الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابُ الجراح
الْفِعْلُ الْمُزْهِقُ ثَلَاثةٌ: عَمْدٌ، وَخَطَأٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ.
===
(كتاب الجراح)
هو: جمع جراحة بكسر (الجيم)، والمراد: ما يحصل به الزهوق، أو الإبانة، أو ما لا يُحصِّل واحدًا منهما، ولما كانت الجراحة تارة تبين عضوًا، وتارة تزهق نفسًا إما بالمباشرة أو بالسراية، وتارة لا تفعل ذلك. . جمعها؛ لاختلاف أنواعها.
وإنما ترجم بـ (الجراح) وإن كان التبويب بـ (الجنايات) أشمل؛ لصدقه على الجناية بالمحدد والمثقل، وعلى غير القتل؛ كالزنا والقذف والشرب والسرقة؛ لأن الجراح أغلب طرق القتل.
والأصل في ابتداء القتل وتحريمه: ما ذكره الله تعالى من قصة ابني آدم هابيل وقابيل، وقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} .
ومن السنة: أحاديث كثيرة مشهورة سنورد بعضها في محالّها.
والقتل بغير حق أكبر الكبائر بعد الكفر.
وإذا قتل ظلمًا واقتص الوارث، أو عفا على مال أو مجانًا. . فظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة في الدار الآخرة؛ كما قاله المصنف في "فتاويه"، وذكر مثله في "شرح مسلم"(1)، لكن ظاهر تعبير "الشرح" و"الروضة" يدل على بقاء العقوبة؛ فإنهما قالا: ويتعلق بالقتل المحرم وراء العقوبة الأخروية مؤاخذات في الدنيا (2).
(الفعل المزهق) للروح (ثلاثة: عمد، وخطأ، وشبه عمد) وجه الحصر: أن الجاني إن لم يقصد عين المجني عليه. . فهو الخطأ، وإن قصده؛ فإن كان بما يقتل غالبًا. . فهو العمد، وإلا. . فشبه العمد.
وتقييد الفعل بالإزهاق: يخرج الجناية على الأطراف مع أنها كذلك، ويؤخذ ذلك من قوله بعدُ:(يشترط لقصاص الطرف والجرح ما شُرط للنفس).
(1) فتاوى الإمام النووي (ص 218)، شرح صحيح مسلم (17/ 83).
(2)
الشرح الكبير (10/ 118)، روضة الطالبين (9/ 122).
وَلَا قِصَاصَ إِلَّا فِي الْعَمْدِ، وَهُوَ: قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بمَا يَقْتُلُ غَالِبًا؛ جَارِحٍ أَوْ مُثَقَّلٍ. فَإِنْ فُقِدَ قَصْدُ أَحَدِهِمَا؛ بِأَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ فَمَاتَ، أَوْ رَمَى شَجَرَةً فَأَصَابَهُ. . فَخَطَأٌ. وَإِنْ قَصَدَهُمَا بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا. . فشِبْهُ عَمْدٍ، وَمِنْهُ: الضَّرْبُ بِسَوْطٍ أَوْ عَصًا.
===
(ولا قصاص إلا في العمد) أما وجوبه فيه عند اجتماع شرائطه. . فبالإجماع، وأما عدم وجوبه في الخطأ. . فلقوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ولم يتعرض للقصاص، وأما عدم وجوبه في شبه العمد. . فلحديث:"أَلَا إِنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ مِئَةٌ مِنَ الإبِلِ" صححه ابن حبان، وابن القطان، وقالا: لا يضره الاختلاف (1).
(وهو) أي: العمد (قصد الفعل والشخص بما يقتل غالبًا، جارح أو مثقل) وقضية هذا التعبير: اشتراط قصد عين الشخص؛ فلو قصد شخصًا فأصاب غيره. . فهو خطأ، وكذا لو قصد إصابة أحد رجلين؛ كما في "الروضة" و"أصلها" في أوائل (الجنايات) في الكلام على التضييف بالسم، وفي الكلام على المنجنيق، واعتمده في "المهمات" وقال البُلْقيني: إنه الأرجح المعتمد (2).
لكن صحح في "زياداته" قبيل (الديات) وجوب القصاص (3).
(فإن فقد قصد أحدهما) أي: الفعل أو الشخص (بأن وقع عليه فمات، أو رمى شجرة فأصابه. . فخطأ) كان حقه أن يقول: (فُقِدَ قَصدُهما، أو قصد أحدهما) فإن المثال الأول فقد فيه قصدهما، والثاني: فقد فيه قصد أحدهما، وهو الشخص، وقصد الشخص دون الفعل متعذر.
