ورد الأمر بعد النهي ماذا يقتضي

- ‌المطلب العاشر الأمر المطلق هل يقتضي فعل المأمور بهمرة واحدة أو التكرار

- ‌المطلب الحادي عشر الأمر المعلق بشرط أو صفة هل يقتضي تكرارالمأمور به بتكرار الشرط أو الصفة أو لا

- ‌المطلب الثاني عشر إذا كرر لفظ الأمر بشيء واحد مثل: " صل ركعتينصل ركعتين " فهل يقتضي التكرار

- ‌المطلب الثالث عشر الأمر المطلق هل يقتضي فعل المأمور بهعلى الفور أو لا يقتضي ذلك

- ‌المطلب الرابع عشر هل يسقط الواجب المؤقت بفوات وقته

- ‌المطلب الخامس عشر امتثال الأمر هل يحصل به الإجزاء ويسقط القضاء

- ‌المطلب السادس عشر الأمر بالأمر بالشيء هل يكونأمراً بذلك الشيء أو لا

- ‌المطلب السابع عشر هل أمر النبي صلى الله عليه وسلم المطلق أمر لأمته وأمر الأمَّة المطلق هو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمر واحد من الصحابة هو أمر لغيره

- ‌المطلب الثامن عشر تعلق الأمر بالمعدوم

- ‌المطلب التاسع عشر هل يجوز الأمر من اللَّه تعالى بما يعلم أن المكلَّفلا يتمكن من فعله

- ‌المبحث الثاني في النهي

- ‌المطلب الأول في تعريف النهي

- ‌المطلب الثاني هل للنهي صيغة موضوعة في اللغة

- ‌المطلب الثالث في ما تستعمل فيه صيغة " لا تفعل

- ‌المطلب الرابع فيما تقتضيه صيغة النهي وهي: " لا تفعل

- ‌المطلب الخامس إذا ورد النهي بعد الأمر فماذا يقتضي

- ‌المطلب السادس هل النهي يقتضي الانتهاء على الفور والتكرار

- ‌المطلب السابع أحوال المنهي عنه

- ‌المطلب الثامن هل النهي عن الشيء أمر بضده

- ‌المطلب التاسع هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه أو لا

الفصل: ‌المطلب السابع في المبين - بفتح الياء - والمبين - بكسرها - والبيان

‌المطلب السابع في المبيَّن - بفتح الياء - والمبيِّن - بكسرها - والبيان

ويشتمل على المسائل التالية:

المسألة الأولى: بيان المراد بالمبيَّن، والمبيِّن، والبيان.

المسألة الثانية: حكم من خص البيان بالمجمل فقط.

المسألة الثالثة: أقسام المبيَّن - بفتح الياء -.

المسألة الرابعة: أقسام المبيِّن - بكسر الياء -.

المسألة الخامسة: إذا ورد القول والفعل بعد المجمل وكل واحد منهما

صالح للبيان، فأيهما الذي يقع به البيان؟

المسألة السادسة: هل يجب أن يكون البيان مساويا للمبيَّن، أو يجوز

أن يكون أدنى منه؛ أو لا بد أن يكون أقوى منه؟

المسألة السابعة: بيان عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

المسألة الثامنة: هل يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت

الحاجة؟

المسألة التاسعة: هل يجوز تأخير تبليغ الأحكام من وقت نزولها إلى

وقت الحاجة إليها؟

ص: 1243

المسألة الأولى: بيان المر اد بالمبيَّن، والمبيِّن، والبيان:

أولاً: بيان المراد بالمبيَّن - بفتح الياء -:

المبين - بفتح الياء -: اسم مفعول من التبيين، وهو الموضَّح

والمفسَّر.

والمبيَّن في الاصطلاح يطلق على إطلاقين:

الإطلاق الأول: يطلق ويراد به: الخطاب المبتدأ المستغني عن البيان

وهو الواضح بنفسه.

الإطلاق الثاني يطلق ويراد به ما وقع عليه البيان مما احتاج

إليه، وهو الواضح بغيره، ويسفَى ذلك الغير مبيِّنا - بكسر الياء -.

ثانياً: بيان المراد بالمبيِّن - بكسر الياء -:

المبيِّن - بكسر الياء - اسم فاعل من بيَّن، يبيِّن، فهو مبيِّن،

أي: موضِّح لغيره، وهو الدليل المبيِّن - وسيأتي التفصيل فيه.

ثالثاً: بيان المراد بالبيان:

البيان: اسم مصدر " بيَّن "، والمصدر منه هو: التبيين، يقال:

بيَّن، تبييناً، وبيانا، نحو: كلم، تكليما، وكلاما.

هذا من حيث اللغة.

والبيان في الاصطلاح هو: الدليل، والدليل هو: ما يتوصل

بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، وقد سبق شرح هذا التعريف

في أول الباب الثالث - الذي هو في أدلة الأحكام الشرعية ولا داعي

لتكراره.

ص: 1245

وكون المراد من البيان هو: الدليل هو الحق؛ لكونه شاملاً لبيان

الإجمال، وما يدل على الحكم ابتداء - وهو واضح -؛ حيث إن

ما يدل على الحكم ابتداء من غير سابقة إجمال يُسمَّى بيانا: فمن

ذكر دليلاً لغيره ووضحه غاية الإيضاح يصح لغة وعرفا أن يقال: "تم

بيانه "، أو يقال: " هذا بيان حسن " إشارة إلى الدليل المذكور،

والأصل في الإطلاق الحقيقة.

***

المسألة الثانية: حكم من خَصَّ البيان بالمجمل فقط:

إن بعض العلماء قد عرَّف البيان بتعريف يخص المجمل فقط.

منهم أبو بكر الصيرفي الذي عرَّف البيان بأنه: " إخراج الشيء

من حيز الإشكال إلى حيز التجلي ".

ومنهم جمهور الفقهاء الذين عرفوا البيان بأنه: " إظهار المراد

بالكلام الذي لا يفهم منه المراد إلا به " - كما نسبه إليهم أبو الحسن

الماوردي - وكما وصفه ابن السمعاني بأنه أحسن الحدود.

ومعناه: أن البيان هو: الشيء الذي دلَّ على أن المراد من ذلك

اللفظ المجمل هو ذلك المعنى المعين، فمثلاً: يرد لفظ " القرء "

ونحوه مما لا يستقل بنفسه في الدلالة على المعنى المراد، فما دلَّ على

المراد من ذلك اللفظ هو: البيان.

وهذان التعريفان يختصان باللفظ المجمل - فقط - حيث إنهما

يفيدان: أن اللفظ كان مشكلاً متردداً بين معانٍ - وهو المجمل -

فجاء بيانه.

وهذا فيه تقييد للبيان، وحصره في صورة واحدة من صوره.

ص: 1246

وهذا ضعيف؛ حيث إن البيان عام لما سبقه إجمال ولما جاء

ابتداء، وقلت ذلك؛ لأمور:

الأمر الأول: أن الواقع يشهد أن الشخص إذا دلَّ غيره على شيء

فإنه يقال له: " بيَّنه له"، ويوصف بأنه " بيان حسن "، فهذا يصح

إطلاقه، وإن لم يكن قد سبقه لفظ مجمل، والأصل في الإطلاق

الحقيقة.

