الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ الهدنة
عَقْدُهَا لِكُفَّارِ إِقْلِيم يَخْتَصُّ بِالإِمَامِ أَوْ نَائِبهِ فِيهَا، وَلِبَلْدَةٍ يَجُوزُ لِوَالِي الإِقْلِيمِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يعْقَدُ لِمَصْلَحَةٍ؛ كَضَعْفِنَا بِقِلَّةِ عَدَدٍ وَأُهبَةٍ أَوْ رَجَاءِ إِسْلَامِهِمْ أَوْ بَذْلِ جِزْيَةٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ .. جَازَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
===
(باب الهدنة)
هي لغة: المصالحة، وشرعًا: مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدةً معلومة بعوض أو غيره، سواء فيهم من يُقَرّ على دينه ومن لا يُقَرّ، وسميت به: لأنها مشتقة من الهدون، وهو السكون، والصلح يسكن القتال.
والأصل فيها قبل الإجماع: قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} أي: كونوا آمنين فيها أربعة أشهر، وقوله تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} ، وقد فعله عليه الصلاة والسلام مع يهود بالمدينة، ومع أهل مكة عام الحديبية (1).
(عقدها لكفار إقليم) كالهند والروم (يختص بالإمام أو نائبه فيها) أي: في عقد الهدنة؛ لما فيه من الخطر، والإمام هو الذي يتولى الأمور العامة، فإن تعاطاه الآحاد .. فسد، لكن يلحقون بالمأمن، قال الماوردي: ولا يقوم إمام البغاة مقام إمام أهل العدل في ذلك (2)، (ولبلدة يجوز لوالي الإقليم أيضًا) لاطّلاعه على مصالح ذلك الإقليم، ولقلة المفسدة فيه لو أخطأ.
(وإنما يعقد لمصلحة؛ كضعفنا بقلة عدد وأهبة، أو رجاء إسلامهم أو بذلِ جزية)، فإن لم تكن مصلحة .. لم يجز للإمام أن يهادنهم، بل يقاتلهم إلى أن يسلموا أو يبذلوا الجزية إن كانوا أهل كتاب، قال تعالى:{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} .
(فإن لم تكن) مصلحة فيها ( .. جازت أربعةَ أشهر) للآية المارة.
(1) أما مهادنته اليهود .. فأخرجه أبو داوود (3004)، والبيهقي (9/ 232) عن عبد الرحمن بن مالك عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما مهادنته أهلَ مكة .. فأخرجه البخاري (2731، 2732) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما.
(2)
الحاوي الكبير (16/ 399).
لَا سَنَةً، وَكَذَا دُونَهَا فِي الأَظْهَرِ، وَلِضَعْفٍ تَجُوزُ عَشْرَ سِنِينَ فَقَطْ،
===
وما جزم به من جواز أربعة أشهر بلا مصلحة .. مخالفٌ لقوله في "الروضة": إنه يشترط أن يكون للمسلمين إلى عقدها حاجة وفيه مصلحة، وصوّبه في "المهمات"، وقد وقع ذلك في "المحرر"(1).
واعتذر عن "المنهاج": بأن قوله: (فإن لم تكن) أي: جزية (جازت أربعة أشهر)، والكلام يعود على أقرب مذكور، وهو الجزية.
(لا سنةً) لما فيه من ترك الجزية، (وكذا دونها)(وفوق أربعة أشهر (في الأظهر) لزيادتها على مدة السياحة، والثاني: تجوز؛ لأنها مدة تقصر عن مدة الجزية، فجاز أن يؤمن فيها بغير عوض كالأربعة أشهر.
هذا كله بالنسبة إلى نفوس المعقود عليهم، أما أموالهم .. فيجوز العقد لها مؤبدًا، وهل يجوز ذلك في الذرية؟ فيه وجهان، قاله الماوردي في (السير)(2).
(ولضعف تجوز عشر سنين فقط) فما دونها بحسب الحاجة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هادن قريشًا في الحديبية على وضع الحرب عشر سنين؛ كما رواه أبو داوود (3)، وكان ذلك قبل أن يقوى الإسلام، ولا تجوز الزيادة على العشر ولو احتيج إليها؛ لأن الأصل منع الصلح، وقد ورد التحديد بالعشر، فتبقى الزيادة على الأصل (4).