(وإن قصدهما) يعني: الفعل والشخص (بما لا يقتل غالبًا. . فشبه عمد، ومنه: الضرب بسوط أو عصًا) للحديث السابق، ومحله: في السوط والعصا الخفيفين بشرط ألّا يوالي بين الضربات، وألّا يشتد الألم ويبقى إلى الموت، وألّا
(1) صحيح ابن حبان (6011)، وأخرجه الشافعي في "الأم"(6/ 105)، وأبو داوود (4547)، والنسائي (8/ 41)، وابن ماجه (2627) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(2)
روضة الطالبين (9/ 130)، الشرح الكبير (10/ 131)، المهمات (8/ 143).
(3)
روضة الطالبين (9/ 254).
فَلَوْ غَرَزَ إِبْرَةٌ بِمَقْتَلٍ. . فَعَمْدٌ، وَكَذَا بِغَيْرِهِ إِنْ تَوَرَّمَ وَتألَّمَ حَتَّى مَاتَ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرٌ وَمَاتَ فِي الْحَالِ. . فَشِبْهُ عَمْدٍ، وَقِيلَ: عَمْدٌ، وَقِيلَ: لَا شَيْءَ. وَلَوْ غَرَزَ فِيمَا لَا يُؤْلمُ كَجِلْدَةِ عَقِبٍ. . فَلَا شَيْءَ بِحَالٍ.
===
يكون الضرب في مقتل، أو المضروب صغيرًا أو ضعيفًا، وألّا يكون في شدة حر أو برد معين على الهلاك، فإن كان فيه شيء من ذلك. . فهو عمد؛ لأنه يقتل غالبًا في هذه الأحوال. قاله في "الروضة" و"أصلها"(1).
(فلو غرز إبرة بمقتل) كالعين وأصول الأذن والحلق والدماغ (. . فعمد) لخطر الموضع وشدة تأثيره، (وكذا بغيره) أي: بغير المقتل؛ كالإلية والفخذ (إن توزم وتألّم حتى مات) لحصول الهلاك به، وظاهر كلامه: أنه لا بد من اجتماع التورم والتألم.
ومفهومه: أنه لا قصاص في الألم بلا ورم، لكن صحح في "شرح الوسيط" الوجوب، وأما عكسه -وهو الورم بلا ألم-. . فقد لا يتصور؛ ولهذا اقتصر في "الحاوي الصغير" على الورم؛ للزوم الألم له (2).
(فإن لم يظهر أثر ومات في الحال. . فشبه عمد) لأن الغالب منه السلامة؛ كالضرب بسوط خفيف، (وقيل: عمد) كما لو طعنه بمِسَلَّة فمات في الحال؛ لأن في البدن مقاتل خفية، فربما صادفها، (وقيل: لا شيء) أي: لا قصاص ولا دية؛ إحالة للموت على سبب آخر.
وما ذكره من التفصيل بين المقتل وغيره إنما هو في حق المعتدل، أما إذا غرز في بدن صغير أو شيخ همٍّ، أو نضو الخلق في أي موضع كان. . وجب القصاص؛ كما نقلاه عن "الرقم" للعبادي، وأقراه (3).
(ولو غرز) إبرة (فيما لا يؤلم؛ كجلدة عقب. . فلا شيء بحال) لعلمنا أنه لم
(1) روضة الطالبين (9/ 125)، الشرح الكبير (10/ 123).
(2)
الحاوي الصغير (ص 555).
(3)
الشرح الكبير (10/ 122)، روضة الطالبين (9/ 125).
وَلَوْ حَبَسَهُ وَمَنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالطَّلَبَ حَتَّى مَاتَ؛ فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ يَمُوتُ مِثْلُهُ فِيهَا غَالِبًا جُوعًا أَوْ عَطَشًا. . فَعَمْدٌ، وَإِلَّا؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ جُوع وَعَطَشٌ سَابِقٌ. . فَشِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ جُوع وَعَطَشٍ وَعَلِمَ الْحَابِسُ الْحَالَ. . فَعَمْدٌ،
===
يمت به، والموت عقبه موافقةُ قدر؛ فهو كما لو ضربه بقلم أو ألقى عليه خرقة فمات في الحال.
