الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رضي الله عنهما قال: الجو مغمور بأمم مختلفة الخلق، وفيه دواب تبيض وتفرخ، أي: تلد بيضة تخرج منها فرخ على هيئة السمك، ولها أجنحة ليست بذوات ريش، فأجاز أي: الرشيد لمقاتل، رحمه الله، بجوائز كثيرة على ذلك الخبر كما في (حياة الحيوان).
قال محمد رحمه الله: وبهذا، أي: بهذا الحديث نأخُذُ؛ أي: نعمل ونفتي، ماء البحر طهور، أي: طاهر في نفسه ومطهر بغيره كغيره من المياه، أي: من مياه الأرض والسماء على أصلها، وهو قولُ أبي حنيفة رحمه الله، والعامة، أي: عامة الفقهاء خلافًا لبعض السلف.
ولما ذكر حكم جواز الوضوء بماء البحر، عقبه باب المسح على الخفين، والمناسبة بين هذا الباب وذاك الباب الكلية والجزئية؛ لأن الوضوء واستعمال الماء على أربعة أعضاء، والمسح: استعمال اليد المبتلة بالماء، على الخفين البدلين من الرجلين، أو المناسبة بين هذا الباب وذاك الباب المستعمل به، والمستعمل فيه، والمراد بهما الماء والخفين. . فقال: هذا
* * *
باب في بيان أحكام المسح على الخفين
هذا كلام إضافي، وهو مبتدأ وخبر، كما قرره في أول الكتاب، قدم المصنف رحمه الله باب الوضوء بماء البحر على هذا الباب؛ لقوة دليله، كما قال الله تعالى في سورة المائدة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6].
ودليل المسح على الخفين الحديث المشهور.
والمسح لغة: إمرار اليد على الشيء، واصطلاحًا: عبارة عن رخصة مقدرة جعلت للمقيم يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها.
والخف في الشرع: المتخذ من الجلد الساتر للكعبين (ق 51) فصاعدًا وما ألحق به، وسُمَّي الخف خفًا؛ لأن الحكم خفف به من الغسل إلى المسح، كما قاله محمد بن عبد الله التمرتاشي في (المنح)، وكلمة على تدل على وجوب المسح على الخفين، والاقتداء به واجب علينا.
وفي كلمة الخفين، دلالة على رد مذهب الشيعة، والروافض، وإثبات مذهب أهل السنة والجماعة، فإنهم أنكروا المسح على الخفين، وأثبتوا على الرجلين عريانين، حيث عطفوا قوله تعالى:{وَأَرْجُلَكُمْ} ، بالجر على لفظ {بِرُءُوسِكُمْ} ، وقراءة أهل السنة بالنصب، وعطفوا على قوله:{وَأَيْدِيَكُمْ} .
رُوي أن أبا حنيفة رحمه الله سُئِل عن أهل السنة والجماعة فقال: أن تفضل الشيخين، وتحب الختنين، وترى المسح على الخفين. كذا في (منح الغفار) وفي إيراد لفظ الخفين بصيغة التثنية إيماء إلى جواز المسح على خف واحد.
وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا أنكر المسح على الخفين، إلا مالكًا في رواية أنكرها أكثر أصحابه، والرواية الصحيحة عنه مصرحة بإثباته، وموطأه يشهد للمسح في الحضر والسفر على الرجال والنساء، وعليها جميع أصحابه وأهل السنة والجماعة.
قال ابن وهب: آخر ما فارقتُ مالكًا على إثبات المسح، في الحضر والسفر.
وقال الكرخي: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين، لما قال بعض الحفاظ: حديث المسح متواتر، وحكمُه حكم النظم الكريم.
47 -
أخبرنا مالك، أخبرنا ابن شهاب الزهري، عن عبَّاد بن زياد؛ من وُلْدِ المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب لحاجة في غزوة تَبُوك، قال: فذهْبتُ معه بماء فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسكَبْتُ عليه، قال: فغسل وجهه ثم ذهب يُخْرِج يدَيْهِ فلم يستطع من ضيق كُمَّي جُبَّتِه، فأَخْرَجَهُمَا من تحت جُبَّتِه، فغسل يَدَيْهِ، ومسح برأسه ومسح على الْخُفَّيْنِ، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الرحمن بن عوف يَؤمُّهُمْ؛ قد صلى لهم سجدة، فصلى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى الركعة التي بقيَتْ، فَفَزع الناسُ له، ثم قال لهم:"قد أحسنتم".