نعم؛ يجوز والحالة هذه أن يعقد عشرًا، ثم عشرًا، قبل انقضاء الأولى؛ كذا جزم به الفوراني وغيره، قاله ابن الرفعة، و"عبارة الروضة": ولا تجوز الزيادة على العشر، لكن إن انقضت المدة والحاجة باقية .. استؤنف العقد، قال الأَذْرَعي: وهذا صحيح، وأما استئناف عقد إثر عقد؛ كما قاله الفوراني .. فغريب لا أحسب الأصحاب يوافقون عليه أصلًا (5).
(1) روضة الطالبين (10/ 334)، المهمات (8/ 451)، المحرر (ص 459).
(2)
الحاوي الكبير (18/ 252).
(3)
سنن أبي داوود (2766)، وأخرجه البيهقي (9/ 221 - 222) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما.
(4)
بلغ مقابلة على أصله. اهـ هامش (أ).
(5)
كفاية النبيه (17/ 108)، روضة الطالبين (10/ 335).
وَمَتَى زَادَ عَلَى الْجَائِزِ .. فَقَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَإِطْلَاقُ الْعَقْدِ يُفْسِدُهُ، وَكَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ عَلَى الصَّحِيحِ؛ بِأَنْ شُرِطَ مَنع فَكِّ أَسْرَانَا، أَوْ تَرْكُ مَالِنَا لَهُمْ، أَوْ لِتُعْقَدَ لَهُمْ ذِمَّةٌ بِدُونِ دِينَارٍ، أَوْ بِدَفعِ مَالٍ إِلَيْهِمْ
===
(ومتى زاد على الجائز) بأن زاد عند القوة على أربعة أشهر، أو عند الضعف على عشر سنين، أو احتاج إلى أربع سنين مثلًا فزاد عليها ( .. فقولا تفريق الصفقة) لأنه جمع في العقد الواحد بين ما يجوز العقد عليه وما لا يجوز، فيبطل في الزائد قطعًا، وفي الباقي القولان على الأصحِّ، وقيل: يصح في الباقي قطعا (1)؛ إذ ليس فيه جهالة العوض ولأنه يتسامح في معاقدة الكفار.
(وإطلاق العقد يفسده) لأن الإطلاق يقتضي التأبيد، ولا يجوز مؤبدًا، وقيل: إنه يصح، وينزل عند الضعف على عشر سنين، وعند القوة على أربعة أشهر أو سنة، قولان، وقد جزم الماوردي والروياني بتنزيل الأمان المطلق على أربعة أشهر، واقتصر عليه الشيخان هناك، فيسال عن الفرق بين البابين على ما رجحاه هنا من فساد العقد (2).
(وكذا شرط فاسد على الصحيح؛ بأن شرط منع فك أسرانا) منهم، (أو ترك مالنا) الذي استولوا عليه (لهم، أو لتعقد لهم ذمة بدون دينار، أو بدفع مال إليهم) لقوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} (3)، ومقابل الصحيح: أنه يصح العقد ويلغو الشرط، قال الإمام: والخلاف كالخلاف في أن الوقف هل يفسد بالشرط الفاسد (4)؟
ويستثنى من دفع المال إليهم: ما إذا دعت الضرورة إلى دفعه؛ بأن كانوا يعذبون الأسرى ففديناهم، أو أحاطوا بنا وخفنا الاصطلام .. فيجوز الدفع، بل يجب على الأصحِّ في "زوائد الروضة"(5).
(1) عبارة "العجالة"[4/ 1718]: (وقل: يصح في الزائد قطعًا)، وهو سبق قلم. اهـ هامش (أ).
(2)
الحاوي الكبير (18/ 231)، بحر المذهب (13/ 259)، الشرح الكبير (11/ 462، 558)، روضة الطالبين (10/ 281، 335).
(3)
في جميع النسخ: (ولا تهنوا).
(4)
نهاية المطلب (18/ 86).
(5)
روضة الطالبين (10/ 335).