الأمر الثاني: أن النصوص الشرعية التي أوردت الأحكام ابتداء

تسمى بياناً، قال تعالى:(هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ) ، وأراد به القرآن،

فلا يشترط فيه أن يكون بيانا لمشكل.

الأمر الثالث: أنه ليس من شرط البيان: أن يحصل التبيين والعلم

بهذا البيان للمخاطب، فيصح أن يقال: " بين له ذلك غير أنه لم

يتبين ولم يعلم به "، بل أن يكون بحيث إذا سمع وتؤمل وعرفت

المواضعة صح أن يعلم به، ويجوز أن يختلف الناس في تبيين ذلك

وتعرفه.

المسألة الثالثة: أقسام المبيَّن - بفتح الياء -:

المبيَّن ينقسم إلى قسمين هما:

القسم الأول: المبيَّن بنفسه، وهو: الذي استقل بإفادة معناه من

غير أن ينضم إليه قول أو فعل، ويُسمَّى بـ " الواضح بنفسه "، وهو

نوعان:

النوع الأول: أن تكون إفادته للمراد بسبب راجع إلى اللغة، مثل

قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، فإن إفادته شمول علمه

تعالى جميع الأشياء ثبت عن طريق اللغة من غير توقف.

ص: 1247

النوع الثاني: أن تكون إفادته للمراد بسبب راجع إلى العقل مثل

قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) ، حيث إن اللغة قد اقتضت طلب

السؤال من القرية، وهو غير ممكن عقلاً، بل المقصود هو طلب

السؤال من أهل القرية؛ لأن الأبنية لا يوجه إليها أسئلة.

وسمي ذلك بالمبين بنفسه - وإن كان متوقفاً على العقل - لتعين

المضمر من غير توقف.

ففي هذين النوعين كأن المتكلم أورد اللفظ مبينا واضحه مفهوما غير

محتاج إلى غيره مشتق من " متبين ".

القسم الثاني. المبين بغيره، وهو: الذي لا يستقل بإفادة معناه،

بل يفتقر إلى دليل يبينه من قول أو فعل، وذلك الدليل يسمى مبيِّنا

- بكسر الياء - وسيأتي الكلام عن هذا بالتفصيل إن شاء اللَّه في

المسألة التالية.

***

المسألة الرابعة: أقسام المبيِّن - بكسر الياء -:

المبيِّن - بكسر الياء - قد يكون قولاً، وقد يكون فعلاً من

الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون كتابة، وقد يكون تركا للفعل، وقد يكون سكوتاً، وقد يكون إشارة، وإليك بيان ذلك:

القسم الأول: البيان بالقول، ويُسمَّى: البيان بالكلام، وهو:

التلفظ صراحة بالمراد.

والدليل على أنه يحصل بالقول والكلام البيان: الوقوع؛ حيث

وقع ذلك في الشريعة، والأمثلة على ذلك كثيرة.

ومنها قوله تعالى: (إن اللَّه يأمركم أن تذبحوا بقرة) حيث إن

ص: 1248

الله تعالى قد بيَّن المراد من ذلك بالقول والكلام، حيث قال:

(إنها بقرة صفراء فاقع لونها) ، وهذا بيان بقوله تعالى.

ومنها قوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) ،

وقوله: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّن ذلك بالقول والكلام، حيث قال:" فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالسانية نصف العشر "، وهو كثير في الشريعة - كما قلت -

فالأحكام الواردة في الكتاب وجاء تفصيلها في السُّنَّة هي من هذا

القسم، وهو بيان بقوله صلى الله عليه وسلم.

القسم الثاني: البيان بالفعل.

اختلف العلماء في هذا القسم على مذاهب:

المذهب الأول: أن الفعل يكون مبينا كالقول.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، لدليلين:

الدليل الأول: الوقوع؛ حيث إنه لما نزل قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)، وقوله:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ، بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بفعله كيفية الصلاة، وكيفية الحج، والوقوع دليل على صلاحية

الفعل ليكون بيانا.

الدليل الثاني: القياس؛ حيث إن الإجماع قد انعقد على كون

القول بيانا، فالفعل في إفادة المقصود أوْلى؛ لأن مشاهدة أفعال

الصلاة - وأفعال الحج أدل على معرفة تفاصيلها من الأخبار عنها

بالقول؛ حيث إن البيان بالكشف أظهر من البيان بالوصف، ولهذا

كانت مشاهدة " زيد " في الدار أدل على معرفة كونه فيها من الأخبار

عنه بذلك، ولهذا قيل:" ليس الخبر كالمعاينة "، وإذا جاز القول

بيانا مع قصوره في الدلالة عن الفعل المشاهد، فكون الفعل بياناً

أوْلى.

ص: 1249

المذهب الثاني: أن الفعل لا يصلح أن يكون بياناً.

وقد نسب هذا إلى أبي إسحاق الإسفراييني، وبعض العلماء.

أدلتهم على ذلك:

الدليل الأول: أن البيان بالفعل لم يقع في الشريعة، وهذا يدل

على عدم صلاحيته ليكون بيانا لشيء، وما ذكرتموه من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيَّن بفعله كيفية الصلاة والحج فليس بصحيح؛ حيث إن بيان الصلاة قد حصل بقوله صلى الله عليه وسلم:

"صلوا كما رأيتموني أصلي "،

وبيان الحج قد حصل بقوله لمجم: "خذوا عني مناسككم "،

وهما قولان، وليسا بفعلين.

جوابه:

لا نسلم أن بيان الصلاة والحج قد حصل بالقول " لأن قوله:

"صلوا كما رأيتموني أصلي "، وقوله:" خذوا عني مناسككم "

لم يتضمن تعريف شيء من أفعال الصلاة والمناسك، بل غايته: تعريف

أن الفعل هو: البيان، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قال لهم: انظروا إلى فعلي في الصلاة والحج وافعلوا مثله، فكان فعله للصلاة من

ركوع وسجود، وقيام، وتسليم هو المبين لقوله:(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ، وفعله في الحج - من وقوف بعرفات - وطواف إفاضة، وسعي، ومبيت بمزدلفة ومنَى هو المبين لقوله تعالى:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) .

الدليل الثاني لهم.: أن الفعل - وإن كان مشاهداً - غير أن زمان

البيان به قد يطول، مما يؤدي إلى تأخير البيان عن وقت الحاجة،

مع إمكان تعجيله بالقول، وتأخير البيان عن وقت الحاجة مع إمكانه

لا يجوز.

ص: 1250

جوابه:

يجاب عن ذلك بجوابين:

الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن البيان بالفعل فيه طول، بل قد

يكون البيان بالقول أطول من البيان بالفعل، فلو بينا الصلاة بالقول

للزم ذكر اشتمال كل ركعة من الأقوال والأفعال، وهذا أطول مما لو

فعلناها أمام ذلك السائل عنها.

الجواب الثاني: أنا لو سلمنا أن البيان بالفعل يأخذ وقتا أطول من

البيان بالقول، فليس في ذلك ما يدل على كونه غير صالح للبيان،

كل ما في الأمر: أنه أطول من البيان بالقول.

