الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفقهاء، أي: ممن لهم مشاركة في تحقيق اللغة، إنَّما سُمِّيَت العصر، أي: صلاة العصر؛ لأنها تُعْصَرُ أي: يتبطأ، وتُؤخَّرُ، وفي (الصحاح) قال الكَسائي: جاء فلان (ق 17)، عصرًا، أي بطيئًا متأخرًا، قال بعض المفسرين: سمي صلاة العصر عصرًا؛ لأنه إذا صلى العبد صلاة العصر جاء ملك من ملائكة الله تعالى ويعصره، أي يضمه إلى نفسه حتى يُخرج ذنوبه وخطاياه. وروى مسلم وأبو داود والنسائي والحاكم بإسناد حسن عن أبي سلمة عن جابر مرفوعًا، يقولون: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ساعة يوم الجمعة يستجاب الدعوات فيها وهي بعد العصر".
قال بعض المفسرين: ما الحكمة في قسم الله تعالى بصلاة العصر في قوله: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1، 2]؟ الجواب: لأنه وقت يعم فيه خيرات الأولياء من طلب العلم، والقراءة، والتسبيح، والصلوات الخمس، وغيرها، فأقسم بها تعظيمًا لخدمة أوليائه وإعلامًا أنهم كرماء وعظماء عند ربهم.
ولما فرغ عما يتعلق بوقوت الصلاة شرع بما يتعلق بالطهارة.
* * *
باب ابتداء الوضوء
فقال: هذا باب ابتداء الوضوء، وهو أي الباب في اللغة: النوع، وفي العرف: نوع من المسائل التي اشتمل عليها الكتاب، كذا قاله الشمني، وهو أي: لفظ باب، بالتنوين على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا باب، أو بالوقف، فلاحظ له من الإِعراب أو بالإِضافة إلى ابتداء مضاف إلى الوضوء، والمعنى على التقدير الأول: هذا باب كان في بيان كيفية الشروع بالوضوء، وعلى التقدير الثالث: باب كيفية الشروع بالوضوء مشتمل على أربعة أحاديث، وإضافة الباب إلى ابتداء على التقدير الأول بمعنى: في، وإضافة ابتداء إلى الوضوء من قبيل إضافة الصفة إلى موصوفها، ومناسبة هذا الباب بالباب المتقدم أنهما في بيان بعض شروط الصلاة، لكن قدوم الباب الأول على هذا الباب لكثرة وقوعه بالنسبة إلى هذا الباب، وقوله: الوضوء بالضم الفعل، وبالفتح: الماء الذي يُتوضأ به، وحكي في كل الفتح والضم، وهو مشتق من الوضاءة وهو الحسن والنظافة؛ لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئًا، كذا قاله العسقلاني.
5 -
أخبرنا مالك، أخبرنا عَمرو بن يحيى بن عُمارة بن أبي حَسَن المازِنيُّ، عن أبيه يحيى؛ أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد بن عاصم، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تستطيع أن تُرِيَني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضَّأ؟ قال عبد الله بن زيد: نعم، فَدَعَا بوضوء، فأفْرغَ على يَدَيْه فغسل يديه مرتين، ثم مَضْمَضَ، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل يَدَيْه إلى الْمِرْفَقَيْن مرتين مرتين، ثم مسح من مقَدَّم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم رَدَّهما إلى المكان الذي منه بدأ، ثم غسل رجليه.
قال محمد: هذا حَسَنٌ؛ والوضُوء ثلاثًا، أفضلُ، والاثنان يُجْزيان، والواحدة إذا أسبْغَتْ تجزئ أيضًا، وهو قولُ أبي حنيفة.