• محمد قال: ثنا، كذا في نسخة، وفي نسخة: أخبرنا مالك قال: ثنا، وفي نسخة: أخبرنا ابن شهاب بكسر أوله، الزهري، بضم الزاي المعجمة منسوب إلى زهرة بن كلاب،
(47) صحيح، أخرجه: البخاري (4421)، ومسلم (274)، ومالك (73).
اشتهر بالنسب إليهم، وأبو بكر بن مسلم بن عبد الله بن شهاب، عن عبَّاد بفتح العين المهملة وتشديد الموحدة، ابن زياد؛ أخي عبيد الله بن زياد: المعروف بابن أبيه، ويقال له: ابن أبي سفيان، يكنى: عباد، أبا حرب، وكان [رحل] إلى سجستان سنة ثلاث وخمسين، وثقه ابن حبان، وروى له: مسلم، وأبو داود، والنسائي، ومات سنة مائة، من وُلْدِ المغيرة بن شعبة، بضم الواو وسكون اللام والدال المهملة: جمع ولد، بفتح الواو واللام بمعنى البنين، بيان عن: عباد بن زياد، قال الزرقاني: هذا حديث منقطع، فعباد لم يسمع المغيرة، ولا رآه، وإنما يرويه الزهري عن عروة وحده دون حمزة.
قال الدارقطني: فوهم مالك في إسناده في موضعين: أحدهما: قول عباد من ولد المغيرة. الثاني: إسقاط عروة وحمزة، قال: ورواه إسحاق بن راهويه، عن روح بن عبادة، عن مالك، عن الزهري، عن عباد بن زياد، رجل من ولد المغيرة، فإن كان روح حفظه عن مالك فقد أتى بالصواب عن الزهري.
قال بعض الرواة عن الزهري، قال: عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، لم يذكر عبادًا، والصحيح: قول من ذكر أن عبادًا أو عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب لقضاء حاجة الإِنسان، وفي صحيح مسلم (1) فتبرز صلى الله عليه وسلم قبل الغائط فحملت معه إداوة قبل صلاة الفجر.
ولابن سعد: (ق 52) عن المغيرة: لما كنا بين الحجر وتبوك، ذهب لحاجته وتبعته بماء بعد الفجر، ويجمع أن خروجه كان بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح في غزوة تَبُوك، آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم بنفسه بمنع الصرف للتأنيث والعلمية.
كذا قاله النووي، وتبعه في (الفتح)، وتعقب بأنه علة منعه كونه على مثال الفعل كتقول، والمذكر والمؤنث في ذلك سواء.
هو مكان بينه وبين المدينة من جهة الشام أربع عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة، وسميت بذلك في أحاديث صحيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم:"إنكم ستأتون غدًا عين تبوك"، فمقتضاه قدم تسميتها بذلك.
وقيل: سميت به، لقوله صلى الله عليه وسلم، وقد رأى قومًا من أصحابه يتبوكون عين الماء، أي:
(1) أخرجه: مسلم (274).
يدخلون فيها القدح فيحركونه ليخرج الماء، [فقال] (1):"ما زلتم تبوكونها بوكًا"، قال: أي: المغيرة، كما في (الموطأ): لمالك: فذهبتُ معه، أي: النبي صلى الله عليه وسلم بماء، أي: للاستنجاء أو للوضوء وهو الأظهر.
وللبخاري في الجهاد، وغيره: عن مسروق، عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتبعه بالإِداوة، فانطلق حتى توارى عني، فقضى حاجته، ثم أقبل: فتوضأ.
وفي رواية أحمد: أن الماء أخذه المغيرة من أعرابية صبته له في قربة من جلد ميتة، فقال صلى الله عليه وسلم:"سلها، فإن كانت دبغتها فهو طهور"، فقال: أي والله: لقد دبغتها، وفيه قبول خبر الواحد في الأحكام ولو امرأة، سواء كان مما تعم به البلوى أم لا لقبول خبر الأعرابية.