المذهب الثالث: أن الفعل يحصل به البيان بشرط: الإشعار به

من مقال أو قرينة حال، وإن لم يوجد ذلك لا يحصل للمكلف

البيان، وهو مذهب المازري.

دليل هذا المذهب:

أن تلك القرينة قد ساعدت الفعل لبيان ذلك المجمل.

جوابه:

أن الخلاف في الفعل المجرد عن القرينة هل يصلح أن يكون بياناً أو

لا؟ أما ما وجدت فيه قرينة فلا خلاف فيه.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف بين المذهب الأول والمذهبين الثاني والثالث خلاف معنوي؛

حيث إنه يعمل بما دلَّ عليه الفعل بناء على المذهب الأول، أما على

المذهبين الثاني والثالث فلا يعمل به.

والخلاف بين المذهب الثاني والثالث خلاف لفظي؛ لأن النفي

ص: 1251

والإثبات لم يتواردا على محل واحد؛ لأن أصحاب المذهب الثاني

نفوا كون الفعل يحصل به البيان لعدم القرينة، أما أصحاب المذهب

الثالث فقد أثبتوا ذلك لوجود القرينة.

القسم الثالث: البيان بالكتابة.

دل على أنه يحصل البيان بالكتابة دليلان:

الدليل الأول: الوقوع؛ حيث وقع ذلك؛ فإنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى عماله في الصدقات، وكتابه الذي بعثه مع عمرو بن حزم إلى أهل اليمن، وبين فيه الفرائض والسق والديات، وكتابة الخلفاء

من بعده إلى عمالهم في الصدقات من غير نكير.

الدليل الثاني: القياس على البيان بالقول، بيان ذلك:

أن الكتابة تقوم مقام القول اللساني، والجامع: أن في كل منهما

تأدية الذي في النفس.

القسم الرابع: البيان بترك الفعل.

فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا ترك فعل شيء، فإنه يتبين من ذلك نفي وجوب ذلك الفعل؛ لأن صلى الله عليه وسلم لا يقع في فعله محرم، ولا ترك واجب، فمتى ترك شيئاً دلَّ على عدم وجوبه، فمثلاً: ترك القعود للتشهد، والقيام من الركعة الثانية إلى الثالثة، والمضي في صلاته يدل على أن هذا القعود ليس بواجب.

القسم الخامس: البيان بالسكوت.

السكوت بعد السؤال عن حكم واقعة من الوقائع يعتبر من البيان،

فإذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم حادثة وواقعة، وسكت: دلَّ سكوته على أنه لا حكم للشرع في هذه الواقعة، وهذا يُعتبر بيانا لها.

ص: 1252

يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُقرُّ على الخطأ، أي: لو كان سكوته عن بيان حكمها خطأ لبيَّن له اللَّه تعالى ذلك، فيكون

سكوته بياناً في أن هذه الواقعة لا حكم لها.

القسم السادس: البيان بالإشارة.

الإشارة يحصل بها البيان دلَّ على ذلك دليلان:

الدليل الأول: الوقوع؛ حيث روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهراً، فلما بلغ تسعة وعشرين يوما دخل عليهن، فقيل له: إنك آليت شهراً فقال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وأشار بأصابعه

العشر، وقبض إبهامه في الثالثة، يعني تسعاً وعشرين، فبيَّن - هنا -

الشهر بالإشارة بأنه يكون - أحياناً - ثلاثين يوما، وأحيانا تسعة

وعشرين يوماً.

اعتراض على ذلك:

قال قائل - معترضاً -: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّن الشهر بالقول الصريح، لا بالإشارة؛ حيث روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله:" الشهر تسع وعشرين، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له ".

جوابه:

إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيَّن ذلك مرة بالقول الصريح، وبيَّن مرة أخرى

بالإشارة، مما يدل على جواز البيان بالإشارة.

الدليل الثاني: القياس على البيان بالقول؛ حيث إن الإشارة تقوم

مقام اللسان في التعبير عما يجول في النفس، فكانت بياناً.

ص: 1253

المسألة الخامسة: إذا ورد بعد لفظ مجمل قول وفعل، وكل

واحد منهما صالح لأن يكون بيانا فأيهما الذي يقع به البيان؟

للكلام عن هذه المسألة لا بد من تقسيمها إلى قسمين:

القسم الأول: يكون في اتفاق القول والفعل في الحكم.

القسم الثاني: يكون في اختلاف القول والفعل في الحكم.

القسم الأول: إذا اتفق القول والفعل في الحكم فلا يخلو:

إما أن يُعلم تقدم أحَدهما أو يُجهل المتقدم.

فإن علم تقدم أحدهما: فالمتقدم هو المبين - سواء كان قولاً أو

فعلاً، وذلك لحصول المقصود به، والثاني مؤكد له.

وإن جهل المتقدم منهما - أي: لا يعلم هل المتقدم القول أو

الفعل؛ - فلا يخلو: إما أن يكونا متساويين في الدلالة، أو

أحدهما أقوى في الدلالة من الآخر.

فإن كانا متساويين في الدلالة، فأحدهما يكون هو المبين،

والآخر يكون مؤكداً له من غير تعيين - أي: يختار المجتهد منهما

دون تعيين -.

وإن كانا مختلفين في قوة الدلالة - بأن كان القول أقوى وأرجح

من الفعل أو العكس - فقد اختلف العلماء أيهما الذي يُقدم؛ على

مذهبين:

المذهب الأول: أن أحدهما يكون هو المبيّن، والآخر يكون مؤكداً

له من - غير تعيين - كما لو كانا متساوين - ولا فرق بين الراجح

والمرجوح.

ص: 1254

وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ وذلك لحصول المقصود به.

المذهب الثاني: أن المرجوح والأضعف في الدلالة هو: المبيِّن،

والراجح والأقوى مؤكد له.

وهو مذهب الآمدي وبعض العلماء.

دليل هذا المذهب:

أنا لو جعلنا المبيِّن هو: الراجح والأقوى في الدلالة للزم من

ذلك تأخر المرجوح مما يجعله مؤكداً للراجح، وهذا ممتنع؛ لأن

الشيء لا يؤكد بما هو دونه في الدلالة، والبيان حاصل دونه، فكان

الإتيان به غير مفيد، والشارع لا يأتي بما لا يفيد، أما إذا جعلنا

المرجوح والأضعف هو المقدم، فإن الإتيان بالراجح بعده يكون مفيداً

نظراً لتأكيده لما تقدمه، ولا يكون معطلاً.

جوابه:

لا نسلم ذلك؛ لأن امتناع تأكيد المرجوح للراجح يكون في المؤكد

غير المستقل مثل: " المفردات "، أما المؤكد المستقل فإنه لا يمتنع فيه

ذلك، وذلك لأن الجمل تقوي بعضها بعضاً.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف هنا لفظي، لأن ما نظر إليه الجمهور يختلف عما نظر إليه

الآمدي، فهم نظروا إليه على أنه من تاكيد الجمل، وهو جائز

بالأضعف والأقوى، والآمدي نظر إليه على أنه من تكيد المفردات،

فلذلك يمتنع.

القسم الثاني: فيما إذا لم يتفق القول والفعل في الحكم.