• قال محمد، كذا في نسخة، وفي نسخة أخرى: محمد قال: أخبرنا، كذا في نسخة، وفي نسخة أخرى: حدثنا، وفي نسخة أخرى: ثنا رمزًا إلى حدثنا، مالك بن أنس قال: أخبرنا وفي نسخة: حدثنا عَمرو، فتح العين، ابن يحيى بن عُمارة، بضم العين وتخفيف الميم، ابن أبي حَسَن، وفي نسخة: أبي الحسن باللام، المازِنيُّ بكسر الزاي المعجمة، من بني مازن بن نجار الأنصاري، وهو صفة عمرو بن يحيى، كان في الطبقة السادسة من طبقات التابعين من أهل المدينة، مات بعد المائة والثلاثين (1)، عن أبيه يحيى؛ أنه سمع جده أبا حسن، قيل: وله صحبة، يسأل اعلم أن سمع يتعدى إلى مفعول واحد إذا دخل على الصوت، نحو: سمعتُ قول زيد، وإلى مفعولين إذا دخل على غيره.
قال عصام الدين: ويجب حينئذٍ أن يكون مفعوله الثاني مضارعًا، فقوله: يسأل، مفعوله الثاني، ومفعوله الأول جده، وأبا الحسن بيان له، وإنما عدل إليه عن سأل الذي هو مقتضى الظاهر استحضارًا لصورة السماع للحاضرين، كأنه يريهم أنه سامع له الآن،
(5) أخرجه: البخاري (191)، (192)، ومسلم (235)، وأبو داود (118)، والترمذي (32)، والنسائي (97)، وابن ماجه (434)، وأحمد (16010)، والدارمي (694).
(1)
انظر: التقريب (1/ 429).
وقيل: إنه حال مبينة، فالتقدير أنه سمع جده حال كونه يسأل عبد الله (ق 18) بن زيد بن عاصم، بن كعب الأنصاري المازني، صحابي شهير، روى صفة الوضوء وعدة أحاديث، وشهد بدرًا وما بعدها فيما جزم به أبو أحمد الحنبلي وابن منده، وأخرجه الحاكم في (المستدرك)، وقال ابن عبد البر: شهد أحدًا وغيرها ولم يشهد بدرًا، ويقال: إنه الذي قتل مسيلمة الكذاب واستشهد يوم الحرة سنة ثلاث وستين كما قاله الزرقاني، وكان أبو عبد الله بن زيد بن عاصم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كذا في نسخة، وفي نسخة أخرى: قال، أي: جده أبو الحسن لعبد الله بن زيد: هل تستطيع أن تُرِيَني من الإراءة، أي: تبصرني، أي: تعلمني.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه ملاطفة التلميذ لشيخه، وكأنه أراد الإراءة بالفعل ليكون أبلغ في التعليم، وسبب الاستفهام ما قام عنده من احتمال أن يكون معنى ذلك لبعد العهد، كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضَّأ؟ أي: للصلاة.
قال السيوطي ليحيى بن مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال لعبد الله بن زيد بن عاصم، وهو جد عمرو بن يحيى، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تستطيع. . . الحديث.
قال ابن عبد البر: هكذا في (الموطأ) عند جميع رواته رواية رواية، وانفرد به مالك، ولم يقل أحد في عبد الله بن زيد بن عاصم أنه جد عمرو بن يحيى المازني إلا مالك فإنه عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني الأنصاري، لا خلاف في ذلك، ولجده أبي حسن صحبة فيما ذكره بعضهم، فعسى أن يكون جده لأمه؛ لأن الأمر ثبت على خلاف ذلك، قوله: كيف، في: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ظرف من الظروف المبنية للزمان الحال؛ لأنه سؤال عن الحال؛ وإنما بني لتضمنه معنى همزة الاستفهام، وعلى الحركة لالتقاء الساكنين، وعلى الفتحة للخفة ولفظ: كان زائدة مجازًا كما في قوله تعالى في سورة مريم: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)} [مريم: 29]، جيء به لتحسين اللفظ، والعامل في محله النصب لفظ يتوضأ مؤخرًا، وقدم على عامله؛ لأن فيه معنى همزة الاستفهام، وهو يقتضي الصدارة، والمعنى: هل تستطيع أن تريني وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي حال وجد؟ قال عبد الله بن زيد: نعم، أستطيع وهو بفتح النون والعين وسكون الميم حرف وعد وإعلام بعد الاستفهام جوابًا للاستفهام، نحو: هل تعطيني؟ يقال: نعم،