(ولو حبسه ومنعه الطعام والشراب والطلب حتى مات) جوعًا أو عطشًا (فإن مضت مدة يموت مثله فيها غالبًا جوعًا أو عطشًا. . فعمد) لأنه قصد إهلاكه بما يهلك به، وتختلف المدة باختلاف حال المحبوس قوة وضعفًا، والزمان حرًّا وبردًا؛ لأن فقد الماء في الحر ليس كهو في البرد.
واحترز بقوله: (منعه): عما إذا كانا عنده وأمكنه تناولهما فلم يتناولهما؛ خوفًا أو حزنًا، أو أمكنه طلبهما ولو بالسؤال فلم يفعل. . فلا قصاص ولا ضمان على حابسه؛ لأنه قتل نفسه.
وقوله: (منعه الطعام والشراب)، كذا لو منعه أحدهما فمات بسببه.
نعم؛ لو منعه الماء دون الطعام فلم يأكل خوفًا من العطش فمات. . فلا قصاص قطعًا ولا دية على الأصح، ولو حبسه وعراه، فمات بالبرد. . فكمنعه الأكل، قاله القاضي الحسين.
وقوله: (حبسه): قد يفهم أنه لو منعه من غير حبس؛ كما لو أخذ زاده أو ماءه في مفازة، أو عراه، فمات جوعًا أو عطشًا أو بردًا. . أنه لا ضمان، وهو كذلك؛ لأنه لم يحدث فيه صنعًا (1).
(وإلا) أي: وإن لم تمض هذه المدة ومات (فإن لم يكن به جوع وعطش سابق. . فشبه عمد) لأنه لا يقتل غالبًا.
(وإن كان بعض جوع وعطش وعلم الحابس الحال. . فعمد) لظهور قصد الهلاك، والمراد: أنه حبسه مدة إذا أضيفت إلى مدة جوعه أو عطشه السابق. . بلغت
(1) لو دخّن عليه فمات. . وجب القود، وكذا لو منع من افتصد من شد فصاده حتى مات، قاله الغزالي في "فتاويه"[ص 243] اهـ هامش (أ).
وَإِلَّا. . فَلَا فِي الأَظْهَرِ. وَيَجِبُ الْقِصَاصُ بِالسَّبَبِ، فَلَوْ شَهِدَا بِقِصَاصٍ فَقُتِلَ دمَّ رَجَعَا وَقَالَا: تَعَمَّدْنَا. . لَزِمَهُمَا الْقِصَاصُ
===
المدة القاتلة؛ فإن كان مجموع المدتين لا يبلغ ذلك. . فهو كما لو لم يكن به شيء سابق ذكره المنكت، وقال: قلته تفقهًا، ولا بد منه، وهو مرادهم بلا شك، وتبعه الزركشي (1)، قال شيخنا: وهو معلوم من القسم الذي قبله.
(وإلا) أي: وإن لم يعلم الحابس الحال (. . فلا في الأظهر) لأنه لم يقصد إهلاكه؛ كما لو دفعه دفعًا خفيفًا فسقط على سكين وراءه وهو جاهل بها. . فإنه لا قصاص، والثاني: يلزمه القصاص؛ كما لو ضرب المريض ضربًا يهلكه ولا يهلك الصحيح وهو جاهل بمرضه.
(ويجب القصاص بالسبب) قياسًا على المباشرة، والسبب هو: الذي يصدق أن يقال: إنه ما قتله، ولكنه أمر به، أو حمل عليه، أو سلك الطريق المقتضي إليه، والمباشرة هي: التي لا يصدق فيها هذا.
وكان الأحسن تقديم هذا على مسألة الحبس؛ فإنها من الأسباب.
(فلو شهدا بقصاص) في نفس أو طرف، أو بردّة، أو سرقة (فقتل) أو قطع بعد حكم الحاكم بشهادتهما (ثم رجعا وقالا:"تعمّدنا") وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا (. . لزمهما القصاص) لتوصلهما إلى قتله أو قطعه بسبب يقتل به ويقطع غالبًا، فلو قالا: تعمّدنا، ولكن لم نعلم أنه يقتل بشهادتنا وكان ممن يخفى عليهما؛ لقرب إسلامهما. . لا يجب عليهما القود، بل يجب دية شبه عمد؛ كما ذكراه في (باب الرجوع عن الشهادة)(2).
وإن لم يخف عليهما ذلك. . وجب القود.
وقد يرِدُ على مفهوم الكتاب: ما لو قال كل منهما: (تعمدت، ولا أعلم حال صاحبي)، أو اقتصر على:(تعمدت). . فإنه يلزمهما القصاص؛ كما ذكراه في
(1) السراج (7/ 148).