إذا كان ما يفيده القول يخالف ما يفيده الفعل مثل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 1255

أنه قال: " من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي

واحد عنهما حتى يحل منهما جميعاً "،

وهذا بيان لكيفية أداء القِران بالقول، وروى عليّ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين،

وقال: هكذا رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صنع.

فهنا قد اجتمع القول والفعل في بيان آية الحج، وهي قوله تعالى:

(ولله على الناس حج البيت)، وقوله:(وأتموا الحج والعمرة لله)

فبيَّن بالقول والفعل: قِران الحج والعمرة فأيهما المبيِّن؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أن القول هو المبيِّن مطلقاً، أي: سواء تقدم

القول أو الفعل، أو لم يعلم شيء من ذلك.

وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لأن القول يدل بنفسه على

البيان، بخلاف الفعل، فإنه لا يدل على كونه بيانا إلا بواسطة دلالة

القول عليه: - أي: أن الفعل لا يدل إلا بواسطة انضمام القول

إليه - والدال بنفسه أقوى من الدال بغيره.

اعتراض على ذلك:

قال قائل - معترضا -: إن هذا مناقض لما قلتموه - هناك - من

أن الفعل أقوى في البيان؛ لأن الشاهدة أدل.

جوابه:

أنا نقول: إن القول أقوى في الدلالة على الحكم، والفعل أدل

على الكيفية: ففعل الصلاة أدل من وصفها بالقول؛ لأن فيه مشاهدة

وأما استفادة وجوبها، أو ندبها أو غيرهما: فإن القول أقوى؛ نظراً

لصراحته.

ص: 1256

المذهب الثاني: أن الفعل هو المبيِّن مطلقا، أي: سواء تقدم

القول أو الفعل.

وهو مذهب بعض الشافعية.

دليل هذا المذهب:

أن الفعل أدل؛ لأن المشاهدة أقوى لما روي عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليس الخبر كالمعاينة ".

جوابه:

أنه لو كان البيان هو الفعل للزم من ذلك أن يكون القول معطلاً

إن ورد متأخراً عن الفعل، ويلزم منه - أيضا -: أن يكون الفعل

نالصخا إن كان القول متقدما، ولا يلزم ذلك من مذهبنا؛ حيث إنا

لما جعلنا القول هو المبيّن: حصل الجمع بين مقتضى القول والفعل،

فيكون أوْلى.

المذهب الثالث: التفصيل، وهو:

أنا إذا علمنا المتقدم من القول والفعل: فإن المتقدم هو المبيّن،

سواء كان قولاً أو فعلاً.

أما إذا لم نعلم المتقدم منهما: فإنه يجعل القول هو: المبيّن؟

نظراً لرجحانه؛ لأنه يدل بنفسه على البيان، بخلاف الفعل فإنه لا

يدل إلا بانضمام شيء إليه، والدال بنفسه أقوى من الدال بغيره.

وهذا مذهب أبي الحسين البصري.

جوابه:

أنه يلزم من هذا: أن يكون الفعل منسوخا بالقول إذا كان الفعل

متقدما، والأصل عدم النسخ.

ص: 1257

المذهب الرابع: التفصيل من وجه آخر، وهو:

إن لم يعلم تقدم القول أو الفعل، فإنه يجعل القول هو: المبيِّن؛

نظراً لدلالته بنفسه على البيان، بخلاف الفعل فإنه يحتاج إلى غيره

- كما سبق بيانه -.

أما إذا علم تقدم أحدهما فلا يخلو من أمرين:

أحدهما: أن يعلم أن المتقدم هو القول، ففي هذه الحالة يكون

القول هو: المبيِّن؛ نظراً لتقدمه، وقوته في الدلالة.

ثانيهما: أن يعلم أن المتقدم هو الفعل، ففي هذه الحالة يكون

الفعل هو: المبين في حق الرسول صلى الله عليه وسلم دون الأمَة، ويكون القول هو المبين في حق الأُمَّة - فقط -؛ عملاً بالدليلين - وهما القول والفعل -؛ إذ لو جعلنا الفعل - عند تقدمه - هو: المبيِّن في حق

الرسول والأُمَّة معاً: للزم من ذلك: أن يكون القول مهملاً أو يكون

ناسخاً لوجوب الطواف الثاني والسعي الثاني، والإهمال والنسخ

خلاف الأصل، وللتخلص من ذلك لا بد أن يكون الفعل مبينا

للمجمل في حق الرسول، ويكون القول هو المبين في حق الأُمَّة؛

عملاً بالدليلين، والجمع بينهما عند الإمكان أرجح من العمل بواحد

منهما وإهمال الآخر.

جوابه:

إن هذا التفريق بين الرسول صلى الله عليه وسلم والأُمَّة في ذلك لا دليل عليه، وما لا دليل عليه لا يعتد به، ولذلك يكون القول هو: المبيِّن

مطلقاً - أي: سواء علمنا المتقدم، أو لم نعلمه؛ لفضل القول على

الفعل بما ذكرناه سابقا.

ص: 1258

بيان نوع الخلاف:

الخلاف في هذه المسألة - وهي المذكورة في القسم الثاني - خلاف

معنوي؛ حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها ما ذكرناه من

ورود بيان قِران الحج والعمرة بالقول والفعل.

فبناء على المذهب الأول: يكون الواجب على القارن طوافاً

واحداً وسعيا واحداً، ويحمل فعله صلى الله عليه وسلم على الاستحباب، أو أنه واجب مختص به.

وبناء على المذهب الثاني: يكون الواجب على القارن طوافين

وسعيين.

وبناء على المذهب الثالث: يكون الواجب على القارن طوافين

وسعيين إن علمنا أن المتقدم هو: الفعل، أما إذا علمنا أن المتقدم هو

القول أو جهلنا المتقدم منهما فيكون الواجب على القارن طوافاً

وسعياً واحداً.

وبناء على المذهب الرابع: يكون الواجب على القارن من الأُمَّة

طوافا واحداً وسعيا واحداً، ويجب على الرسول صلى الله عليه وسلم طوافين وسعيين.

***

المسألة السادسة: هل يجب أن يكون البيان مساويا للمبيَّن،

أو يجوز أن يكون أدنى منه في القوة، أو لا بد أن يكون أقوى منه؟

اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أنه يجوز البيان بالأدنى والمساوي، كما يجوز

البيان بالأقوى مطلقاً، أي: سواء كان بيانا لمجمل أو لغيره.

ص: 1259

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لأن المبيِّن

أوضح من المبيَّن في الدلالة على المراد، فوجب العمل بالواضح وإن

كان أدنى من المبيّن أو مساويا له، أي: أن الإتيان بما يوضح المجمل

وإن كان أضعف منه من حيث الثبوت؛ لرجحانه بوضوح دلالته،

وكذلك العمل بمخصص العام ومقيد المطلق جمعا بين الدليلين.

المذهب الثاني: يجب أن يكون المبيّن أقوى من المبين أو مساويا

له، ولا يجوز أن يكون المبيّن أدنى من المبين، وذلك في بيان التغيير

- وهو التخصيص للعام -.

أما بيان التفسير - وهو بيان المجمل - فإنه يجوز فيه أن يكون المبيِّن

أدنى من المبيَّن.

وهو مذهب جمهور الحنفية وعلى رأسهم أبو الحسن الكرخي.