قال: أي: المغيرة كما في (الموطأ) لمالك، أو أي: الرواي، كما فسره علي القاري، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد قضاء حاجته، فسكَبْتُ أي: صببتُ ماء الوضوء عليه، أي: على يده الشريفة، وتفسير الضمير المذكر باليد المؤنث السماعي باعتبار لفظه، أو باعتبار محل الوضوء، وهذا دليل على جواز صب ماء الوضوء على يد المتوضئ، بل على استحبابه، خلافًا لمن قال بكراهته، بالمشاركة في أمر الطاعة، ويدفع بأنه من باب التعاون على البر، بقدر الاستطاعة، وفي كلمة فسكبت: الفاء، تنبيه على المبادرة إلى البر، وهي للتعقيب، وهو في كل شيء بحسبه، ألا ترى أنه يقال: تزوج فلان فولد له، إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل.
كذا قاله: ابن هشام، وكذا لم يكن بين خروجه صلى الله عليه وسلم بالوضوء، وبين قضاء حاجته إلا مدة المشي، بين الموضع الذي قضى حاجته، وبين الموضع الذي شرع فيه الوضوء.
قال: أي: الراوي، فغسل وجهه، زاد في رواية أحمد: ثلاث مرات، وفي هذه الرواية اختصار؛ فعند أحمد، من طريق عباد بن زياد المذكور، أنه غسل كفيه، وله من وجه آخر قوي، فغسلهما فأحسن غسلهما، وللبخاري في الجهاد: وتمضمض واستنشق، وفي مسلم: فلما رجع أخذتُ، أي: شرعتُ، أهريق على يديه من الإِداوة، وغسل يديه ثلاث مرات، ثم غسل وجهه، ثم ذهب، أي: شرع، وأراد حال كونه يُخْرج يدَيْهِ، أي: من كميه، فلم يستطع، أي: لم يقدر على إخراج يديه، وفي العطف بثم إشعار بأن الموالاة
(1) زيادة يقتضيها السياق.
في الوضوء ليست بشرط لصحته؛ لأن ثم للتراخي، (ق 53) وهو أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه مهلة.
قال ابن الملك في (شرح المنار): من ضيق، أي: لأجل عدم سعة كُمَّيّ جُبَّتِه، قيل: الجبة: ثوبان بينهما محشو إلا أن يكون من صوف، وقد تكون واحدة، واستدل به على أن ضيق الكمين مندوب في السفر؛ لأن الثياب الضيقة قليلًا أعون على التشمير، وفي الجملة، دل على جوازه، وأشعر بأن العادة المستمر عليها واسعة، فأَخْرَجَهُمَا، أي: اليدين، من تحت جُبَّتِه، أي: من داخلها من طرف ذيلها.
وزاد مسلم: وألقى الجبة على منكبيه، فغسل يَدَيْهِ.
ولأحمد: فغسل يده اليمنى ثلاث مرات، ويده اليسرى ثلاث مرات.
ومسح برأسه، أي: بمقدار ربع رأسه، كما في رواية مسلم: ومسح بناصيته، أي: بمقدار ربع رأسه، وقال مالك وأحمد: مسح كل الرأس، حيث اعتبر أن الباء في قوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} زائدة كما أنها زائدة في آية التيمم {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6]. وقال الشافعي: الغرض من مسح الرأس أدنى جزء منه، ولو بعض شعره، إذ الباء في {بِرُءُوسِكُمْ} للتبعيض عنده.
وقال أبو حنيفة: مسح ربع الرأس في الوضوء فرض؛ لما رُوي عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال، وتوضأ ومسح على ناصيته (1)، السباطة: بضم السين المهملة: الكناسة: ومسح على الْخُفَّيْنِ، هذا محل الشاهد للترجمة، ثم المسح على الخفين خاص بالوضوء، لا مدخل للغسل فيه بإجماع ثم، أي: بعد الوضوء جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: رجع عن محل الوضوء إلى رحله، أي: والحال وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يَؤمُّهُمْ؛ أي: الصحابة الموجودين هناك.
وفي مسلم: قال، أي: المغيرة بن شعبة، فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدَّموا عبد الرحمن بن عوف.
(1) أخرجه: أبو داود (150)، وابن حبان (1346)، والدارقطني (1/ 192)، والطبراني في الأوسط (5404).