(2)
الشرح الكبير (13/ 127)، روضة الطالبين (11/ 299).
إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الْوَليُّ بِعِلْمِهِ بِكَذِبِهِمَا. وَلَوْ ضَيَّفَ بِمَسْمُومٍ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَمَاتَ. . وَجَبَ الْقِصَاصُ، أَوْ بَالِغًا عَاقِلًا وَلَمْ يَعْلَمْ حَالَ الطَّعَامِ. . فَدِيَة، وَفِي قَوْلٍ: قِصَاصٌ،
===
(رجوع الشهود) عن البغوي وغيره (1).
(إلا أن يعترف الولي بعلمه بكذبهما) حين القتل، فلا قصاص -والحالة هذه- عليهما؛ لأنهما لم يلجئاه إلى قتله حسًّا ولا شرعًا؛ فصار قولهما شرطًا محضًا؛ كالمسك مع القاتل، فعلى الولي حينئذ القصاص رجعوا أو لم يرجعوا؛ فلو قال:(عرفت كذبهما بعد القتل). . لم يسقط القصاص عنهما.
قال البُلْقيني: ويرد على حصره الاستئناء: ما لو اعترف القاضي بعلمه بكذبهما حين الحكم أو القتل دون الولي. . فالقصاص على القاضي دون الشهود ولو اعترفوا.
وقد ذكر المصنف في (كتاب الشهادات): ما إذا رجع الولي وحده ومع الشهود، وسيأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
(ولو ضيَّف بمسموم) يقتل غالبًا وهو عالم به (صبيًّا أو مجنونًا فمات. . وجب القصاص) سواء قال له: (هو مسموم) أم لا؛ لإلجائهما إليه، ومثله: الأعجمي الذي يعتقد طاعة الأمر، قال الرافعي: ولم يفرقوا بين الصبي المميز وغيره، ولا نظروا إلى أن عمد الصبي عمد أم خطأ، وللنظرين مجال، واعترضه في "المهمات": بأن ابن الصباغ والمتولي فرّقا بين المميز وغيره، قال: وهو مقتضى ما في "التهذيب" و"البيان"(2).
وقال البُلْقيني: الذي نص عليه في "الأم" وصرح به الشيخ أبو حامد عن النص، والماوردي والمَحاملي والسَّرَخْسي وغيرهم: أن إيجاب القصاص إنما هو في غير المميز، أما المميز. . فكالبالغ.
(أو بالغًا عاقلًا ولم يعلم حال الطعام. . فدية) شبه عمد، ولا قصاص؛ لأنه تناوله باختياره من غير إلجاء، (وفي قول: قصاص) لأن القتل بالسم في العادة إنما يكون بهذه الطرق، فلو لم يجب القصاص. . لجعل طريقًا إلى قتل الناس بالسم،
(1) الشرح الكبير (13/ 127)، روضة الطالبين (11/ 299).
(2)
الشرح الكبير (10/ 131)، المهمات (8/ 143).
وَفِي قَوْلٍ: لَا شَيْءَ. وَلَوْ دَسَّ سُمًّا فِي طَعَامِ شَخْصٍ الْغَالِبُ أَكْلُهُ مِنْهُ فَأَكَلَهُ جَاهِلًا. . فَعَلَى الأَقْوَالِ. وَلَوْ تَرَكَ الْمَجْرُوحُ عِلَاجَ جُرْحٍ مُهْلِكٍ فَمَاتَ. . وَجَبَ الْقِصَاصُ. وَلَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ لَا يُعَدُّ مُغْرِقًا كَمُنْبَسِطٍ فَمَكَثَ فِيهِ مُضْطَجِعًا حَتَّى هَلَك. . فَهَدَرٌ،
===
وفيه فساد، وهذا ما رجحه في "الأم"(1)، فقال: إنه أشبه القولين، قال الأَذْرَعي: فهو المذهب، (وفي قول: لا شيء) تغليبًا للمباشرة على السبب.
واحترز بقوله: (ولم يعلم): عمّا إذا علم. . فلا شيء على المضيف جزمًا؛ لأنه أهلك نفسه.
(ولو دسّ سمًّا في طعام شخص الغالب أكله منه فأكله جاهلًا. . فعلى الأقوال) في المسألة قبلها؛ لما سلف.
(ولو ترك المجروح علاج جرح مُهلك فمات. . وجب القصاص) على الجارح؛ لأن البرء غير موثوق به لو عالج، والجراحة مهلكة.
واحترز بقوله: (مهلك): عما لو فصده فلم يعصب العرق حتى مات. . فإنه لا ضمان قطعًا.