دليل هذا المذهب:

أما دليلهم في بيان التغيير، ففيه التفصيل التالي:

أما دليل قولهم: " يجب أن يكون البيان أقوى من المبين" فهو:

واضح؛ حيث إن البيان يكون راجحا على المبيّن، والعمل بالراجح

واجب.

أما دليل قولهم: " يجب أن يكون البيان مساويا للمبين "، فهو:

أن البيان بالأدنى فيه عمل بالمرجوح وترك الراجح، وذلك خلاف ما

يقتضيه العقل.

أما دليلهم في بيان التفسير فهو دليل الجمهور في المذهب الأول.

جوابه:

أن قولكم في بيان التغيير: " إن العمل بالأدنى فيه عمل بالمرجوح

ص: 1260

وترك الراجح " لا نسلمه؛ لأن العمل بالأدنى لا يلزم منه العمل

بالمرجوح، وترك الراجح، بل يلزم منه: العمل بالمبيِّن - وهو

الخاص - والعمل بما بقي بعد التخصيص - وهو المبيَّن: العام -

وهذا فيه جمع بين دليلين قد ثبتا، وهو أوْلى من العمل بدليل - وهو

المبئن وهو العام - وترك دليل آخر - وهو المبيّن وهو الخاص - وإن

كان أدنى فهو يسمى دليلاً.

تنبيه: بعض العلماء قد نسب هذا المذهب إلى أبي الحسن

الكرخي لوحده، وبعضهم حكاه بدون تفصيل بين بيان التفسير،

وبيان التغيير، وهذا سهو منهم، والحق ما ذكرته، وقد بينت ذلك

في " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ".

المذهب الثالث: يجب أن يكون المبيِّن أقوى من المبين، فلا يجوز

بالأدنى، ولا بالمساوي مطلقا، أي: سواء كان بيانا لمجمل أو لغيره

، وهو مذهب بعض المالكية كابن الحاجب.

دليل هذا المذهب:

أن البيان بالمساوي فيه ترجيح لأحد المتساويين على الآخر بدون

مرجح، وهو باطل، والبيان بالأدنى فيه عمل بالمرجوح وترك

للراجح، وهو باطل - أيضا - فتعئن البيان بالأقوى.

جوابه:

إن هذا يؤدي إلى العمل بأحد الدليلين دون الآخر؛ لأن المبين

المساوي أو الأدنى يُعتبر دليلاً من أدلة الشرع، فلا يجوز تركه بدون

عمل، لذلك يكون الأخذ بالدليل الذي هو أوضح في الدلالة على

ص: 1261

المراد، وتخصيص العام وتقييد المطلق حال المساواة في قوة الدلالة

أوْلى لما في ذلك من إعمال الدليلين؛ بخلاف مذهبكم.

المذهب الرابع: فيه تفصيل، بيانه:

إن كان بيانا لمجمل، فيجوز أن يكون أقوى أو مساوياً أو أدنى من

المبيَّن.

وإن كان بياناً لعام - بأن خصَّصه - أو بياناً لمطلق - بأن قيَّده -

فيجب أن يكون المبيّن أقوى من المبيَّن - وهو العام والمطلق -.

وهو مذهب الآمدي.

دليل هذا المذهب:

أما دليل بيان المجمل، وأنه يجوز كونه أقوى أو مساويا أو أدنى

فهو دليلنا في المذهب الأول - وهو دليل الجمهور -.

أما دليل بيان العام، وبيان المطلق، وأنه يجب أن يكون أقوى من

العام، والمطلق فهو: أن ترك العام والمطلق لا يكون بالمساوي؛ لأنه

يلزم منه ترجيح بلا مرجح، ولا يكون بالأدنى؛ لأنه يلزم منه العمل

بالمرجوح وترك الراجح، وكل منهما خلاف ما يقتضيه العقل،

فتعين البيان بالأقوئ.

جوابه:

إن تخصيص العام وتقييد المطلق حال المساواة في قوة الدلالة، أو

الأدنى أوْلى لما في ذلك من إعمال دليلين قد ثبتا، بخلاف التوقف

بين المتساويين؛ لأنه يلزم منه ترك العمل بدليلين قد ثبتا، وبخلاف

ص: 1262

القول بإلغاء البيان، فإن فيه العمل بأحد الدليلين دون الآخر مع أنه

ثابت شرعا.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف معنوي في هذه المسألة، حيث إنه قد ترتب على المذهب

الأول: جواز تخصيص وتقييد القطعي بالظني فيجوز تخصيص

عموم القرآن والسُّنَّة المتواترة ومطلقهما بالدليل الظني كخبر الواحد،

والقياس.

كما يجوز - بناء عليه - بيان المجمل القطعي بالظني كخبر الواحد

والقياس.

وترتب على المذهب الثاني: عدم جواز تخصيص وتقييد القطعي

بالظني، فلا يجوز تخصيص عموم القرآن والسُّنَّة المتواترة ومطلقهما

بالدليل الظني كخبر الواحد والقياس.

كما ترتب عليه - أيضا -: جواز بيان المجمل القطعي بالظني

كخبر الواحد والقياس.

وترتب على المذهب الثالث: عدم جواز تخصيص وتقييد القطعي

بالقطعي ولا بالظني، ولا يجوز تخصيص وتقييد الظني إلا بالقطعي

- فقط -.

وكذلك ترتب عليه - أيضا -: عدم جواز بيان المجمل القطعي

بالظني، فلا يُبين المجمل الظني إلا بالقطعي - فقط -.

وترتب على المذهب الرابع: مثل ما ترتب على المذهب الثالث

من حيث التخصيص والتقييد.

وترتب عليه - أيضا - مثل ما ترتب على المذهب الأول،

ص: 1263

والثاني من حيث المجمل، ففي هذا وقع الخلاف بين المذهب الثالث

والرابع.

***

المسألة السابعة: بيان أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة:

لقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة

إلى تنفيذ العمل - وهو وقت وجوب العمل بالخطاب -؛ لدليلين:

الدليل الأول: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة يعتبر تكليفا بما لا

يطاق وهو: لا يجوز؛ حيث لا قدرة للمكلف - حينئذ - على

الامتثال.

الدليل الثاني: أن وقت الحاجة وقت للأداء، فإذا لم يكن مبينا

تعذر الأداء، فالبيان - إذن - ضرورة من الضروريات التي لا بد منها.

مثل ما لو قال: " حجوا هذا العام "، ثم إذا جاء وقت الحج

لم يبين لهم كيفية الحج وطريقته.

وقد حكى إجماع العلماء على عدم الجواز - هنا - كثير من

العلماء كابن السمعاني، والباجي، والغزالى، والسمرقندي،

وابن قدامة، وغيرهم.

تنبيه: يلزم على مذهب القائلين بجواز تكليف ما لا يطاق أن

يقولوا - هنا -: جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأن هذه

المسألة فرد من أفراد جواز تكليف ما لا يطاق، فهنا وقع الخلاف،

ولكنه يصرف إلى الجواز العقلي، أما الوقوع فقد اتفق العلماء على

عدمه.

