الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعثمان الكمّاخي، ومن كتب محمد كتاب (الحجة) المعروف بـ (الحجج في الاحتجاج على أهل المدينة)، ومنها كتاب (الآثار)، يروي فيه أحاديث مرفوعة وموقوفة ومرسلة، وهو الذي ألَّفه شيخه ورواه محمد عنه وعلّق عليه.
وفاة الإمام محمد بن الحسن - رضى الله عنه
-:
كان ميلاد محمد بن الحسن سنة اثنتين ومائة، كما نص عليه ابن أبي العوام وابن سعد والخطيب وغيرهم، ومنهم من قال سنة خمس كما سبق.
وأما وفاته فكانت سنة تسع وثمانين ومائة باتفاق بين ابن سعد وابن الخياط والخطيب، وغلط من قال: سنة ثمان، لا وقع في (فضائل ابن أبي العوام)، قال أبو عبد الله الصيمري: أخبرنا المرزباني، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي: مات محمد بن الحسن والكسائي بالري سنة تسع وثمانين ومائة، فقال الرشيد: دفنتُ الفقه والعربية بالري، وقيل: مات محمد ثم الكسائي بعده بيومين، وقيل: ماتا في يوم واحد، والله أعلم.
وذكر الذهبي في جزئه عن يونس بن عبد الأعلى، عن علي بن معبد، عن الرجل الرازي الذي مات محمد بن الحسن في بيته، وهو هشام بن عبيد الله قال: حضرتُ محمدًا وهو يموت فبكى فقلتُ له: أتبكي مع العلم؟ فقال لي: أرأيت إن أوقعني الله تعالى، فقال: يا محمد ما أقدمك الري؟ الجهاد في سبيلي أم ابتغاء مرضاتي؟ ماذا أقول: ثم مات رحمه الله.
أغدق الله على ضريحه سجال رحمته ورضوانه، ونفعنا بعلومه بمنّه وكرمه، إنه قريب مجيب.
وأخرج الصيمري عن المرزباني عن أبي بكر (ابن دريد) عن سعيد السكري قال: أنشدني إسماعيل بن أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي، عن أبيه: أنه أنشد يرثي محمد بن الحسن والكسائي:
تصرمت الدنيا فليس خلود
…
وما قد نرى من بهجة ستبيدُ
لكل امرئٍ منا من الموت منهل
…
فليس له إلا عليه ورودُ
ألم تري شيبًا شاملًا يبدر البلى
…
وإن الشباب الغض ليس يعودُ
سيأتيك ما أفنى القرون التي مضت
…
فكن مستعدًا فالفناءُ عنيدُ
أمسيتَ على قاضي القضاة محمد
…
فذرفتُ دمعي والفؤادُ عميدُ
وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنا
…
بإيضاحه يومًا وأنتَ فقيدُ؟
وأقلقني موت الكسائي بعده
…
وكادت بي الأرض الفضاءُ تميدُ
وأذهلني عن كل عيش ولذةٍ
…
وأرق عيني والعيون هجودُ
هما عالمان أوديا
…
فما لهما في العالمين نذيرُ
فحزني متي تخطر على القلب خطرة
…
بذكرهما حتى الممات جديدُ
وهذا آخر ما أردتُ من ترجمة الإِمام الرباني رضي الله عنه، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحان من أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وما لي لا أسبح الذي هداني إلى حديث من حدَّث بالحقِّ صلى الله على من اصطفاهُ بالوحي، وجعله أمينًا بالإِسراء، وعلى الذين قاموا على نصرة شريعة من هو خير الأبرار.
أما بعد: فيقول العبد الفقير النعماني إلى رحمة ربه الرحمان: عثمان بن يعقوب بن حسين بن المصطفى الكُمَّاخي ثم الإِسلامبولي، عامله الله بكرمه العالي:
لَمَّا مَنَّ الله عليَّ بتحديث الكتاب العزيز المُسَمَّى بـ:
(الموطأ في علم الحديث)
لتلميذ سلطان المجتهدين في المذاهب، برهان الأئمة في المشارق والمغارب:
أبي حنيفة نعمان بن ثابت بن طاووس بن هرمز بن مَلَك بن شيبان الكوفي.