(ولو ألقاه في ماء لا يعد مغرقًا، كمنبسط فمكث فيه مضطجعًا) أو مستلقيًا أو جالسًا (حتى هلك. . فهدر) لأنه المهلك نفسه، هذا إذا لم يكتفه، فإن كتفه وألقاه على هيئة لا يمكنه الخلاص. . فعليه القصاص، وقيّد في "أصل الروضة" الماء بكونه راكدًا، وعبارة الرافعي تقتضيه (2)، خلافًا لما فهمه شيخنا (3).
قال في "المهمات": ولا حاجة لهذا القيد، والصواب: حذفه كما في "المحرر" انتهى (4).
(1) انظر "الأم"(7/ 109).
(2)
روضة الطالبين (9/ 131)، الشرح الكبير (10/ 133).
(3)
قال شيخنا في "نكته": عبارة الرافعي: فإن كان واقفًا، وهو صفة للملقى، ففهم في "الروضة": أنه صفة للماء فعبر بالركود، وهو فهم عجيب. انتهى، وما فهمه الشيخ هو العجيب، وعبارة الرافعي ظاهرة فيما فهمه في "الروضة"؛ فإنه قال: فإن كان قليلًا لا يعد مثله مغرقًا كما لو كان واقفًا بموضع منبسط فمكث الملقى فيه مضطجعًا أو مستلقيًا حتى هلك. . فلا قصاص. اهـ هامش (أ).
(4)
المهمات (8/ 144).
أَوْ مُغْرِقٍ لَا يَخْلُصُ مِنْهُ إِلَّا بِسِبَاحَةٍ؛ فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهَا أَوْ كَانَ مَكْتُوفًا أَوْ زَمِنًا. . فَعَمْدٌ، وَإِنْ مَنَعَ مِنْهَا عَارِضٌ كَرِيحٍ وَمَوْجٍ. . فَشِبْهُ عَمْدٍ، وَإِنْ أَمْكَنَتْهُ فَتَرَكَهَا. . فَلَا دِيَةَ فِي الأَظْهَرِ. أَوْ فِي نَارٍ يُمْكِنُ الْخَلَاصُ فَمَكَثَ. . فَفِي الدِّيَةِ الْقَوْلَانِ. وَلَا قِصَاصَ فِي الصُّورَتيْنِ، وَفِي النَّارِ وَجْهٌ. وَلَوْ أَمْسَكَهُ فَقَتَلَهُ آخَرُ، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا فَرَدَّاهُ فِيهَا آخَرُ، أَوْ أَلْقَاهُ مِنْ شَاهِقٍ
===
وظاهر كلام المصنف: أن المنبسط صفة للماء، وجعله في "الروضة" صفة للموضع، فقال: وإن كان الماء راكدًا في موضع منبسط (1)، قال الزركشي: إنه لا يلزم من كون الموضع منبسطًا أن يكون الماء كذلك، فتعبيره هنا أوفق للتصوير.
(أو مغرق لا يخلص منه إلا بسباحة؛ فإن لم يحسنها أو كان مكتوفًا أو زمنًا) أو ضعيفًا (. . فعمد) لأنه يهلك مثله، فإن لم يتوقع الخلاص منه بالسباحة كلجّة البحر. . وجب القصاص، سواء كان يحسن السباحة أم لا.
(وإن منع منها) وهو يحسنها (عارض؛ كريح وموج. . فشبه عمد) أي: فتجب ديته، ولا قود، (وإن أمكنته) السباحة (فتركها) خوفًا، أو لجاجًا (. . فلا دية في الأظهر) لأنه بتركه السباحة معرض عما ينجيه؛ كما لو حبسه ولم يمنعه الأكل، فلم يأكل، والثاني: تجب؛ لأنه قد يمنعه من السباحة دهشة وعارض باطن.
(أو في نار يمكن الخلاص) لمثله منها (فمكث. . ففي الدية القولان) في الماء، وقد عرفتهما بتعليلهما، والأظهر: عدم وجوبها، (ولا قصاص في الصورتين) أي: في صورة الإلقاء في الماء، والنار؛ لأنه الذي قتل نفسه.
(وفي النار وجه) بوجوب القصاص؛ كما لو ترك المجروح المداواة، وفي الماء وجه أيضًا.
واحترز بقوله: (يمكن الخلاص): عما إذا لم يمكن؛ لعظمها، أو كونها في وهدة، أو كونه مكتوفًا أو زمنًا أو صغيرًا. . فإنه يجب القصاص.