ولابن سعد: فأسفر الناس بصلاتهم حتى خافوا طلوع الشمس فقدَّموا عبد الرحمن فصلى بهم سجدة، أي: ركعة من صلاة الفجر، هذا من قبيل ذكر الجزء وإرادة الكل، وأشار بهذا المعنى الذي أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد"، هذا حديث صحيح.
وفي مسلم: "وهو ساجد"، و"ما" في قوله:"أقرب ما يكون العبد"، مصدرية، وأقرب مبتدأ حذف خبره، ولفظ يكون من الأفعال التامة، أي: أقرب وجود العبد إلى ربه حاصل وقت سجوده.
وزاد أحمد: قال المغيرة بن شعبة: فأردتُ تأخير عبد الرحمن فقال صلى الله عليه وسلم: "دعه".
وعن ابن مسعود: فانتهينا إلى عبد الرحمن، وقد ركع ركعة، فسبح الناس له حين رؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كادوا يفتنون، فجعل عبد الرحمن يريد أن ينكص، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم: أن اثبت، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى الركعة التي بقيَتْ، فَفَزع الناسُ له، أي: فصاحوا لأجل النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سبقهم بالصلاة ففزع الناس، وأكثروا التسبيح، رجاء أن يشير لهم هل يعيدونها معه أم لا؛ لظنهم أنه أدركهم من أولها، وأن قيامه لأمر حدث، كأنهم ظنوا الزيادة في الصلاة كما زعم بعضهم لتصريحه.
في رواية ابن سعد: بأنهم علموا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين دخل معهم، فسبحوا حتى كادوا يفتنون، ثم قال: لهم: "قد أحسنتم"، أي: فعلتم الصلاة لوقتها.
ولفظ مسلم وأبي داود: ثم صلى الركعة الثانية ثم سلم عبد الرحمن فقام النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، ففزع المسلمون وأكثروا التسبيح؛ لأنهم سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم:"قد أحسنتم"، وفيه اقتداء الفاضل بالمفضول، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته.
وروى البزار عن الطريق مرفوعًا: "ما قبض نبي حتى يؤمه رجل من أمته"(1).
* * *
(1) أخرجه: البزار في مسنده (3)، وقال: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن أبي بكر إلا من هذا الوجه بهذا الإِسناد، ولا نعلم أحدًا سمَّى الرجل الذي روى عنه عاصم بن كليب فلذلك ذكرناه.
48 -
أخبرنا مالك، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن بن رُقَيْش، أنَّه قال: رأيت أنس بنِ مالك أتى قُبَاءَ فَبَالَ، ثم أُتِيَ بماء فتوضأ؛ فغسل وجهه ويديه إلى المِرْفَقَيْنِ، ومسح برأسه، ثم مسح على الخفَّيْنِ، ثم صلَّى.
• محمد قال: أخبرنا مالك، وفي نسخة: ثنا رمزًا إلى حدثنا، قال: حدثنا، وفي نسخة: ثنا سعيد بن عبد الرحمن بن رُقَيْش، (1) بضم الراء المهملة وبالقاف المفتوحة والياء التحتية الساكنة، والشين المعجمة، مصغر الأشعري الأسدي المدني؛ ثقة من صغار التابعين؛ أنَّه، أي: السعيد، قال: رأيت أنس بن مالك أتى قُبَاءَ بضم القاف ممدودًا ومقصورًا، فَبَالَ، ثم أي: بعد الاستبراء، أُتِيَ على بناء المجهول، أي: جيء بماء فتوضأ؛ فغسل وجهه ويديه إلى المِرْفَقَيْنِ، أي: معهما، ومسح برأسه، أي: ربع رأسه، ثم مسح على الخفَّيْنِ، ثم صلَّى. وفي (الموطأ) لمالك: ثم جاء المسجد فصلى.
والمقصود من ذكر هذا وما قبله: أن المسح عليهما، معمول به عند الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم بالمدينة وغيرها، فلو كان منسوخًا، كما زعم الخوارج ما عملوا به، وقولهم: إنه خلاف القرآن، وعسى أن يكون القرآن نسخه مردود.