أعطني، كما قاله ابن هشام في (مغني اللبيب)، فَدَعَا عبد الله بن زيد بوضوء، بفتح الواو، ماء يتوضأ به، وللبخاري عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، فدعا، أي: طلب بماء وله من وجه آخر فدعا بقدر من ماء بفوقية مفتوحة، أي: قدح أو إناء يشرب منه، أو الطست أو شبه الطست، أو مثل القدر يكون من صخر أو حجارة، والتور المذكور وهو الذي توضأ منه عبد الله بنِ زيد، أنه سئل عن صفة الوضوء فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها، فأفْرَغ أي: صب بنفسه، يقال: أفرغ وفرغ لغتان حكمًا كذا في (المحكم) على يَدَيْه كذا في رواية (ق 19)، ابن وضاح بلفظ التثنية، وفي رواية يحيى: على يده بالإِفراد، وزاد أبو مصعب ويحيى بن بكير: اليمني، فالتقدير على إحدى يديه، أو المراد بيده جنسها، فتيقن الروايتان معنى فغسل يديه أي: كل واحدة منهما مرتين، ولذا اقتصر على ذكر مرتين مرة، والمراد: غسلهما إلى رسغيهما، فوضع الظاهر موضع الضمير فلزيادة التمكن وكان مقتضى الظاهر أن يقول فغسلهما، ثم مَضْمَضَ، كذا في نسخة، وفي نسخة أخرى: فمضمض واستنثر، يحتمل مرتين نظرًا إلى ما قبله، ويحتمل ثلاثًا اعتبارًا بما بعده وهو قوله: ثم غسل وجهه ثلاثًا، لم تختلف الروايات في ذلك، ويلزم من استدل بالحديث على وجوب تعميم الرأس بالمسح يعني كمالك وتبعه البخاري أن يستدل به على وجوب الترتيب للإِتيان بقوله، ثم في الجميع؛ لأن كلا الحكمين يحمل في الآية بينت السنة بالفعل، كذا قاله الحافظ ابن حجر، ولا يلزم ذلك؛ لأن إسقاط الياء في قوله: مسح رأسه مع كونها في الآية ظاهر في وجوب مسح الجميع لا سيما قد أكده في رواية بلفظ: كله بخلاف لفظ: ثم لا يفيد وجوب الترتيب، بل يتحقق بالسنة والألزم أن التثليث ونحوه واجب لأنه مجمل في الآية أيضًا؛ ثم غسل يديه أي: ساعديه إلى المِرفقين بكسر الميم وفتح الفاء، وبضم الميم وكسر الفاء لغتان مشهورتان وقراءتان متواترتان، وهما، أي: المرفقان: العظمان الناتئان في آخر الذراعين، سميا بذينك؛ لأنه يرتفع بهما في الاتكاء ونحوه، وذهب جمهور العلماء إلى دخولهما في غسل اليدين؛ لأن إلى في الآية بمعنى: مع، كقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، أي: مع أموالكم، مرتين مرتين، وفي ذكره مرتين مرتين: تثنية على أنه غسل كل واحدة مرتين، وإلا فلم يتكرر ربما يتوهم أن كلًا غسلهما مرة.
قال الوالي العراقي: المنقول في علم العربية أن أسماء الأعداد والمصادر والأجناس
إذا كررت كان المراد حصولها مكررة لا التوكيد اللفظي فإنه قليل الفائدة لا يحسن حيث يكون للكلام محمل غيره، مثال ذلك: جاء القوم اثنين اثنين، أو رجلًا رجلًا وضربته ضربًا ضربًا؛ أي: اثنين بعد اثنين، أي: غسلهما مرتين بعد مرتين، أي: كل واحدة منهما بالغسل مرتين، ثم مسح أي: مبتدأً من مقَدَّم رأسه أي: بيديه المبلولتين بماء جديد، حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم رَدَّهما، كذا في نسخة، وفي نسخة أخرى: مدهما بفتح الميم والدال المشددة المفتوحة، أي: على طرفي رأسه. إلى المكان الذي منه بدأ، بالهمزة، أي: ابتدأ ليحصل الاستيعاب فإنه سنة مؤكدة عند الجمهور، وواجب عند الإِمام مالك، ثم غسل رجليه، أي: إلى كعبيه، إما ثلاثًا أو مرتين.