وَتَصِحُّ الْهُدْنَةُ عَلَى أَنْ يَنْقُضَهَا الإِمَامُ مَتَى شَاءَ، وَمَتَى صَحَّتْ .. وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ حَتَّى تَنْقَضِيَ أَوْ يَنْقُضُوهَا بِتَصْرِيحٍ، أَوْ قِتَالِنَا، أَوْ مُكَاتبةِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِعَوْرَةٍ لَنَا، أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ، وَإِذَا انْتَقَضَتْ .. جَازَتِ الإِغَارَةُ عَلَيْهِمْ وَبَيَاتهمْ. وَلَوْ نَقَضَ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَاقُونَ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ .. انْتَقَضَ فيهِمْ أَيْضًا،
===
(وتصح الهدنة على أن ينقضها الإمام متى شاء) لأنه صلى الله عليه وسلم وادع يهود خيبر، وقال:"أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ"، رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه (1).
قال الشافعي: ولو قال الإمام الآن هذه اللفظة .. لم يجز؛ لأنه عليه السلام يعلم ما عند الله بالوحي، بخلاف غيره (2).
ولا يختص ذلك بمشيئة الإمام، بل لو عقدها على أن لفلانٍ نقضَها متى شاء .. صح أيضًا بشرط كونِ فلانٍ مسلمًا عدلًا ذا رأي.
(ومتى صحت) الهدنة ( .. وجب الكف عنهم حتى تنقضي أو ينقضوها بتصريح، أو قتالنا، أو مكاتبة أهل الحرب بعورة لنا، أو قتل مسلم) أو ذمي، أو أخذ مال، أو سب الرسول عليه السلام، أو إيواء عيون الكفار؛ لقوله تعالى:{فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} ، وقال:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} .
(وإذا انتقضت .. جازت الإغارة عليهم وبياتهم) لقوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} الآية، هذا فيما إذا كانوا في بلادهم، فأما من في بلادنا .. فلا يقاتل، ويبلغ المأمن، وسواء علموا أن ما فعلوه ناقض أم لا على الأصحَّ في "أصل الروضة"، قال الرافعي: وينبغي أن يقال: إذا لم يعلموا أنه خيانة .. لا ينتقض العهد، إلا إذا كان المفعول مما لا يشك في مضادته للهدنة؛ كالقتال (3).
(ولو نقض بعضهم ولم ينكر الباقون بقول ولا فعل)، بل ساكنوهم وسكتوا ( .. انتقض فيهم أيضًا) لأن سكوتهم يشعر بالرضا، فجعل نقضًا منهم؛ كما أن هدنة
(1) صحيح البخاري (2730).
(2)
الأم (5/ 454).
(3)
الشرح الكبير (11/ 560)، روضة الطالبين (10/ 337).
فَإِنْ أَنْكَرُوا بِاعْتِزَالِهِمْ أَوْ إِعْلَامِ الإِمَامِ بِبَقَائِهِمْ عَلَى الْعَهْدِ .. فَلَا. وَلَوْ خَافَ خِيَانتَهُمْ .. فَلَهُ نَبْذُ عَهْدِهِمْ إِلَيْهِمْ وَيُبَلِّغُهُمُ الْمَأْمَنَ، وَلَا يَنْبُذُ عَقْدَ الذِّمَّةِ بِتُهَمَةٍ. وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ رَدِّ مُسْلِمَةٍ تَأْتِينَا مِنْهُمْ، فَإِنْ شُرِطَ .. فَسَدَ الشَّرْطُ، وَكَذَا الْعَقْدُ فِي الأَصَحِّ،
===
البعض وسكوت الباقين هدنة في حق الكل، وهذا بخلاف عقد الجزية؛ حيث لا ينتقض إلا بتصريح الجميع؛ لقوته وضعف الهدنة.
(فإن أنكروا باعتزالهم أو إعلام الإمام ببقائهم على العهد .. فلا) ينتقض العهد في حقهم؛ لقوله تعالى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} ، وإنما ذكر مثالين؛ لأن الأولَ للإنكار الفعلي، والثانيَ للقولي.
(ولو خاف خيانتهم) بشيء لو أظهروه انتقض عهدهم، وظهرت أمارة تدل على ذلك ( .. فله نبذ عهدهم إليهم) لقوله تعالى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} الآية.
وأفهم: أنه إذا لم يخف الخيانة .. لا يجوز نبذ عهدهم، ومنه يعلم أن عقدها لازم.