كما في مسلم (2) وغيره: أن جرير بن عبد الله البجلي بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: تفعل هذا؟ فقال: نعم؛ رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه، قال إبراهيم النخعي: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول سورة المائدة، وفي لفظ: أن جريرًا قال: ما أسلمت إلا بعد نزول سورة المائدة، وكان إسلامه في سنة عشر، وقيل: أول سنة إحدى عشرة، كما قاله الزرقاني (3).
* * *
(48) صحيح، أخرجه: مالك (74)، والشافعي في المسند (1092).
(1)
انظر: التقريب (1/ 209).
(2)
أخرجه: البخاري (387)، ومسلم (272).
(3)
انظر: شرح الزرقاني (1/ 162).
49 -
أخبرنا مالك، حدثنا نافع وعبد الله بن دينار: أن عبد الله بن عمر قَدِم الكوفَةَ على سعد بن أبي وقَّاص، وهو أميرها، فرآهُ عبدُ الله وهو يمسح على الخفَّيْن، فأنكر ذلك عليه، فقال له: سَلْ أبَاك إذا قَدِمْت عليه، فَنسِيَ، عبد الله أنْ يسأله، حتى قدم سعد، فقال: أسَألْتَ أباك؟ فقال: لا، فسأله عبد الله فقال: إذا أدْخَلْتَ رِجْلَيْكَ في الْخُفَّيْن وهما طاهرتان فامسح عليهما. قال عبد الله: وإن جاء أحدُنا من الغَائِط؟ قال: وإن جاء أحدكم من الغائط.
• محمد قال: أخبرنا مالك، أي: ابن أنس بن عمير بن أبي عامر الأصبحي، أي: ينسب إلى ملك ذي أصبح من ملوك اليمن، حدثنا نافع وهو مولى عبد الله بن عمر، وعبد الله بن دينار العدوي، مولاهم المدني، أبي عبد الرحمن، وروى عن مولاه ابن عمر، وأنس، وعنه: الثوري، وابن عيينة، ومالك، وشعبة.
قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، مات سنة سبع وعشرين ومائة، هذا تحويل السند تقوية للحديث أن نافعًا وعبد الله بن دينار، أخبرنا مالك: أن عبد الله بن عمر قَدِم، بفتح القاف، وكسر الدال والميم بعدها، أي: دخل الكوفَةَ، كان في الإِقليم الثالث من الأقاليم السبعة، على سعد بن أبي وقَّاص، رضي الله عنه، وهو أحد العشرة المبشرين، وهو أميرها، من قبيل عمر بن الخطاب، فرآهُ أي: سعدًا، عبدُ الله أي: ابن عمر، وهو، أي: والحال سعد بن أبي وقاص: يمسح على الخفّيْن، فأنكر ابن عمر ذلك؛ أي: المسح عليه، أي: على سعد؛ لأنه لم يبلغه - مع قدم صحبته وكثرة روايته - إذ قد يخفى على قديم الصحبة من الأمور الجلية في الشرع ما يطلع عليه غيره، ويحتمل أنه أنكر عليه المسح في الحضر لا في السفر على ظاهر هذا القصد، وأما السفر فكان ابن عمر يعلمه، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم (ق 55) يمسح على الخفين بالماء في السفر، فقال أي: سعد له، أي: لابن عمر بن الخطاب: سَلْ أبَاك، يعني: عمر بن الخطاب، أي: إذا قَدِمْت عليه في المدينة المنورة فإنه أعلم مني ومنك، فَنسِيَ عبد الله بعد قدومه المدينة أنْ يسأله، أي: أباه عمر بن
(49) صحيح، أخرجه: أحمد (88)، ومالك (72)، وابن أبي شيبة (1/ 211)، والشافعي في المسند (1090).
الخطاب عن ذلك، حتى قدم سعد لابن عمر؛ لإِزالة إنكاره وإفادته الحكم، فقال: أسَألْتَ أباك؟ فقال: لا.
ولأحمد من وجه آخر: فلما اجتمعا عند عمر، قال لي سعد: سل أباك، فسأله عبد الله، أي: بعد ذلك.
ولابن خزيمة: عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: كنا ونحن مع نبينا صلى الله عليه وسلم نمسح على خفنا، لا نرى بذلك بأسًا.