قال محمد: هذا أي: ما ذكر من الغسيل مرتين: حَسَنٌ؛ أي: جائز مستحسن، والوضُوء ثلاثًا، ثلاثًا، أي: في المغسولات أفضلُ، أي: اتفاقًا، والاثنان يُجْزيان، والواحدة والمرة الواحدة في غسل الأعضاء إذا أسبْغَتْ بصيغة الخطاب أو بالتأنيث مجهولًا، أي: إذا استوعب الأجزاء (ق 20) تجزئ بضم تاء التأنيث، وهمزة في آخره، أي: تكفي أيضًا، أي: كما يكفي مرتين، وهو قولُ أبي حنيفة رحمه الله، ولا أظن له مخالفًا فيه.
ما الحكمة في تخصيص الأعضاء الأربعة بالوضوء؟ الجواب: قبل العلة الأولوية، والحكم الربانية أن آدم، صلوات الله على نبينا وعليه، لما توجه إلى الشجرة بالوجه، وتناولها باليد، ومشى إليها بالرجل، ووضع يده على رأسه فأمر بغسل هذه الأعضاء الأربعة وأغلب الأعمال بها فأمره بغسلها تكفيرًا لخطاياه، وقد جاء في الحديث: أن العبد إذا غسل وجهه خرجت خطاياه حتى تخرج من أشفار عينيه، وكذلك في بقية الأعضاء، وقيل: اختص لغسل هذه الأعضاء الأمة المحمدية ليكونوا غرّا محجلين بين الأمم كما ورد في الحديث.
قال النيسابوري: إن آدم صلوات الله على نبينا وعليه لما أكل من الشجرة وبلغت قوته في الأعضاء الأربعة فأمر بغسلها، ويقال: لأن هذه الأعضاء ظواهر، فقال تعالى: نقِّ أنت ظواهرك حتى أنقي أنا باطنك، طهر وجهك الظاهر بالماء، وإخلاص العمل، أطهر وجهك الباطن بالفيض المقدسي، وقيل: هذه الأعضاء الأربعة عروس الأعضاء فأمرنا بغسلها للتزين بالأنوار الحاصلة من آثار الوضوء فنميز يوم القيامة
كالعرائس في الدنيا، كما في (خواتم الحكم)، أخبرنا، كذا في نسخة، وفي نسخة أخرى: محمد قال.
* * *
6 -
أخبرنا مالك، حدثنا أبو الزَّناد؛ عن عبد الرحمن الأعْرَج، عن أبي هريرة قال: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً، ثم ليستنثر.
• أخبرنا مالك، حدثنا، وفي نسخة: قال: ثنا رمزًا إلى حدثنا، أبو الزَّناد؛ بكسر الزاي قبل النون، وهو عبد الله بن زكوان وكنيته أبو عبد الله، وأبو الزناد لقبه، وكان يغضب منه لما فيه من معنى ملازم النار، لكنه اشتهر بها لجودة ذهنه وحدة فهمه كأنه نار موقدة، ثقة فقيه، كان في الطبقة الخامسة من طبقات التابعين من أهل المدينة (1).