ص: 1264

المسألة الثامنة: هل يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى

وقت الحاجة - وهو وقت وجوب العمل بمقتضاه -؟

لقد اختلف في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت

الحاجة مطلقاً، أي: سواء كان المراد بيانه له ظاهر يُفهم ويُعمل به

كالعام والمطلق، أو ليس له ظاهر كالمجمل.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ للأدلة التالية:

الدليل الأول: العقل دلَّ على جواز تأخير البيان عن وقت

الخطاب إلى وقت الحاجة مطلقاً، بيانه:

أن هذا لا يترتب على فرض جوازه محال؛ لأن غاية ما في الأمر

هو: جهل المكلَّف بما كُلِّف به مدة من الزمن، وهذا ليس بمحال،

ولا يؤدي إلى المحال فهو إذن جائز.

الدليل الثاني: الوقوع، فقد وقع تأخير البيان عن وقت الخطاب

إلى وقت الحاجة في الشريعة، والوقوع دليل الجواز، وإليك بيان

المواضع التي وقع فيها ذلك من الكتاب والسُّنَّة:

الموضع الأول: قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) .

فإن معنى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ) : أنزلناه؛ لدلالة قوله: (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) ،

حيث أمر اللَّه تعالى نبيه بالاتباع بفاء التعقيب،

ولا يتصور ذلك قبل الإنزال لعدم معرفته به، وإنما يكون بعد الإنزال

وإذا كان المراد بقوله: (قَرَأْنَاهُ) هو: الإنزال: فإن قوله:

(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) يدل على تأخير البيان عن وقت الإنزال؛ لأن " ثم "

للمهلة والتراخي.

ص: 1265

اعتراض على ذلك:

قال قائل - معترضا -: إن المراد بالبيان المذكور في الآية: البيان

التفصيلي، وتراخي البيان التفصيلي عن وقت الخطاب مسلم لا نزاع

فيه، إنما النزاع في البيان الإجمالي.

جوابه -:

إن تقييد البيان المذكور في الآية بالبيان التفصيلي تقييد بلا دليل،

حيث ذكر البيان مطلقا، ولم يوجد ما يقتضي تقييده.

الموضع الثاني: أن اللَّه تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة؛ حيث

قال: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) ،

فالله أمر بذبح بقرة معينة - غير منكرة -، ولكنه لم يعينها ويفصل في

صفاتها إلا بعد أن سألوا عدة أسئلة متكررة، ودل على كون المأمور

به معينا أمران:

أولهما: أن بني إسرائيل سالوا تعيينها، حيث قال تعالى - عنهم -:

(ادع لنا ربك يبين لنا ما هي)، وقوله:(ما لونها)

ولو كانت منكرة لما احتيج إلى ذلك؛ لأنه بإمكانهم الخروج عن

العهدة بأي بقرة كانت.

ثانيهما: تعيين اللَّه للبقرة المطلوبة ووصفها بقوله:

(إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) ،

وقوله: (إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان) ، والضمير في ذلك يصرف إلى ما أمروا به وجوبا، فهذا يدل على أن البقرة معينة، فثبت: أنه أخر بيان

أوصاف البقرة المأمور بذبحها إلى وقت الحاجة؛ حيث إن البيان تأخر

عن وقت الخطاب؛ فإنه لم يقترن بالخطاب بيان تفصيلي ولا إجمالي.

ص: 1266

اعتراض على ذلك:

قال قائل - معترضا -: لا نُسَلِّمُ التمسك بهذه الآية؛ لأنه يلزم

منه جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ وذلك لأن بني إسرائيل عند

الخطاب بهذه الآية كانوا محتاجين إلى البيان وهو باطل.

جوابه:

لا نسلم أن الآية تقتضي جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأن

الأمر يقتضي عدم الفور، وإنما يلزم ذلك لو كان الأمر مقتضيا

للفور.

اعتراض آخر:

قال قائل - معترضا -: إنا لا نُسَلِّمُ أن البقرة كانت معينة؛ لأنها

لو كانت معينة لما عنفهم اللَّه تعالى على السؤال عنها، لكنه عنفهم

بقوله: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) .

جوابه:

يجاب عن ذلك بجوابين:

الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أنه عنفهم على السؤال، بل على التواني

والتقصير في الذبح بعد البيان.

الجواب الثاني: أنها لو كانت غير معينة لكان بإمكانهم الخروج

عن العهدة بأي بقرة كانت.

الموضع الثالث: قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)، وقوله:(وَآتُوا الزَّكَاةَ)، وقوله:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ،

ثم جاء بيان ذلك في السُّنَّة: فأخَّر بيان أفعال الصلاة وأوقاتها حتى بيَّن

ذلك جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: " يا محمد، هذا وقت

ص: 1267

الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين "، ثم بيَّن

الرسول صلى الله عليه وسلم لأُمَّته، فقال:" صلوا كما رأيتموني أصلي ".

وكذلك في قوله: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) بين الرسول صلى الله عليه وسلم مقدار الواجب وصفته في الذهب والفضة، والمواشي، والعقارات،

والثمار، والزروع شيئاً فشيئاً.

وكذلك الحج، فقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أفعال الحج وطريقته - بعد نزول آية الحج - وقال:" خذوا عني مناسككم ".

الموضع الرابع: قوله تعالى: (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم) ،

وهذا عام، ثم ورد بعد ذلك تخصيصه بقوله تعالى:(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى) ، وجميع الأعذار الشرعية قد خصصت هذا العموم.

الموضع الخامس: قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) ، وهو عام يشمل كل معبود، فقد

قال ابن الرثعْرَى: لأخصمن محمداً، فجاء إلى صلى الله عليه وسلم وقال:"أليس قد عبدت الملائكة، أليس قد عبد المسيح، أليس قد عبد عزير، فينبغي أن يكون هؤلاء حصب جهنم، فتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في الجواب "

ثم أنزل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) ، فخصصت بذلك الآية الأولى، فثبت بذلك تأخير بيان

العام الذي أريد به الخاص، وهو تأخير البيان عن وقت الخطاب.

الموضع السادس: قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) ، ثم بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك

التقسيم بعد سلب القاتل، وأن المقصود بذي القربى هم: بنو هاشم،

وبنو المطلب، وأن بني أمية، وبني نوفل، وبني عبد شمس

ص: 1268

غير داخلين في ذوي القربى، فلما سئل عن ذلك قال: " أنا وبنو

المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام، ولم نزل هكذا "، وشبك

بين أصابعه.

فثبت أن قوله: " ولذي القربى " لم يبين إلا عند وقت الحاجة،

فدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة.

الموضع السابع: قوله تعالى - لنوح عليه السلام:

(احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ، ففهم

نوح عليه السلام أن ابنه من أهله، لكن لما أدرك ابن نوح الغرق

ورآه نوح عليه السلام خاطب ربه قائلاً: (إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق) ، فبيََّن اللَّه تعالى أنه عمل غير صالح، فهنا لم يبين الشارع ذلك وقت الخطاب، بل أخَّره إلى وقت الحاجة.

الموضع الثامن: قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)، ثم خصَّص ذلك بعده بقوله:(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) .

الموضع التاسع: قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ، ثم ورد

تخصيصه بقوله عليه السلام: " أحل لنا ميتتان ودمان ".