فقال أي: عمر بن الخطاب: إذا أدْخَلْتَ رِجْلَيْكَ في الْخُفَّيْن وهما أي: الرجلين طاهرتان طهارة كاملة عند وجوب الحدث فامسح عليهما. قال عبد الله: وإن جاء كلمة إن وصلية، أحدُنا من الغَائِط؟ قال: أي: عمر، نعم، وإن وصلية، جاء أحدكم من الغائط.
وفي البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ابن عمر عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين، وأن ابن عمر سأل أباه عن ذلك، فقال: نعم إذا حدثك شيئًا سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تسأل عنه غيره.
والإِسماعيلي: إذا حدثك سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تبغ وراء حديثه شيئًا؟
أي: لقوة الوثوق بنقله، ففيه تعظيم عظيم من عمر لسعد، وفيه دليل على أن الصفات الموجبة للترجيح، إذا اجتمعت في الراوي وكانت من جملة القرائن التي إذا [حَفَّت](1) خبر الواحد قامت مقام الأشخاص المتعددة، وقد يفيد العلم عن بعض دون بعض، وأن عمر كان يقبل خبر الواحد، وما نقل عنه من التوقف.
إنما كان عند وقوع ريبة في بعض المواضع، واحتج به من قال: يتفاوت رتب العدالة، ودخول الترجيح في ذلك عند التعارض، ويمكن إبداء الفرق في ذلك بين الرواية والشهادة، كما قاله الزرقاني (2).
* * *
(1) في الأصل: خفت.
(2)
انظر: شرح الزرقاني (1/ 118).
50 -
أخبرنا مالك، أخبرني نافع: أن ابن عمر بَالَ بالسُّوق، ثم توضأ؛ فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه ثم دُعِيَ لجنَازَة حين دخل المسجد ليُصلي عليها، فمسح على خُفَّيْهِ ثم صلَّى.
• قال محمد: حدثنا أخبرنا مالك، قال: كذا في نسخة: أي: قال مالك بن أنس: أخبرني بالإِفراد، نافع: أن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، بَالَ بالسُّوق، سمي به؛ لأن الناس يسوقون إليه أو يقومون على سوقهم لديه، وقيل: اسم لموضع، وقيل: هو بالفتح، اسم موضع كذا، قاله علي القاري.
فإن قيل: كيف بال ابن عمر، في موضع يقوم الناس فيه، وهو أذى لهم؟ أجيب عنه بأنه فعله بلا اختياره؛ فالضرورات تبيح المحظورات، ثم بعد الاستبراء وهو الإزالة أثر البول عن العضو، توضأ؛ أي: غسل يديه إلى الرسغين، والرُسغ بضم الراء وسكون السين المهملة، وبالغين المعجمة: المفصل بين الساعد والكف، فغسل وجهه ويديه، أي: مع المرفقين، ومسح برأسه، أي: ربعه، ثم دُعِيَ لجنَازَة أي: لصلاة الجنازة، حين دخل المسجد أي: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظرف متعلق بدعي، واللام في ليُصلي متعلق بدعي، أي: لأن يصلي عليه، كذا في نسخة، وإرجاع الضمير المفرد المذكر الجنازة، باعتبار أنها ميت، وفي نسخة (ق 56) مصححة (عليها) بدل (عليه)، وهو ظاهر ما في (الموطأ) لمالك.
والجنازة بكسر الجيم: السرير عليه الميت، وبالفتح: الميت.
فمسح على خُفَّيْهِ، كذا في نسخة كما في (الموطأ) لمالك، وفي نسخة الناسخ الساهي: خفين، ثم صلَّى على الجنازة.
ومن المعلوم أنه لا فرق بين صلاة الجنازة وغيرها من الصلوات في اعتبار شرائطها، وفيه دليل صريح على جواز تأخير المسح على الخفين، وهو قائم مقام غسل الرجلين إذا لبسهما بطهارة كاملة، وتعجيل غسل أعضاء الوضوء عقب عضو المغسول قبله ليس شرط لصحة الوضوء، بل هو سنة عند الحنفية.
(50) صحيح، أخرجه: مالك (73).
اعلم: يشترط لجواز المسح على الخفين سبعة شرائط:
الأول منها: لبسهما بعد غسل الرجلين ولو حكمًا، كجبيرة بالرجلين أو بأحدهما مسحهما ولبس الخف: يمسح خفه؛ لأن مسح الجبيرة كالغسل، ولو كان اللبس قبل إكمال الوضوء إذا أتم الوضوء قبل حصول ناقض الوضوء.