وقال بعض المؤرخين: بعد المائة والثلاثين سنة، عن عبد الرحمن الأعْرَج، وقد اشتهر به فلا حرج، وهو ابن هرمز المدني، مولى بني هاشم من مشاهير التابعين، أُشْهِر لروايته عن أبي هريرة، رضي الله عنه، وروى عنه الزهري، كان في الطبقة الثالثة من طبقات كبار التابعين، مات بالأسكندرية سنة عشر ومائة وهي في الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: إذا توضأ أحدكم، أي: إذا أراد أن يتوضأ أحدكم، فليجعل أي: الماء، في أنفه، قال ابن عبد البر: كذا رواه يحيى، ولم يقل: ماء، وهو مفهوم من السياق ورواه القعنبي وابن بكير، وأكثر الرواة فقالوا: في أنفه ماءً، ثم ليستنثر، من باب الاستفعال، أي: ليخرج نخامته من أنفه، كذا رواه النسائي.
قال السيوطي ليحيى: ثم لينتثر بكسر المثلثة بعد النون الساكنة والتاء مفتوحة على صيغة أمر الغائب من باب الانفعال، وقال القاضي عياض: هو من النثر، وهو الطرح، وهو هنا طرح الماء من الأنف بعد الاستنشاق، وهو جذب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف والاستنثار: إخراج الماء (ق 21) من الأنف بعد الاستنشاق.
(6) أخرجه: البخاري (161)، ومسلم (237)، وأبو داود (140)، والنسائي (86)، وأحمد (7688)، ومالك (34).
(1)
انظر: التقريب (1/ 287).
هذا الحديث موقوف لفظًا عند المصنف، رحمه الله، حيث وقفه إلى أبي هريرة، ومرفوع حكمًا عند الإِمام مالك حيث رواه من موطئه، مرفوعًا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً، ثم لينتثر، ومن استجمر فليوتر"، وكذا مرفوع عند البخاري، حيث قال في صحيحه: باب الاستجمار وترًا.
حدثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء، ثم ليستنثر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده"(1)، ومناسبة هذا الحديث إلى الترجمة من جهة بيان كيفية استنشاق المتوضئ من أنفه.
* * *
7 -
أخبرنا مالك، حدثنا الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر".
قال محمد: وبهذا نأخذ، أنه ينبغي للمتوضئ أن يتمضمض ويستنشق، وينبغي له أيضًا أن يستجمر، والاستجمار: الاستنجاء، وهو قول أبي حنيفة.
• محمد قال: كذا في نسخة، أخبرنا مالك عن ابن شهاب، قال: حدثنا، وفي نسخة: ثنا رمزًا إلى حدثنا، الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، بفتح الخاء المعجمة، وسكون الواو واللام والنون بعدها ياء: نسبة إلى قبيلة بالشام، وهي في الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة، واسمه عائذ الله بعين مهملة وتحتية وذال معجمة، بن عبد الله، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وسمع كبار الصحابة.
(1) أخرجه: البخاري (162)، ومسلم (278).
(7)
أخرجه: البخاري (161)، ومسلم (237)، والنسائي (88)، وابن ماجه (409)، وأحمد (7180)، ومالك (34).
قال سعيد بن عبد العزيز: كان عالم الشام بعد أبي الدرداء، وقال مكحول: ما رأيتُ أعلم منه، مات سنة ثمانين، كما قاله الزرقاني، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ توضأ" أي: إذا أراد أن يتوضأ وضوءًا كاملًا فليستنثر، أي: فليبالغ في استنشاقه بأن يخرج ما في أنفه، وفيه طرد الشيطان، لما رواه البخاري ومسلم:"إذا استيقظ أحدكم فتوضأ فليستنثر ثلاثًا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه"، أي: على أنفه، ونومه عليه حقيقة أو استعارة؛ لأن ما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم قذارة توافق الشيطان، فهذا على عادة العرب في نسبة المستخبث والمستبشع إلى الشيطان، أو ذلك عبارة عن تكسيله عن القيام إلى الصلاة، ولا مانع من حمله على الحقيقة، وهل مبيته لعموم النائمين، ومخصوص بمن لم يفعل ما يحترس به في منامه كقراءة الكرسي؛ الأقرب الثاني.