والأمثلة على وقوع تأخير البيان من وقت الخطاب إلى وقت الحاجة

في الشريعة كثيرة جداً تكاد لا تحصى، ولا سبيل إلى إنكاره، وإن

اعترض بعضهم على بعض الأمثلة والاستشهادات؛ نظراً لتطرق

الاحتمال إليه بتقدير اقتران البيان به، فإنه لا يمكن أن يتطرق ذلك

إلى جميع الأمثلة، وبالتالي لا يمكن إنكارها كلها،؛ من ادعى ذلك

فهو معاند ومكابر، والمعاند والمكابر لا يعتد بقوله.

الدليل الثالث: القياس على النسخ، بيان ذلك:

ص: 1269

أن النسخ بيان وتخصيص في الأزمان، وهذا بيان في الأعيان،

والنسخ يجوز تأخيره باتفاق العلماء، بل هو واقع فيه.

وعلى هذا: يجوز أن يرد لفظ يدل على تكرار الفعل على الدوام

ثم ينسخ ويقطع الحكم بعد حصول ذلك الاعتقاد بلزوم الفعل على

الدوام.

وورود بيان نسخ الحكم بعد اعتقاد دوامه واقع لا شك فيه - كما

سبق في النسخ - فإذا كان هذا جائزاً فإنه يجوز تأخير البيان مطلقا،

ولا فرق.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز تأخير البيان من وقت الخطاب إلى

وقت الحاجة مطلقا، أي: سواء كان المراد بيانه له ظاهر يفهم

ويعمل كالعام والمجمل، أو ليس له ظاهر كالمجمل إلا النسخ

- فقط - فيجوز فيه ذلك.

وهو مذهب بعض الحنفية، وبعض الشافعية - ونسب إلى

الصيرفي منهم -.

وهو مذهب جمهور الظاهرية، وجمهور المعتزلة، وبعض

المالكية، وبعض الحنابلة كغلام الخلال - عبد العزيز بن جعفر -

وأبي الحسن التميمي.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: أنه يراد بالخطابات تفهيم السامع للمطلوب فيها

لكي يعمل بها، وهذه هي فائدتها، والخطاب بالمجمل بدون

توضيحه وبيانه خطاب بما لا يفهم، والخطاب بما لا يفهم لا فائدة

فيه، وما لا فائدة فيه يكون وجوده كعدمه، وهذا هو العبث الذي

يتنزه الله عن الكلام به.

ص: 1270

جوابه:

لا نسلم عدم وجود الفائدة من الخطاب بالمجمل، حيث توجد

فائدة في الخطاب به، وهي: معرفة أن هناك أمراً أو نهياً في الشريعة؛

ليعرف بذلك المكلف العازم على امتثال الأمر الذي ورد في هذا

الخطاب المجمل، والمكلف العازم على ترك المنهي عنه الوارد في

المجمل إذا بُين له، فالمكلف العازم على الفعل في حالة الأمر،

والعازم على الترك في حالة النهي - بعد البيان - يستحق الثواب،

ويسقط عنه العقاب.

فمثلاً: قوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) خطاب مجمل.

ومع ذلك فقد خاطبنا به الشارع؛ لوجود الفائدة فيه؛ حيث إننا

عرفنا بهذا الخطاب ما يلي:

1 -

وجوب إيتاء حق الزرع،

2 -

وقت دفع زكاة الزروع،

3 -

أنه حق المال، فهنا المكلَّف يمكنه أن يعزم

فيه على الامتثال، والاستعداد لذلك فيثاب على ذلك، ولو عزم

على ترك إلامتثال لكان عاصيا.

وكذلك قوله تعالى: (أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح) ، فإن

هذا مجمل، ومع ذلك فإن فيه فائدة، وهي: أن يعرف المكلَّف

إمكان سقوط المهر بين الزوج والولي.

وكذلك قوله تعالى: (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ، فهو

مجمل، ومع ذلك ففيه فائدة وهي: أن يُعرف أن المطلقة تجب عليها

عدة بعد زوجها الأول، فكل هذا لا يخلو عن أصل الفائدة، وإنما

يخلو عن كمالها، وذلك غير بعيد، بل واقع في الشريعة.

الدليل الثاني: قياس الخطاب بالمجمل بالخطاب بلفظ " أبجد هوز "،

وهو يريد به وجوب الصلاة: فكما لا يجوز الخطاب

ص: 1271

بأبجد هوز، فكذلك لا يجوز الخطاب بالمجمل بجامع: عدم

الفائدة في كل منهما.

جوابه:

إن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الخطاب

بالمجمل فيه فائدة وهو: قيام المكلف بالعزم على الفعل الذي سيبين

- فيما بعد -، واستعداده لذلك، فلا يضر تأخير تفصيل البيان إلى

وقت الحاجة.

أما الخطاب بلفظ: " أبجد هوز "، وهو يريد وجوب الصلاة فلا

يفيد شيئاً؛ لأنه تغيير للوضع، وقلب لحقائق الأمور، فافترقا.

الدليل الثالث: أنه اتفق على أنه لا يجوز أن يخاطب الأعجمي

بالعربية - لمن لا يفهمها - وسبب ذلك: أن الأعجمي لا يفهم لغة

العرب، فهو لم يسمع إلا اللفظ، دون معناه.

فكذلك خطابه بالمجمل، دون بيانه لا يجوز؛ لأنه خطاب بما لا

يفهم، وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز تأخير بيانه إلى وقت الحاجة.

جوابه:

يجاب عن ذلك بجوابين:

الجواب الأول: أن قياسكم الخطاب بالمجمل على خطاب

الأعجمي بالعربية قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لما ذكرناه

سابقاً وهو: أن الخطاب بالمجمل يفيد قيام المكلَّف بالعزم على الفعل

إذا بيَّن له تفاصيله، ويستعد لذلك، فلا يضر تأخيره.

بخلاف خطاب الأعجمي بالعربية لمن لا يفهمها، فإنه لا يفيد

شيئا أصلاً.

ص: 1272

الجواب الثاني: أنه لا يمتنع مخاطبة الأعجمي بالعربية؛ قياساً

على مخاطبة المعدوم، بيان ذلك:

أنا جوزنا كون المعدوم مخاطبا بالتكاليف الشرعية، وذلك على

تقدير الوجود، أي: أنه مأمور بها إذا وجد وتوفرت فيه شروط

المكلَّف - كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى - فإذا كان هذا جائزاً،

فمن باب أَوْلى جواز مخاطبة صلى الله عليه وسلم لجميع أهل الأرض من

العرب والعجم، ويشعرهم اشتمال هذا القرآن على أوامر يعرفهم بها

المترجم، فكما جاز أمر المعدوم على تقدير وجوده وتوفر شرط

التكليف، كذلك يجوز أمر الأعجمي بالعربية على تقدير وجود المبيِّن

له، وهو: المترجم.