(ولو أمسكه فقتله آخر، أو حفر بئرًا فردّاه فيها آخر، أو ألقاه من شاهق) أي:
(1) روضة الطالبين (9/ 131).
فَتَلَقَّاهُ آخَرُ فَقَدَّهُ. . فَالْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْمُرْدِي وَالْقَادِّ فَقَطْ. وَلَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ مُغْرِقٍ فَالْتَقَمَهُ حُوتٌ. . وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الأَظْهَرِ،
===
مكان عال (فتلقاه آخر فقدّه) أي: قطعه نصفين مثلًا (. . فالقصاص على القاتل والمردي والقاد فقط) أي: دون الممسك والحافر والملقي؛ أما الأولى: فلحديث: "إِذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ حَتى جَاءَ آخَرُ فَقَتَلَهُ. . قُتِلَ القَاتِلُ، وَحُبِسَ المُمْسِكُ" أخرجه الدارقطني، وصحح ابن القطان إسناده (1)، وكما لا قصاص لا دية، بل يعزر؛ لأنه آثم، ولهذا قال في الحديث:"يحبس".
نعم؛ لو كان المقتول عبدًا. . طولب الممسك بالضمان باليد، والقرار على القاتل، هذا كله إذا كان القاتل مكلفًا، فلو أمسكه وعرضه لمجنون ضارٍ أو سبع فقتله. . فالقصاص على الممسك؛ لأنه يعد قاتله عرفًا، حكاه ابن كج عن النص، وقال في "المطلب": لا خلاف فيه.
وأما الثانية: فتقديمًا للمباشرة؛ لأن الحفر شرط ولا أثر له مع المباشرة، ولا يخفى أن وجوب القصاص على المردي إذا كانت التردية يحصل منها القتل غالبًا.
وأما الثالثة: فلأن فعله قطع أثر السبب، هذا إذا كان القادّ له اختيار؛ فالمجنون الضاري يُلغى فعله، وكذا لو كان في أسفل البئر حية عادية بطبعها أو نمر ضار، فأهلكه. . يجب الضمان على المردي، كذا نقله الرافعي عن الإمام، ثم قال: وأطلق البغوي نفي الضمان إذا افترسه سبع قبل وصوله إلى الأرض (2).
قال الزركشي: وكأنه رام إثبات خلاف، والظاهر: ما قاله الإمام؛ فقد حكاه ابن كج عن النص.
(ولو ألقاه في ماء مُغرق) كلجة بحر ولا يقدر على الخلاص منه؛ كما قيده ابن الرفعة (3)، وهي عبارة الشافعي رضي الله عنه؛ كما أفاده البُلْقيني (فالتقمه حوت. . وجب القصاص في الأظهر) لأنه رماه في مهلك، وقد هلك به بسبب إلقائه، ولا نظر
(1) سنن الدارقطني (3/ 140) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
الشرح الكبير (10/ 138).
(3)
كفاية النبيه (15/ 339).
أَوْ غَيْرِ مُغْرِقٍ. . فَلَا. وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلٍ. . فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَكَذَا عَلَى الْمُكْرَهِ فِي الأَظْهَرِ،
===
إلى جهة الهلاك؛ كما لو ألقاه في بئر مهلكة في أسفلها سكاكين لم يعلم بها الملقي فهلك بها، والثاني: المنع؛ لحصوله بغير ما قصد به الإهلاك، بل تجب دية مغلظة، وهذا القول من تخريج الربيع من صورة الإلقاء من شاهق، والأصحاب بين رادٍّ له ومضعف؛ فكان ينبغي التعبير بـ (النص).
وسواء التقمه قبل وصوله إلى الماء أو بعده، في نيل مصر وغيره.
ومحل الخلاف: إذا لم يحصل الالتقام بقصد الملقي، أما لو رفع الحوت رأسه فألقمه إياه. . فعليه القصاص قطعًا.
ومحله أيضًا: ما إذا لم يعلم بالحوت الذي في اللجة؛ فإن علم به. . وجب القود قطعًا؛ كما لو ألقاه على أسد في زُبْيَتِه كذا جزم به في "المذاكرة"، وقال صاحب "المعين": أفهمه كلام الأصحاب.
(أو غير مغرق. . فلا) قصاص قطعًا؛ لأنه لم يقصد إهلاكه، ولم يشعر بسبب الإهلاك، فأشبه ما لو دفعه دفعًا خفيفًا فوقع على سكين ولم يعلم بها الدافع، ولكن يجب في الصورتين دية شبه العمد.