قال الحافظ: وظاهر الأمر فيه الوجوب، فيلزم من قال بوجوب الاستنشاق لورود الأمر به، كأحمد وإسحاق وغيرهما أن يقول به في الاستنثار، وهو ظاهر كلام الحنابلة، وأن مشروعية الاستنشاق إنما تحصل بالاستنثار. وصرح ابن بطال بأن بعض العلماء قال بوجوب الاستنثار، وفيه تعقب على من نقل الإجماع على عدم وجوبه، واستدل الجمهور على أن الأمر فيه للندب بقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي:"توضأ كما أمرك الله"(1)، حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، فأحاله على الآية وليس فيها استنشاق، والاستنثار، ويعقب (ق 22) باحتمال أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء، فقد أمر الله باتباع نبيه، ولم يحك أحدٌ من وصف وضوءه على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق، بل ولا المضمضة، وهذا يرد على من لم يوجب المضمضة أيضًا.
وقد ثبت الأمر بها في سنن أبي داود بإسناد صحيح، وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به لا لكونه لا يعلم خلافًا في أن تاركه لا يعيد، وهذا دليل فقهي فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة والتابعين إلا عطاء، وثبت عنه أنه رجع عن الإِعادة.
ومن استجمر أي: إذا مسح مقعده بعد قضاء الحاجة بالأحجار، فليوتر: فليمسحه
(1) أخرجه: أبو داود (856)، والترمذي (302).
بثلاثة أحجار ندبًا بالزيادة النقاوة، وروى أبو داود وابن ماجه بإسناد حسن:"من فعل فقد أحسن، ومن لم يفعل فلا حرج"، وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة، رحمهما الله، وداود الطائي ومن وافقهم، فإن الإِتيان يقع على الواحد، وهو مستحب فقط بلا شرط ولا يخالفه حديث سلمان عند مسلم مرفوعًا لا يتسبح أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار لحمله على الكمال.
قال محمد: وبهذا، أي: بهذا الحديث، نأخذ، أي: نعمل ونفتي، أنه ينبغي، أي: يستحب، للمتوضئ أي: المريد الوضوء، وأما المغتسل فيجب عليه أن يتمضمض، أي: يغسل فمه وكماله ثلاث وكذا قوله: ويستنثر أي: يغسل أنفه، وينبغي له أيضًا أن يستجمر، وقد يجب في محل الاستجمار: وهو المسح بالجمار وهو الأحجار الصغار، الاستنجاء، والمعنى: أنه يجوز به الاكتفاء، وإلا فالأفضل أن يجمع بينه وبين الماء، أو يكتفي بالماء، وهو، أي: استحباب الاستنجاء: ثلاثة أحجار، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، يُدْبِر بالحجر الأول ويقبل بالثاني ويدبر بالثالث في الصيف، ويعكس في الشتاء، محمد قال، كذا في نسخة.
* * *
8 -
أخبرنا مالك، أخبرنا نُعَيْم بن عبد الله المُجْمِرُ: أنه سمع أبا هريرة يقول: من توضأ فأحسن وُضوءه، ثم خرج عامِدًا إلى الصلاة، فهو في صلاة ما كان يَعْمِدُ، وأنه تُكْتَبُ له بإحدى خُطْوَتيْه حسنة، عنه بالأُخرى سيئة، فإن سَمِع أحدكم الإقامة فلا يَسْعَ، فإن أعظمكم أجرًا أبعدكُم دارًا، قالوا: لم يا أبا هريرة؟ قال: من أجل كثرة الخُطَى.
• أخبرنا مالك بن أنس، كذا في نسخة، قال: أخبرنا وفي نسخة بالإِفراد، نُعَيْم بضم النون وفتح وسكون الياء التحتية والميم بعدها، ابن عبد الله المدني مولى آل عمر، روى عن جابر، وابن عمرو، وأبي هريرة، وأنس، وجماعة، وعنه: محمد ابنه، ومالك،
(8) صحيح، أخرجه مالك (65).