أعني به أفضل العلماء المتقدمين وأكرم بالكرامات من أتباع التابعين، قدوة أساتذتنا العلَّام، وعمدة مشايخنا الفخام.
أبا عبد الله محمد بن الحسن بن عبد الله بن طاوس بن هرمز بن ملك بن فرقد بن شيبان الكوفيَّ.
فقد روى ما فيه من اثنين وسبعين وتسعمائة، بل يرتقي إلى ألف حديث عن ثلاث وأربعين رجلًا من مشايخه ستعرفهم - إن شاء الله تعالى - في آخر هذا الكتاب، لكن فيه فوائد كثيرة أكثر من أن تُحصى، وخواص عجيبة منها أن بعض تلاميذي أخبرني بأنْ قال: لما كتب جزءًا من أجزاء الموطأ أصابني نعمة كذا وكذا.
وبعضهم قال: لما كتبتُ جزءًا واحدًا منه وقرأته ظفرتُ مراد كذا وكذا قبل أن أقرأ جزءًا آخر.
وأخبرني بعض العلماء من علماء القسطنطينية: لما كتبتُ الموطأ لمحمد بن الحسن تمامًا نلت جاهًا كذا وكذا.
وأخبرني بعض الصالحين: أن ابنتي مرضت في زمان كثير وضعف بصرها، فكتبتُه تمامًا وأَخَذَتْهُ بيدها فقبلته ومسحته بوجهها وعينها فبرأها الله مما فيها، وأجلى بصرها ببركته.
وليس قوم قرؤوه إلا أغناهم الله من حيث لم يحتسبوا بيسر، ونصرهم على أعدائهم، وفيه مآرب كثيرة للمسلمين، وأي شرف حَصَلَ لغير هذا الفقير العاجز من المسلمين في زماننا هذا، فإني لما بدأتُ بتحديثه للطالبين أكرمني الله تعالى به بثلاث كرامات:
أولها: والله لقد رأيت في ليلة الأربعاء من آخر شهر الصفر من سنة اثنين وستين ومائة وألف من الهجرة في المنام أني أغتسل، فلما أتممت الغسل تقاطر الماء في جسدي وأنا عَارٍ من الثوب فإذا أرى رجالًا قد اجتمعوا في مكان، ورجلًا خرج من بينهم حتى قرب إليَّ وفي يده إزار بيضاء، فقال: هذا عطاء لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته واشتملته بجسدي كله.
وثانيها: لقد رأيتُ في ليلة الخميس من الثاني عشر من شهر جمادى الآخرة من سنة اثنين وستين ومائة وألف من هجرة من له العزو الشرف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس في زورق في البحر في خارج قصيء طوب خانه من ملحقات بلدي، وفي يده الشريفة دلو من ماء يشرب منه، ووجه الكريم متوجه إلى هذا العبد المضيف وأنا أريد أن أقبل بيده الشريف.
وثالثها: لقد رأيتُ في ليلة الجمعة من الليل الثالث من شهر الشوال من سنة ثلاث وستين ومائة وألف: أني أرى في المنام أني قبلت عينه اليمنى صلى الله عليه وسلم ثم عينه اليسرى، ثم ألقم شفتيه وذقنه جميعًا في فمي، اللهم اجعلنا مرافقته في الرفيق الأعلى .. آمين.
وهذه المذكورات من كرامات المصنف رحمه الله، ومن كراماته العجيبة ما قاله
الأقهاري في (نظام العلماء إلى خاتم الأنبياء)، وصلوات الله عليهم أجمعين، من طبقات الحنفية حيث قال: لمحمد بن الحسن مناقب كثيرة، أكثر من أن تُحصى، ومصنفات عديدة، ومؤلفات سديدة حتى قيل: صنف تسعة وتسعين كتابًا كلها في العلوم الدينية .. انتهى.
وهي خارق للعادة كقطع المسافة البعيدة في المدة القليلة، وكظهور الطعام عند الحاجة وآية من آيات الله تعالى لكمال قدرته تعالى، وسِنُّه ثمان وخمسون سنة، كما قاله المؤرخون.