(ويبلغهم المأمن) بعد استيفاء ما وجب عليهم من الحقوق؛ وفاء بالعهد.
(ولا ينبذ عقد الذمة بتهمة)، بخلاف الهدنة، والفرق: أن في عقد الذمة يغلب جانبهم، ولهذا تجب الإجابة إليه إذا طلبوا، وفي الهدنة يغلب جانبنا، ولهذا لا تجب الإجابة، وأيضًا فعقد الذمة آكد؛ لأنه مؤبد، وهو عقد معاوضة.
(ولا يجوز شرط رد مسلمة تأتينا منهم)، بخلاف رد الرجل والمرأة الكافرة؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} ، ولأنه لا يُؤمن أن يصيبها زوجها الكافر، أو أن تُزوَّج من كافر.
ولو أسقط المصنف (تأتينا) .. لكان أحسن؛ لأن حكم من جاءت إلينا كافرة ثم أسلمت .. كذلك.
(فإن شرط .. فسد الشرط) لأنه شرط أحل حرامًا، وسواء كان لها عشيرة أم لا (1)، (وكذا العقد في الأصح)، هذا هو الخلاف السابق في قوله:(وكذا شرط فاسد على الصحيح)، إلا أنه ضعّفه هناك وقوّاه هنا، فكرر وناقض.
(1) بلغ مقابلة على خط مؤلفه، نفع الله بعلومه، ورحم سلفه. اهـ هامش (أ).
وَإِنْ شُرِطَ رَدُّ مَنْ جَاءَ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْ رَدًّا فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ .. لَمْ يَجِبْ دَفْعُ مَهْرٍ إِلَى زَوْجِهَا فِي الأَظْهَرِ، وَلَا يُرَدُّ صَبِيٌّ وَمَجْنُون، وَكَذَا عَبدٌ وَحُرٌّ لَا عَشِيرَةَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيُرَدُّ مِنْ لَهُ عَشيرَةٌ طَلَبَتْهُ إِلَيْهَا لَا إِلَى غَيْرِهَا، إِلَّا أَنْ يَقْدِرَ الْمَطْلُوبُ عَلَى قَهْرِ الطَّالِبِ وَالْهَرَبِ مِنْهُ،
===
(وإن شرط رد من جاء، أو لم يذكر ردًّا)، بل أطلق العقد ولم يتعرض للرد بنفي ولا إثبات (فجاءت امرأة) مسلمة ( .. لم يجب دفع مهر إلى زوجها في الأظهر) لأن البضع ليس بمال يدخل في الأمان، والثاني: يجب؛ لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} ، والمراد منه: الصداق، ولأن البضع متقوم وهو حقه، وقد أحلنا بينه وبينه.
ومنع الأول كونَ المراد في الآية الصداقَ؛ لأنه لو وجب بدل البضع .. لكان مهر المثل لا ما أنفق الزوج، وهو المُسمَّى.
(ولا يرد صبي ومجنون) لضعفهما؛ كالنساء، ولا يجوز الصلح بشرط ردهما.
وقضية كلامه تبعًا للرافعي: أنه لا فرق في الصبي بين أن يصف الإسلام أم لا، وقال ابن الرفعة: الصبي إذا أظهر الإسلام وإن لم نحكم بإسلامه .. كالمرأة، صرّح به الماوردي وغيره، والحق به البَنْدَنيجي والرافعي المجنون (1).
(وكذا عبد وحر لا عشيرة له على المذهب)، الخلاف في رد العبد المسلم وجهان: أصحهما: المنع؛ لأنه جاءنا مسلمًا مراغمًا لهم، والظاهر أنهم يستهينونه ولا عشيرة له تحميه، والثاني: يرد، بخلاف الأمة، لأن المنع في حقها خوف الفاحشة.
وفي رد الحر طريقان: أصحهما: طرد الوجهين في العبد، وثانيهما: القطع بالرد؛ لأن الحرية مظنة القوة والاقتدار.
(ويرد من له عشيرة طلبته إليها) لأن الظاهر أنهم يذبون عنه ويحمونه، وقد ردّ صلى الله عليه وسلم أبا جندل على أبيه سهيل بن عمرو؛ كما رواه البخاري (2)، (لا إلى غيرها) لأنهم يعذبونه، (إلا أن يقدر المطلوب على قهر الطالب والهرب منه)،
(1) كفاية النبيه (17/ 117).