وآخرون، وثقه ابن معين، وأبو حاتم وغيرهما، المُجْمِرُ بضم الميم وسكون الجيم، وكسر الميم الثانية: اسم فاعل من الإجمار على المشهور وبفتح الجيم وكسر الميم الثانية المشددة، من التجمير كان في الطبقة الثالثة من أوسط التابعين من أهل المدينة، وهي في الإِقليم الثاني من الأقاليم السبعة (1).
قال الحافظ ابن حجر (2): وُصف هو وأبوه بذلك لكونهما يجمران مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وزَعم بعض العلماء أن وصف عبد الله بذلك حقيقة، ووصف ابنه نعيم بذلك مجاز فيه نظر فقد جزم إبراهيم الحربي بأن نعيمًا كان يباشر ذلك.
وقال السيوطي: كان عبد الله مجمر المسجد إذا قعد عمر على المنبر، وقيل: كان من الذين يجمرون الكعبة، زاد غيره: وقيل: كان عبد الله يجمر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان وغيره، ولا مانع في الجمع، أنه سمع أبا هريرة يقول قال ابن عبد البر: قال مالك وغيره: كان نعيم يوقف كثيرًا من أحاديث أبي هريرة، ومثل هذا الحديث لا يقال من الرأي، فهو مسند وقد ورد معناه من حديث أبي هريرة وغيره بأسانيد صحاح، من توضأ فأحسن وُضوءه، بإتيان (ق 23)، فرائضه وسننه وفضائله وتجنب منه سيئاته، ثم خرج أي: من بيته، أو من سوقه، عامِدًا إلى الصلاة، أي: قاصدًا إليها دون غيرها، فهو في صلاة أي: في حكمها من العبادة من جهة كونه مأمورًا بترك العبث، وفي استعمال الخشوع، وللوسائل حكم المقاصد، وهذا الحكم مستمر ما كان يَعْمِدُ، بكسر الميم، أي: في زمن استمر عليه، ولفظ "ما" مصدرية بمعنى الزمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"(3)، أي: ما دام أعانه إليها، أي: إلى الصلاة، أي: ما دام مستمرًا على قصد الصلاة، ثم المراد أن يكون باعث خروجه قصد الصلاة، وإن عرض له في خروجه أمر دنيوي فقضاه، والدار على الإِخلاص فحسب، وفي معناه ما روى الحاكم في أبي هريرة مرفوعًا:"إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع، فلا يفعل هكذا - أو شبك بين يديه".
(1) انظر: التقريب (2/ 626).
(2)
انظر: فتح الباري (1/ 235).
(3)
أخرجه: مسلم (2699).
وروى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان عن كعب بن عجرة مرفوعًا، ولفظه:"إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة"، وأنه بفتح الهمزة وكسرها، أي: الشأن تُكْتَبُ له بإحدى خُطْوَتَيْه بضم الخاء إلى ما بين القدمين، وبالفتح المرة، قال الجوهري: وجزم اليعمري أنها هنا بالفتح، وضبطها القرطبي والحافظ بالضم وهي اليمنى، حسنة، وتُمحى عنه بالأُخرى أي: بالخطوة اليسرى سيئة، أي: من الصغائر، ويرجى من الكبائر. وفي معناه ما رواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن عمر:"إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا ينزعه إلا الصلاة لم يزل رجله اليسرى يمحي عنه سيئة، ويكتب له اليمنى حسنة حتى يدخل المسجد، ولو يعلم الناس ما في العتماء والصبح لأتوها ولو حبوًا"، وهو بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة، والواو بعدها: الانتقال على الألية كما يمشي الصبيان على ألاياهم إذا لم يقدروا المشي على أرجلهم، قال الباجي: يحتمل أن للحط حكمين: فتكتب له ببعضها حسنات، ويمحى عنه ببعضها سيئات، وأن حكم زيادة الحسنات غير حكم محو السيئات، وهذا ظاهر اللفظ، ولذلك فرق بينهما، وذكر قوم أن معنى ذلك واحد، وأن كتب الحسنات هو بعينه محو السيئات. انتهى.