والثاني: ستر الخفين للكعبين، من الجوانب فلا يضر رؤية الكعبين من أعلى خف قصير الساق، والخف الذي لا يغطي الكعبين إذا خيط به ثخين كجوخ يجوز المسح عليه.
الثالث: إمكان متابعة المشي في الخفين، فلا يجوز المسح على خف صنع من زجاج أو حطب أو حديد؛ لأنه لا يمكن متابعة المشي فيها.
الرابع: خلو كل من الخفين عن خرق، قدر ثلاثة أصابع من أصغر أصابع القدم؛ لأنه مخل للمشي، واختلف في اعتبارها مضمومة أو مفرجة، إذا انكشفت الأصابع، اعتبر ذواتها، فلا يضر كشف الإِبهام مع جاره، وإن بلغ قدر ثلاثة أصابع هي أصغرها على الأصح، والخرق طولًا يدخل فيه ثلاثة أصابع، ولا يرى شيء من القدم عند المشي؛ لصلابته فلا يمنع جواز المسح عليه، ولا يضم ما دون ثلاثة من رجل المثلة من الأخرى، وأقل خرق يجمع هو ما يدخل فيه مثله، ولا يعتبر ما دونه.
الخامس: اشتمال الخفين على الرجلين من غير شد لثخانته، إذ الرقيق لا يصلح لقطع المسافة.
السادس: منع الخفين من وصول الماء إلى الجسد، فلا يشفان الماء.
السابع: أن يبقى بكل رجل من مقدم القدم قدر ثلاثة أصابع من أصغر أصابع اليد، ليوجد المقدار المفروض من محل المسح، فإذا قطعت رجل فوق الكعب، جاز مسح خف الباقي، وإن بقي من دون الكعب أقل من ثلاثة أصابع، لا يقم المسح؛ لافتراض غسل الباقي وهو لا يجمع مع مسح خف الصحيحة، كما في (مراقي الفلاح)(1).
* * *
(1) انظر: مراقي الفلاح (ص: 53).
51 -
أخبرنا مالك، أخبرني هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، أنه رَأى أباه يمسح على الخُفَّيْنِ على ظُهُورِهِما؛ لا يمسح بُطُونهما، قال: ثُم يرفع العمامة للمسح برأسه.
قال محمد: وبهذا كلِّه نأخُذُ، وهو قولُ أبي حنيفة، وَنَرى المسحَ للمقيم يومًا وليلة وثلاثة أيامٍ وليَاليها للمسافر.
وقال مالك بن أنس: لا يمسح المُقيم على الخُفَّيْنِ؛ وعامة هذه الآثار التي رَوَى مالكٌ في المسح إنما هي في المقيم، ثم قال: لا يمسح المقيم على الخُفَّيْن.
• محمد قال: حدثنا، كذا في نسخة، أخبرنا مالك، قال: ثنا، كذا في نسخة: أنا رمزًا إلى أخبرنا: أخبرني بالإِفراد هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، أي: عروة أنه أي: عروة رَأى أباه، أي: الزبير بن العوام، أحد العشرة المبشرين بالجنة، يمسح على الخُفَّيْنِ على ظُهُورِهِما؛ على ظهور الخفين فقط؛ لأن ظهر الخف محل لوجوب المسح اتفاقًا.
قوله: لا يمسح بُطُونهما، توكيد معنوي لقوله: على ظهورهما، قال علي رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أولى المسح من أعلاه، وقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم (ق 57) يمسح على ظاهر خفيه (1)، وقال المغيرة: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهري الخفين (2)، كما قاله الزرقاني.
قال: أي: عروة، ثُم يرفع أي: الزبير بن العوام، العمامة بكسر العين فيمسح برأسه، أي: على كله أو بعضه.
وفي نسخة: قال: فرفع العمامة، فمسح برأسه.
(51) صحيح، أخرجه: مالك (75).
(1)
أخرجه: أبو داود (162)، وابن أبي شيبة (1/ 208)، والدارقطني في السنن (1/ 204)، والعلل (4/ 45)، والبيهقي في الكبرى (1428)، والصغرى (136).
(2)
أخرجه: البخاري (182)، ومسلم (274)، وأبو داود (161)، والترمذي (100)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.