ومن كتبه المشهورة: الأصيل، وهو المبسوط، والزيادات والظواهر، والنوادر، والهارونيات، والجرجانيات، والسير الصغير، وقد نلت من كتبه ستة كتب: السير الكبير، والجامع الصغير، والكبير، والحجة على أهل المدينة، والآثار، والموطأ.
وهو بضم الميم وفتح الواو والطاء المهملة المفتوحة المشددة، والهمزة المقصورة اسم الكتاب الذي صنفه الإِمام محمد بن الحسن في علم الحديث فعرضه على العلماء الأعلام في زمن خلافة هارون الرشيد فوطئوه، أي: نقحوه وتلقوه بالقبول، فسماه بالموطأ، وطالعته وظفرت في أثناء المطالعة بالحِكَم والأسرار وجعلتها شرحًا له، وهيأته ليكون تحفة للعلماء فسميته مهيئًا ليكون اسم الشرح مطابقًا باسم المتن جودة ومعنى لِمَا قال صاحب (القاموس): وطأه: هيأه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلتُ وإليهَ أنيب.
اعلم أن المصنف رحمه الله ابتدأ في أول كتابه بقوله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، امتثالًا بأمره صلى الله عليه وسلم:"ابدؤوا بما بدأ الله به"(1)، كذا نقله المناوي في (كنوز الحقائق) عن الدارقطني، أو تبركًا أو تنبيهًا للمؤمنين أن يقولوا في أول أمورهم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ليحصل الانكشاف في قلوبهم، والاطمئنان فيها،
(1) أخرجه: البخاري (1516)، ومسلم (1218).
والشوق إلى لقاء الله تعالى، والأمان من شر أعدائهم، والوصول إلى مطالبهم.
روى ابن مردويه عن جابر رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هرب الغيم إلى الشرق، وسكنت الرياح، وماج البحار، وأصغى البهائم بآذانها، ورجم الشياطين، وأقسم الله بعزته وجلاله: أن لا يُذكر اسمه على شيء إلا بورك فيه.
وامتثالًا بأمره تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، أي: اقرأ القرآن متبدئًا باسم ربك الذي خلق، كذا في تفسير الكواشي، وخصوص السبب لا يقدح بعموم الحكم، أو موافقته للكتاب المبين، حيث قال تعالى في أول كتابه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أو احترازًا عن أن يكون كتابه أبتر بعدم الكتابة باسم الله الرحمن الرحيم في أول كتابه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال - أي: ذي شأن - لم يُبدأ فيه باسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر"(1)، وإشارة إلى بعض ما يجب عليه من حمده لرب العالمين، وإنما قلنا إشارة إلى أداء ما يجب عليه؛ لأن العبد لن يقدر على أداء جميع ما يجب عليه من العبادات التي تنبغي لذاته تعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: "سبحانك لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك"(2).
وقالت الملائكة: "ما عبدناك حق عبادتك"(3)، أي: إظهارًا بكمال عجزهم عن عبادة ربهم بالوجه الأليق لذاته تعالى، فلهذا لا يقال: إن الإِمام محمد جعل كتابه أقطع بترك الحمد في ابتداء كتابه.
(1) أخرجه: ابن ماجه (1894)، وأحمد (8495)، والنسائي في الكبرى (10328)، وابن حبان (1، 2)، وابن أبي شيبة (6/ 263)، والبيهقي في الكبرى (5863)، والشعب (4272)، وهو ضعيف.
(2)
أخرجه: مسلم (486).
(3)
أخرجه: الحاكم (8739)، والطبراني فى الكبير (1751) ، والأوسط (3568)، والبيهقي في الشعب (166)، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لم يُبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع"(1)، فإن من قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقد حمد الله تعالى؛ لأن حقيقة الحمد إظهار الصفات الكمالية لا خصوص كتابة الحمد في أول كتابه.
قال محمود حسن في حاشية الجلال من علم الكلام: وفي بسم الله الرحمن إظهار الصفات الكمالية .. انتهى.