قال غيره في تكفير السيئات مع رفع الدرجات؛ لأنه قد يجمع في العمل سيئات أحدهما واقع، والآخر مكفر كل منها باعتبار فلا إشكال فيه ولا تأويل كما ظن، وفيه إشعار بأن هذا الجزاء للماشي لا للراكب، أي: بلا عذر، وذكر رجليه غالبي، فبدلها في حق فاقدها مثلها. وروى أبو داود والبيهقي عن سعيد بن المسيب عن بعض الأنصار سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله عز وجل له حسنة، ولم يضع (ق 24) قدمه اليسرى إلا حطَّ الله عز وجل سيئة، فليقرب أحدكم أو ليبعد"(1).
قال العراقي: خص تحصيل الحسنة باليمنى لشرف جهة اليمنى وحكمة ترتب الحسنة على رفعها حصول رفع الدرجة بها، وحكمة ترتب حط السيئة على وضع اليسرى مناسبة الحط للوضع، فلم يرتب حط السيئة على رفع اليسرى كما فعل في
(1) أخرجه: أبو داود (563)، وفيه معبد بن هرمز: مجهول.
اليمنى، بل على وضعها، أو يقال: إن قاصد المشي للعبادة أول ما يرفع اليمنى للمشي، فرتب الأجر على ابتداء العمل، فإن سَمع أحدكم الإِقامة أي: إقامة الصلاة للجماعة وهو ماشٍ إليها فلا يَسْعَ، على صيغة النهي، أي: لا ينبغي أن يسرع إليها ولا يعجل في مشية على هينته، لئلا يخرج عن الوقار المشروع في إتيان الصلاة، ولأنه ثقل به الخطأ، وكثرتها مرغب فيه بكثرة الحسنات ومحو السيئات كما ذكر.
فإن أعظمكم أجرًا أبعدكُم دارًا، عن المسجد، قالوا: لم؟ أي: لا شيء أصله لما فحذف الألف؛ لأن حرف الجر إذا أُدخلت على ما الاستفهامية، يحذف ألفها تخفيفًا للفظ الكثير، أو فرق بين ما الاستفهامية وما الإِسمية، أو إخبارًا عن شدة اتصال ما بحرف الجر حتى صار كالجزء منه، كما في قوله تعالى:{لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]، كما بيناه في (نور الأفئدة في تفسير عم يتساءلون)، يا أبا هريرة بُعد الدار أعظم أجرًا؟ قال: من أجل كثرة الخُطَا، بضم الخاء المعجمة وفتح الطاء: جمع خطوة بالضم، وفيه فضل الدار البعيدة عن المسجد.
وقد روى الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري، والطبراني (1) عن ابن عباس، رضي الله عنهما، كانت بنو سلمة فيِ ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن آثاركم تكتب" فلم ينتقلوا، أي: أعمالهم المندرجة فيها آثار خطاهم ولا يعارضه ما ورد أن من شؤم الدار بعدها عن المسجد، لأن من شؤمها من حيث أنه قد يؤدي إلى تفويت الصلاة بالمسجد، وفضلها بالنسبة إلى من يتحمل المشقة ويتكلف المسافة لإِدراك الفضل، فشؤمها وفضلها أمران اعتباريان، فلا تنافي، كما قاله الزرقاني.
قال علي القاري: والحاصل أن الحكم عليها بالشاقة؛ لأن الغالب فيها تفويت الجماعة، مع أنه يكره أو يحرم، ولو مرة بلا عذر، وأما تركها بعذر فلا يكره.
قال الشرنبلالي في (نور الإِيضاح ونجاة الأرواح): يسقط حضور الجماعة بواحد من ثمانية عشر شيئًا منها: مطر، وبرد شديد، وخوف، وظلمة شديدة، وحبس معسرًا، ومظلوم، وعمى، وفلج، وقطع يد ورجل، وسقام، وإقعاد، ووَحل بعد انقطاع مطر،
(1) أخرجه: الترمذي (3226)، والحاكم (3604)، والبيهقي في الشعب (2890).