الدليل الرابع: أنه لا خلاف في أنه لو قال: " في خمس من

الإبل شاة "، وأراد به خمساً من الغنم أو البقر، فإنه لا يجوز

ذلك؛ لأنه تجهيل في الحال، وإيهام الخلاف المراد، فكذلك قوله

تعالى: (فاقتلوا المشركين) يوهم قتل كل مشرك، فإذا لم يُبين أنه

مخصص فهو تجهيل في الحال، وكذلك لو قال:" له عليّ عشرة "

وأراد بالعشرة سبعة فإنه لا يجوز؛ لأنه تجهيل، وإن كان ذلك جائزاً

إن اتصل الاستثناء به بأن يقول: " له عليّ عشرة إلا ثلاثة "،

وكذلك العموم قد وضع للاستغراق، فلا يجوز إرادة الخصوص به

إلا بشرط وجود قرينة متصلة مبينة لذلك، فأما إرادة الخصوص بدون

قرينة فهو تغيير للوضع.

جوابه:

إن ما ذكرتم صحيح لو كان العام نصا في إفادته للاستغراق،

أي: لو كانت دلالة العام قطعية لكان ما ذكرتم صوابا، ولكن ليس

ص: 1273

الأمر كذلك عند جمهور العلماء؛ لأن دلالة العام ظنية، حيث إن

صيغ العموم تفيد العموم والخصوص، لكن إفادتها للعموم أرجح

- كما سيأتي بيانه والاستدلال عليه في باب العموم -.

وبناء على ذلك: فيجب على المكلََّف العمل باللفظ العام على

عمومه إن تجرد عن القرينة المخصصة، وهو - في نفس الوقت -

يحتمل أن يراد منه الخصوص، وينتظر أن ينبه على الدليل المخصص.

أما إذا أراد بالعشرة: سبعة، وأراد بالإبل: البقر، ونحو ذلك،

فهذا ليس من كلام العرب، وهو تغيير للوضع، وقلب لحقائق

اللغة.

المذهب الثالث: التفصيل بين المجمل، والعام، والمطلق:

فيجوز تأخير بيان المجمل، ولا يجوز تأخير بيان العام والمطلق.

وهو مذهب أبي الحسن الكرخي، واختاره الدقاق من الشافعية

وأبو الحسين البصري.

دليل هذا المذهب:

أن اللفظ العام يجب حمله على الحقيقة؛ فإذا ورد لفظ عام،

فإنه يجب أن نعتقد العموم فيه، أما إذا ورد لفظ عام أريد به

الخصوص ولم يبين مراده في ذلك، فإنه لا يجوز تأخير بيانه عق

وقت الخطاب به؛ لأن ذلك يؤدي إلى القول بلزوم اعتقاد الشيء

على خلاف ما هو عليه، ويفضي إلى ثبوت حكم في صورة غير

مرادة - أصلاً - ولذا فلا يجوز تأخير بيان مثل هذا العموم لئلا يلزم

منه ما ذكرناه؛ بخلاف المجمل؛ حيث إن المجمل لا يفهم منه معنى

معين؛ لأن معانيه متساوية في الفهم، ولا يرجح أحدهما على الآخر

إلا بقرينة.

ص: 1274

جوابه:

إن ذلك يبطل بالنسخ؛ لأن ما ذكرتموه موجود فيه، فالسامع

يعتقد استمراره وعمومه، وهو اعتقاد جهل، كما أن له أن يخبر

عنه، وقد جوزنا تأخيره، على أنه عندنا يعتقد عموم اللفظ العام

بشرط عدم وجود ما يخصصه، وإذا ورد التخصيص علمنا أن

المخصوص لم يدخل في العموم.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف - هنا - معنوي قد أثر في مسائل، منها ما يلي:

1 -

هل يجوز تأخير تبليغ الأحكام؟

فمن أجاز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة أجاز

للرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤخر التبليغ لما أوحي إليه من قرآن أو غيره إلى وقت الحاجة إليه.

ومن منع جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة:

قال: لا يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤخر التبليغ - وستأتي هذه المسألة.

2 -

إذا عثر الفقيه على عموم القرآن، ثم عثر على خبر واحد

يرفع بعض ذلك العموم، وعرف أن الآية متقدمة على الخبر، فهل

يكون الخبر نسخاً للآية أو تخصيصا مثل: قوله تعالى:

(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى)

فإنها نزلت في غزوة بدر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين:" من قتل قتيلاً فله سلبه ".

فمن أجار تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة: قال

بأن الخبر مخصص فيلزم الأخذ به.

ص: 1275

ومن منع جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب: قال بأن الخبر

يكون ناسخاً للآية، فلا يجوز الأخذ به، لأن خبر الواحد لا ينسخ

القرآن.

***

المسألة التاسعة: هل يجوز تأخير تبليغ الأحكام من وقت

نزولها إلى وقت الحاجة إليها؟

لقد اختلف في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: أنه يجوز تأخير تبليغ الأحكام من وقت نزولها

إلى وقت الحاجة إليها.

وهو مذهب الجمهور.

وهو الحق، لما قلناه في المسألة السابقة وهو: جواز تأخير البيان

من وقت الخطاب إلى وقت الحاجة مطلقا، حيث لا يترتب على

فرض جوازه محال، وقد سبق بيانه.

المذهب الثاني: لا يجوز تأخير تبليغ الأحكام من وقت نزولها إلى

وقت الحاجة إليها، وهو مذهب بعض العلماء.

دليل هذا المذهب:

قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك) .

وجه الدلالة: أن اللَّه أمر بتبليغ كل الأحكام، والأمر المطلق

يقتضي الفور، فيكون تأخير تبليغ الأحكام يؤدي إلى مخالفة الأمر

بالتبليغ، ومخالفة الأمر لا يجوز، فيكون تأخير التبليغ غير جائز.

ص: 1276

جوابه:

نسلم لكم أن الأمر يقتضي الفور، ولكن توجد قرينة صرفته من

إفادته للفور إلى كونه مفيداً للتراخي، وهي: العقل؛ حيث إن

العقل دلَّ على جواز تأخير تبليغ الأحكام إلى وقت الحاجة؛ حيث

لا يترتب على فرض جواز تأخيره ولا وقوعه محال؛ لأن كل ما في

الأمر هو: جهل المكلََّف بما كُلِّف به مدة من الزمن، وهذا ليس

بمحال، ولا يؤدي إلى المحال، فهو جائز.

المذهب الثالث: لا يجوز تأخير تبليغ القرآن، أما السُّنَّة فيجوز

تأخير تبليغها، وهو مذهب فخر الدين الرازي، والآمدي.

دليل هذا المذهب:

إن القرآن هو الذي يطلق عليه القول بأنه منزل على الرسول صلى الله عليه وسلم.

جوابه:

أنا لا نسلِّم التفريق بين القرآن والسُّنَّة؛ لأن كلًّا من القرآن

والسُّنَّة يطلق عليهما بأنهما منزلان، وعلى هذا فإذا كان القرآن يجب

تبليغه فوراً، فكذلك بقية الأحكام الواردة في السُّنَّة؛ إذ لا فرق.

وإذا وجب التبليغ لي جميع الأحكام فوراً، فإن هذا يكون إذا ورد

الأمر مطلقاً، ولكن العقل هو الذي قيده؛ حيث دلَّ العقل على

جواز تأخير التبليغ - كما قلنا سابقاً -.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف لفظي؛ لأن الخلاف في هذه المسألة راجع إلى الخلاف في

المسألة السابقة: فمن أجاز هناك تأخير البيان عن وقت الخطاب،

أجاز هنا، ومن منع: منع هنا.

ص: 1277