ويمكن أن يُجاب عن ترك المصنف بالحمد في أول كتابه بأنه إنما تركه إشارة إلى مذهبه الشريف ومذهب أبي حنيفة رحمه الله بأن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، آية مستقلة نزلت للفصل بين السورتين من سور القرآن، وليست جزء من سورة الفاتحة خلافًا للشافعي، فإنها آية من الفاتحة، فتكون حينئذٍ ثمان آيات عند الشافعي.
وفي بسم الله الرحمن أسرار منها:
قال عبد الرحمن جلال الدين السيوطي في (إتقان القرآن): أول ما نزل به جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد، استعذ بالله ثم قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وقال فيه: أول آية نزلت من اللوح المحفوظ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
وقال السيوطي في (الأوليات): أول من تكلم بهذه الكلمات حملة العرش، حيث أمروا بحمله ولا يزالون يقولون تلك إلى يوم القيامة - وهي هذه الكلمة - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، حسبي الله، توكلت على الله، اعتصمتُ بالله، فوضتُ أمري إلى الله، ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله من أكثر من قراءة هذه الكلمات شفي من كل سقم، وفرج من كل كربة، ونصر على كل عدو، كما أخرجه اليافعي في (روضة الرياحين).
فإن قلت: لم كانت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تسعة عشر حرفًا؟ ولم كان الأذان تسعة عشر حرفًا كلمة؟ الجواب: الله أعلم؛ لأن الله عز وجل خلق رؤساء
(1) تقدم.
الزبانية على جهنم تسعة عشر ملكًا، كما قال تعالى في سورة المدثر:{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30].
وأتباعهم لا يحصيهم أحد إلا الله، فمن قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كفاه الله تعالى بكل حرف منها واحدًا من الزبانية تسعة عشر ولا يسلطهم عليه ببركة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وكذلك الأذان يكفيه بكل كلمة منها واحدًا منهم.
وذكر الإِمام الغزالي في (شرح جنة الأسماء)، أن الخزنة لجهنم تسعة عشر على عدد حروف آية الرحمة، وهي تسعة عشر حرفًا جعلها الله تعالى برحمته جنة وسترًا من عذاب الخزنة، فإذا قال العبد: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقد تستر بجنة الرحمة، ودخل في حصن الأمان، كذا قاله في (خواتم الحاكم).
من خواص بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المعلم إذا قال للصبي المبتدئ بالعلم: قل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كتب الله براءة للصبي، وبراءة لأبويه، وبراءةً للمعلم عتقًا من النار"(1).
قال ابن العادل فى تفسير البسملة: من رفع ورقة من الأرض كُتب فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ خفف الله العذاب عن أبويه، وكذلك يرفع العذاب عن مولى المؤمنين والكافرين عند دخول شهر رمضان بحرمة النبي صلى الله عليه وسلم وليلة الجمعة، وإذا انسلخ رمضان أعيد العذاب على الكفار، ولا يعاد على المؤمنين في قبورهم، كما في التاتارخانية، وإمداد الفتاح.
فإن قيل: هذا يعارض لقوله تعالى: {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} [البقرة: 162]، أجيب عنه بأن الله تعالى لا يخفف عنهم العذاب في الآخرة، بل يخففه عنهم في عالم الدنيا وعالم البرزخ، ويشدده في وقت محكمة أخرى.
(1) قال ابن الجوزي في التحقيق (2/ 219): هذا الحديث لا يجوز الاحتجاج به لأنه من عمل أحمد بن عبد الله الهروي، وهو الجويباري، وكان كذابًا يضع الحديث: أجمع أهل النقل على ذلك.
قال الله تعالى في سورة الأنفال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]، ما طلب تفصيله في تفسير هذه الآية من (تفسير اللباب) لابن عادل.
ومن أحكام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اختلف العلماء فيه:
منهم من قال: إنها ليست بآية من الفاتحة كما مر، ولا من غيرها، ولكن كتبت للفصل بين السور، وعليه أبو حنيفة وأتباعه، ولكنها آية مستقلة وكذا لا تجهر في الصلوات عند أبي حنيفة رحمه الله، ولكن قال الشافعي وأصحابه: إنها آية من الفاتحة ومن كل سورة، ولذلك يجهرون بها في الصلوات الجهرية، والاسم في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هو اللفظ الدال بالوضع على موجود في الأذهان إن كان معقولًا من غير تعرض بهيئة للزمان، وهو من السمو، وهو العلو كما ذهب إليه البصريون، أو من الوسم وهو العلامة كما ذهب إليه الكوفيون، وكُسرت الباء لتشابه حركتها عملها وطولت لتدل على الألف المحذوفة، ولا تحذف إلا مع اسم الله، وهو - أي: لفظ الجلالة - هو اسم لذات واجب الوجود عند الجمهور، وقال بعضهم: هو اسم الذات والصفات معًا، وهو لفظ عربي علم لِمُوجِد العالم وليس بمشتق عند أكثر العلماء.