(2)
صحيح البخاري (2731، 2732) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما.
وَمَعْنَى الرَّدِّ: أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَالِبِهِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الرُّجُوع، وَلَا يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ، وَلَهُ قَتْلُ الطَّالِب، وَلَنَا التَّعْرِيضُ لَهُ بِهِ لَا التَّصْرِيحُ. وَلَوْ شَرَطَ أَن يَرُدُّوا مَنْ جَاءَهُمْ مُرْتَدًّا مِنَّا .. لَزِمَهُمُ الْوَفَاءُ،
===
وعلى هذا حمل رد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بَصِير؛ فإنه جاء في طلبه رجلان، فقتل أحدَهما في الطريق، وهرب منه الآخر، رواه البخاري (1).
(ومعنى الردّ: أن يخليَ بينه وبين طالبه، ولا يجبرُ على الرجوع) لأنه لا يجوز إجبار المسلم على الإقامة بدار الحرب، وعلى هذا حُمِلَ ردُّه عليه السلام أبا بصير وأبا جندل، ولا تبعد تسمية التخلية ردًّا؛ كما في الوديعة.
(ولا يلزمه) أي: المطلوبَ (الرجوعُ) لأن العهد لم يجرِ معه، ولذلك لم ينكر عليه السلام على أبي بَصِير امتناعه.
(وله قتل الطالب) لقصة أبي بصير، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
(ولنا التعريض له به) لأن عمر رضي الله عنه قال لأبي جندل حين رُدَّ إلى أبيه: (اصبر أبا جندل؛ فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب)، يعرض له بقتل أبيه؛ كما رواه الإمام أحمد في "مسنده"(2)، (لا التصريحُ) لأنهم في أمان.
وما جزم به من قتل الطالب والتعريض به: أشار في "المحرر" إلى خلاف فيهما بقوله: (والظاهر)، لكن قال المصنف في "الدقائق": إنه أشار إلى احتمال فيه، ولم يرد إثبات خلاف فيه. انتهى (3).
واعترض: بأن المنع احتمال للإمام؛ كما ذكره في "الشرح"، وعده وجهًا في كلامه على رقوم "الوجيز"(4).
وقد أكثر المصنف من عدّ احتمالات الإمام والغزالي وجوهًا؛ كما سبق في غير موضع.
(ولو شرط أن يردوا من جاءهم مرتدًّا منّا .. لزمهم الوفاء) عملًا بالتزامهم،
(1) وهو الحديث السابق.
(2)
مسند أحمد (4/ 323) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما.
(3)
المحرر (ص 460)، دقائق المنهاج (ص 75).
(4)
الشرح الكبير (11/ 574).
فَإِنْ أَبَوْا .. فَقَدْ نَقَضُوا، وَالأَظْهَرُ: جَوَازُ شَرْطِ أَلَّا يَرُدُّوا.
===
(فإن أبوا .. فقد نقضوا) العهد؛ لمخالفتهم الشرطَ.
(والأظهر: جواز شرط الا يردوا) من جاء مرتدًّا منّا؛ لأنه عليه السلام شرط في صلح الحديبية: أن من جاءنا منكم .. رددناه، ومن جاءكم منا .. فسحقًا سحقًا (1)، والثاني: المنع، ولا بدّ من استرداده؛ لإعلاء الإسلام، وإقامة حكم المرتدين عليه، قال الماوردي: والصحيح عندي: صحة هذا الشرط في الرجال دون النساء؛ كما ذكرنا في شرط ردِّ من جاءنا مسلمًا؛ لأن الأبضاع يحتاط لها، وحاول تنزيل القولين على هذين الحالين؛ كذا نقلاه عنه في "الشرح" و"الروضة"، وأقراه، وجزم به في "الحاوي الصغير"(2)، وحينئذ فيجب تقييد إطلاق "الكتاب" به.
* * *
(1) أخرجه مسلم (1784) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
الشرح الكبير (11/ 575)، روضة الطالبين (10/ 347)، الحاوي الصغير (ص 623).