وقضية التعليل: أنه إذا علم أن هناك حوتًا. . يجب القود، وهو ما صرّح به في "الوسيط"، واقتضاه كلام الرافعي (1).
(ولو أكرهه على قتل) بغير حق (. . فعليه القصاص) لأنه أهلكه بما يقصد به الهلاك غالبًا، فأشبه ما إذا رماه بسهم فقتله، وقيل: لا؛ لأنه متسبب، والمأمور مباشر.
(وكذا على المكرَه) بفتح الراء (في الأظهر) لأنه قتله عمدًا عدوانًا لاستبقاء نفسه، فأشبه ما لو قتله المضطر ليأكله بل أولى؛ لأن المضطر على يقين من التلف إن لم يأكل، بخلاف المكره، والثاني: المنع؛ لحديث: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي: الْخَطَأُ،
(1) الوسيط (6/ 267)، الشرح الكبير (10/ 138).
فَإِنْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ. . وُزِّعَتْ، فَإِنْ كَافَأَهُ أَحَدُهُمَا فَقَطْ. . فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَكْرَهَ بَالِغٌ مُرَاهِقًا. . فَعَلَى الْبَالِغِ الْقِصَاصُ إِنْ قُلْنَا: عَمْدُ الصَّبِيِّ عَمْدٌ، وَهُوَ الأَظْهَرُ.
===
والنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" (1).
ولأنه كالآلة للمكرِه، فصار كما لو ضربه به، وإطلاقه يقتضي: أنه لا فرق في جريان الخلاف بين كون المكرِه الإمام أو نائبه، أو إمام البغاة، أو المتغلب باللصوصية، وغيرهم، وهو الصحيح.
وقيل: محله في الإمام؛ فإن كان متغلبًا. . اقتص من المأمور قطعًا.
والفرق: أن الإمام واجب الطاعة في الجملة فأمره وإكراهه يورث شبهة تدرأ القصاص، والأصحُّ: أن الإكراه هنا لا يحصل إلا بالتخويف بالقتل، أو بما يخاف منه التلف كالقطع والضرب الشديد، وقيل: يحصل بما يحصل به الإكراه على الطلاق.
(فإن وجبت الدية) بأن آل الأمر إليها (. . وزِّعت) كالشريكين (فإن كافأه أحدهما فقط) بأن كان المقتول ذميًّا أو عبدًا، وأحدهما كذلك، والآخر مسلم أو حر (. . فالقصاص عليه) دون الآخر؛ لأنهما كالشريكين، وشريك غير المكافئ يلزمه القود؛ كشريك الأب.
(ولو أكره بالغ) عاقل (مراهقًا) أو عكسه (. . فعلى البالغ القصاص إن قلنا: عمد الصبي عمد، وهو الأظهر) لوجود مقتضيه، وهو القتل المحض العدوان، واندفع عن المراهق؛ لعدم التكليف، فإن قلنا: عمده كخطأ البالغ. . فلا؛ كما لو اشترك المخطئ، والعامد في القتل.
وما أطلقه من أن (عمد الصبي عمد) قيّده في "الروضة" في الكلام على شريك الصبي نقلًا عن القفال وغيره بمن له نوع تمييز، أما من لا تمييز له. . فعمده خطأ قطعًا (2).
(1) أخرجه الحاكم (2/ 198)، وابن حبان (7219)، وابن ماجه (2045) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
روضة الطالبين (9/ 163).
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى رَمْيِ شَاخِصٍ عَلِمَ الْمُكْرِهُ أَنَّهُ رَجُلٌ وَظَنَّهُ الْمُكْرَهُ صَيْدًا. . فالأَصَحُّ: وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُكْرِهِ. أَوْ عَلَى رَمْيِ صَيْدٍ فَأَصَابَ رَجُلًا. . فَلَا قِصَاصَ عَلَى أَحَدٍ. أَوْ عَلَى صُعُودِ شَجَرَةٍ فَزَلقَ وَمَاتَ. . فَشِبْهُ عَمْدٍ، وَقِيلَ: عَمْدٌ.