كما قال الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمود السيوسي في (عيون التفاسير)، وعبد الرحمن المدعو بشيخي زادة، وقيل: هو - أي اسم - في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مشتق من سِمو بكسر السين المهملة والميم الساكنة ثم الواو، بمعنى العلو كما مر، فنقلت ضمة الواو إلى الميم لكونها حرف علة متحركة، وما قبلها حرف صحيحة ساكنة واستثقلت الضمة عليها، ثم حذفت الواو لسكونها وسكون التنوين فأعطي التنوين إلى ما قبلها، فصار سِمُنْ بكسر السين وضم الميم وسكون النون، ثم أدخلت الألف في أوله لتدل على الألوهية، ثم حركت الألف لتعذر الابتداء بالساكن وإنما حركت بالكسر؛ لأن الساكن إذا حركت بالكسر فصار اسم، ثم زيدت بالباء الجارة في أوله للإِلصاق فصار باسم، ثم حذفت الهمزة طلبًا للتخفيف فصار
بسم، فعوض مد الباء من الهمزة المحذوفة، ثم أضيف إلى لفظ الجلالة فسقطت التنوين؛ لأن بينهما التضاد؛ لأن التنوين تقتضي الانفصال والإضافة تقتضي الاتصال، وجمعهما في حالة واحدة متعذرة.
وإنما قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولم يقل: بالله؛ لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه تعالى أو للفرق بين اليمين والتيمين، وقيل: هو - أي: لفظ الله - مشتق من أله بفتح الهمزة بمعنى: عَبَدَ على بناء المفعول، فحذفوا الهمزة تخفيفًا فصار له بالتنوين، ثم أدخل الألف واللام للتعريف فصار ال له بالتنوين، ثم حذفت التنوين فصار ال له بغيرها، فاجتمعت في الكلمة الواحدة حرفان من جنس واحد، الأولى ساكنة والثانية متحركة، فأغمت الأولى في الثانية فصار الله لكنه في الأصل يستعملون لكل معبود، ثم غلب على المعبود بالحق كما نقلناه في (توضيح الأسرار شرح بركات الأبرار)، فعلم من هذا أن الاسم غير المسمى؛ لأن الاسم يتألف أصوات مقطعة غير قارة، ويختلف باختلاف الاسم والأعصار، ويتعدد تارة، ويتحد أخرى، والمسمى لا يكون كذلك خلافًا للمعتزلة وإنما يستدل على اتحاد حكمًا لو أريد به ذات الشيء لكنه لم يشهد بهذا المعنى.
وقوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78]، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، المراد به اللفظ؛ لأنه كما يجب تنزيه ذاته وصفاته عن النقائص، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن سوء الأدب والرفث، وتقرير هذا الكلام هو أن يعلم أن الاسم مثلًا يطلق تارة ويراد به المسمى، وهو الغالب الشائع، ويطلق أخرى ويراد به الاسم، ويتعين أحدهما إذا اقتضاه المقام فحيث يقال: ضرب زيدٌ، وضربتُ زيدًا، فالمراد به المسمى لا غير؛ لأنه هو الذي يتصف بالضاربية والمضروبية كما لا يخفى، وحيث يقال: زيد ثلاثي ساكن الوسط وآخره وَزْنُ فَعْل، والمراد به اللفظ، وهو واضح تصورًا ونقلًا عن اللغة وتتبعًا للاستعمال، إذا تقرر هذا فلفظ الله يطلق تارة ويراد به المسمى حيث يقال الله تعالى، خالق الأشياء كلها، وصانع العالم، وأخرى يراد به اللفظ، حيث يقال: لفظ الله عربي أو سرياني مشتق ومنقول، وهذا المقام مما يتعين فيه اللفظ دون المسمى، إذ التبرك والتيمن من الأمور
المتعلقة باللفظ دون المعنى فناسب أن يؤتى بلفظ اسم ليتمحض أن المراد النقط قرينة معينة للمعنى المراد كما قاله التمرتاشي.