===
(ولو أكره على رمي شاخص علم المكره أنه رجل، وظنّه المكره صيدًا) أو حجرًا (. . فالأصح: وجوب القصاص على المكرِه) أي: بكسر الراء لأنه قتله قاصدًا للقتل بما يقتل غالبًا، دون المكرَه بفتحها؛ لأنه جاهل بالحال، فكان كالآلة للمكرِه؛ كما إذا أمر صبيًّا لا يعقل أو أعجميًّا يعتقد وجوب طاعة الأمر ولا يميز بين المحظور والمباح بقتل إنسان، فقتله. . فإنه يجب القصاص على الآمر، والثاني: لا تجب عليه؛ لأنه شريك مخطى، وقال البُلْقيني: إنه المعتمد في الفتوى، وحكاه عن "تعليق" القاضي و"التهذيب" و"النهاية" و"البسيط"، قال: والأول مفرع على مرجوح وهو: أن المكرَه كالآلة، والأصحُّ: أنه شريك، وتبعه الزركشي.
(أو على رمي صيد فأصاب رجلًا. . فلا قصاص على أحد) من المكرِه والمكرَه؛ لأنهما لم يتعمداه، وتجب نصف الدية على عاقلة هذا، ونصفها على عاقلة ذاك إن ضمّنا المكره -بفتح الراء- وهو الأظهر، وجميعها على عاقلة المكره -بكسر الراء- إن لم نضمن المكره بفتح الراء.
(أو على صعود شجرة) أو على نزول بئر (فزلق ومات. . فشبه عمد) لأنه لا يقصد به القتل غالبًا، وقضيته: وجوب الدية على عاقلة المكره بكسر الراء، وبه جزم في "التهذيب"(1)، قال الأَذْرَعي: لكن حكى ابن القطان في "فروعه" نص الشافعي على أنها في ماله، (وقيل: عمد) لأنه تسبب إلى قتله، فأشبه ما لو رماه بسهم، ولا يؤثر خطأ المكره -بفتح الراء- حتى يجعل شريك خاطى؛ لأن خطأه نشأ من إكراهه، وهذا قاله الغزالي (2).
قال ابن السكري في "حواشي الوسيط": والتحقيق: أن صعود الشجرة ونحوه إن
(1) التهذيب (7/ 67).
(2)
الوسيط (6/ 265).
أَوْ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ. . فَلَا قِصَاصَ فِي الأَظْهَرِ. وَلَوْ قَالَ: (اقْتُلْنِي وَإِلَّا قَتَلْتُكَ) فَقَتَلَهُ. . فَالْمَذْهَبُ: لَا قِصَاصَ،
===
كان مما لا يسلم منه في العادة غالبًا. . فيجب به القصاص، وإن كان مما يسلم منه غالبًا فهو شبه عمد.
قال: فإن قيل: إذا كان ذلك مما يغلب فيه العطب وتعاطاه. . فهو مكره على قتل نفسه، وإكراهه على قتل نفسه غير متصور.
قلنا: المكره على قتل نفسه لا يتخلص من المكره -بكسر الراء- إلا بقتل نفسه، والمكره على صعود شجرة يتخلص بالطلوع وقد يغلبه الأمل، ويسوقه الأجل فيفعل ويتخلص، بخلاف القتل.
(أو على قتل نفسه) بأن قال: (اقتل نفسك، وإلا. . قتلتك)(. . فلا قصاص في الأظهر) وما جرى ليس بإكراه حقيقة؛ إذ المكرَه من يتخلص بما أمر به عما هو أشد عليه، وهو الذي خوفه المكره، وههنا المأمور به القتل؛ فلا يتخلص بقتل نفسه عن القتل، فصار كأنه مختار له، والثاني: يجب؛ لأنه بالإكراه على القتل والإلجاء إليه قاتل له.
وجعل أبو الفرج الزّاز محل الخلاف: ما إذا خوفه بمثل ذلك القتل؛ فإن خوفه بعقوبة فوق القتل؛ كالإحراق والتمثيل. . فهو إكراه، وجرى عليه في "الشرح الصغير" فقال: يشبه أن يكون ذلك إكراهًا.
ويستثنى من الكتاب: ما إذا كان المكره -بفتح الراء- غيرَ مميز؛ لصغر أو جنون. . فإنه يجب القصاص على المكرِه بكسر الراء.
(ولو قال: "اقتلني، وإلا. . قتلتك"، فقتله. . فالمذهب: لا قصاص) لأنه أذن له في قتله، والإذن شبهة دارئة للقصاص، وفي قول: يجب؛ لأن القتل لا يباح بالإذن، فأشبه إذن المرأة في الزنا، وهو لا يسقط الحد، وقد حكى الرافعي الطريقين في الإذن المجرد، ثم قال: فإن انضم إلى ذلك إكراه. . فسقوط القصاص أَوْجَه (1).
(1) الشرح الكبير (10/ 143 - 144).