قوله: الرحمن الرحيم: صفتان مشتقتان من رحم بعد نقله إلى فعُل، بضم العين؛ لأن الصفة المشهبة لا يشتق إلا من فعل لازم، وهذا مطرد في باب المدح مثل رفيع الدرجات، وبديع السماوات، واشتقاقهما باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي تكون انفلات؛ لأن الرحمة في اللغة رقة القلب، والله منزه عن القلب وعن صفتها، والرحمن من أبنية المبالغة، وفي الرحيم مبالغة أيضًا إلا أن فعلان أبلغ من فعيل؛ لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قطَّع بتشديد الطاء المهملة، وقَطَع بالتخفيف وتخصيص التسمية بهذه الأسماء، أي بالله الرحمن الرحيم ليعلم القارئ أن المستحق أن يستعان به في جميع الأمور، وهو المعبود بالحق الذي هو مولى النعم كلها، عاجلها وآجلها، جليها وخفيها، فيتوجه العارف بنفسه وحده إلى جانب القدس ويتمسك بحبل التوفيق، ويشغل سره بذكر الله تعالى، والاستمداد بالله عن غيره كما أشبعناه في (توضيح الأسرار شرح بركات الأبرار).
وأما إعراب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
فالباء فيه متعلق بمحذوف وهو يحتمل أن يكون اسمًا أو فعلًا، وعلى كلا التقديرين يجوز أن يكون متقدمًا أو متأخرًا، فهذه أربعة أقسام، أما إذا كان متقدمًا وكان فعلًا يكون محل الجار والمجرور منصوب على أنه حال من الضمير المرفوع المستتر في المتقدم، أو مفعول غير صريح تقديره ابتدئ هذا الكتاب حال كوني ملتبسًا باسم الله الرحمن الرحيم، وأما إذا كان المتعلق متقدمًا وكان اسمًا فيكون محل الجار والمجرور مرفوعًا على أنه يكون خبرًا مجازًا لمبتدأ متقدم والحال أن الخبر حقيقة لفظ كائن مثلًا تقديره ابتدائي بهذا الكتاب كائن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وأما إذا كان المتعلق متأخرًا وكان فعلًا فيفيد حصرًا تقديره: إنما أنا ملتبسًا باسم الله تعالى أبتدئ أو بدأت هذا الكتاب، وهذا الحصر يفيد اهتمامًا لذكر اسم الله تعالى بالابتداء ورد الكفار عن إرادتهم الاهتمام بذكر أسماء أصنامهم، حيث كانوا يقولون: باسم
اللات، وباسم العزى، فإنهما اسمان للصنمين اللذين نصب كفار مكة أحدهما على الصفا والآخرى على المروة يعبدونهما، وأمَّا إذا كان المتعلق متأخرًا وكان اسمًا، فيكون محل الجار والمجرور مرفوعًا على أن يكون خبرًا مجازًا أو متقدمًا على المبتدأ والخبر حقيقة لفظ كائن أو حاصل مثلًا.
(ق 6) فيفيد هذا التقديم أيضًا حصر الخبر على المبتدأ، فيكون هذا الحصر اهتمامًا بذكر اسم الله تعالى تقديره: بسم الله كائن ابتدائي لكن تقديم بسم الله على متعلقه أولى؛ لأنه علم مختص لذات واجب الوجود على مذهب أهل الحقائق، وذات واجب الوجود مقدم بنفسه على ذوات الممكنات فيلزم أن يكون اسمه تعالى مقدمًا في الذكر على جميع المذكورات، فالباء في بسم الله يدور بين معنى الملابسة والاستعانة، لكن الاستعانة في هذا المقام لا ينبغي؛ لأنه قال عصام الدين في حاشيته في تفسير {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]، أن معنى الاستعانة: إيهام تشبيه اسمه تعالى بآلة النجار، وفي هذا التشبيه ترك التعظيم الذي يستحق به تعالى، انتهى.
والأولى أن يكون الباء للملابسة والإِلصاق، ووجه الأولوية إشعار بالمعنى الذي رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"جميع ما أنزله الله تعالى على أنبيائه عليهم السلام من الكتب كلها في القرآن، وجميع معاني القرآن في سورة الفاتحة، وجميع معاني الفاتحة في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وجميع معاني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في الباء من بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ".
فالقصد إليه من كل العلوم وصول العبد إلى معبوده، وهذه الباء للإِلصاق فهو يلصق العبد إليه، فهو كمال المقصود، فلذلك اختار الله تعالى الباء على سائر الحروف في افتتاح كتابه.
قوله: الله في بسم الله مجرور لفظًا على أنه دفع مضافًا إليه لاسم يشبه أن يكون الإِضافة من قبيل سعيد كرز.
وقوله: الرحمن الرحيم مجروران على أنهما صفتان للفظة "الله"، ويجوز أن يكونا منصوبين على المدح، فالتقدير: أمدح الرحمن الرحيم، ويجوز أن يكونا
مرفوعين لفظًا على أنهما وقعا خبرًا لمبتدأ محذوف، فالتقدير: هو الرحمن هو الرحيم، فالفعل مع فاعله ومفعوله، أو المبتدأ مع خبره جملة فعلية أو إسمية لا محل لها من الإِعراب لأنها مستأنفة، أو مجرورين على أنهما بدلان من الله كررهما لتأكيد رحمته على خلقه، وبيان سبقهما على غضبه، فإن قيل: ما بال المصنف رحمه الله أنه ابتدأ كتابه بقوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقتصرًا عليه؟ فأكثر المتقدمين دون الحمد والشهادة مع أن ورود قوله صلى الله عليه وسلم: "كل أمرٍ ذي بالٍ لم يُبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع"(1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء"(2)، أخرجهما أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال العسقلاني (3): إن الحديثين في كلٍّ منهما مقال سلمنا صلاحيتهما للحجة، لكن ليس فيهما أن ذلك متعين بالنطق والكتابة معًا، فلعله، أي: نرجو أن المصنف رحمه الله حمد وتشهد نطقًا عند وضع الكتاب، ولم يكتب ذلك اقتصارًا على البسملة واتباعًا بكتب النبي صلى الله عليه وسلم حيث كتب إلى الملوك وكتب في القضايا مفتتحًا بالبسملة دون الحمد له، وغيرها كما في حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وفي حديث البراء بن عازب في قصة سُهيل بن عمرو في صلح الحديبية، وغير ذلك من الأحاديث.
وهذا يُشعر بأن لفظ الحمد والشهادة إنما يحتاج إليهما في الخطب دون الرسائل (ق 7) والوثائق، فكأن المصنف لمَّا لم يفتتح كتابه بخطبة أجرى كتابه مجرى الرسائل إلى أهل العلم لينتفعوا بما فيه تعلُّمًا وتعليمًا، وكذلك أئمة الحديث كعبد الرزاق، والزهري، والإِمام مالك، وغيرهم ممن لم يقدموا في ابتداء تصنيفهم
(1) تقدم.
(2)
أخرجه: أبو داود (4841)، والترمذي (1106)، وأحمد (7958)(8313)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.
(3)
انظر: فتح الباري (1/ 8).
خطبة، ولم يزدادوا على البسملة شيئًا، والحال أن المصنف رحمه الله رعى الأدب، ولم يقدم على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من كلامه، والحال أنه تعالى نهى المؤمنين عن ذلك وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، ويقال: بأنه يمكنه أن يأتي بلفظ الحمد من كلام الله تعالى.
ويعترض على المصنف بأنه قدم الترجمة، وهي من كلامه، وكذا السند على الحديث، والجواب عن ذلك: أن الترجمة والبسملة وإن كانتا متقدمتين لفظًا لكنهما متأخرتان تقديرًا لما ذكر ما يتعلق باسم الله الرحمن الرحيم، شرع بذكر ما يتعلق بأوقات الصلوات، فقال هذا.