المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتابُ القضاء هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، ===   (كتاب القضاء) هو بالمد: الولاية المعروفة، وجمعه أقضية؛ - بداية المحتاج في شرح المنهاج - جـ ٤

[بدر الدين ابن قاضي شهبة]

فهرس الكتاب

- ‌كتابُ الجراح

- ‌فَصْلٌ [في اجتماع مباشرتين]

- ‌فَصْلٌ [في شروط القود]

- ‌فَصْلٌ [في تغير حال المجروح بحرية أو عصمة أو إهدار أو بمقدار للمضمون به]

- ‌فَصْلٌ [في شروط القصاص في الأطراف والجراحات والمعاني]

- ‌بابُ كيفيَّة القصاص ومستوفيه والاختلاف فيه

- ‌فَصْلٌ [في اختلاف مستحق الدم والجاني]

- ‌فَصْلٌ [في مستحق القود ومستوفيه وما يتعلق بهما]

- ‌فَصْلٌ [في موجب العمد وفي العفو]

- ‌كتابُ الدِّيات

- ‌فَصْلٌ [في موجب ما دون النفس من جرح أو نحوه]

- ‌فَرْعٌ [في موجب إزالة المنافع]

- ‌فَرْعٌ [في اجتماع جنايات على شخص]

- ‌فَصْلٌ [في الجناية التي لا تقدير لأرشها والجناية على الرقيق]

- ‌‌‌بابُ موجبات الدِّية والعاقلة والكفَّارة

- ‌بابُ موجبات الدِّية والعاقلة والكفَّارة

- ‌فَصْلٌ [في الاصطدام ونحوه مما يوجب الاشتراك في الضمان وما يذكر مع ذلك]

- ‌فَصْلٌ [في العاقلة وكيفية تأجيل ما تحمله]

- ‌فَصْلٌ [في جناية الرقيق]

- ‌فَصْلٌ [في الغرة]

- ‌فَصْلٌ [في كفارة القتل]

- ‌كتابُ دعوى الدَّم والقسامة

- ‌فَصْلٌ [فيما يثبت به موجب القود وموجب المال بسبب الجناية من إقرار وشهادة]

- ‌كتابُ البُغاة

- ‌فَصْلٌ [في شروط الإمام الأعظم وبيان طرق الإمامة]

- ‌كتابُ الرِّدَّة

- ‌كتابُ الزِّنا

- ‌كتابُ حد القذف

- ‌كتابُ قطع السرقة

- ‌فصلٌ [فيما يمنع القطع وما لا يمنعه]

- ‌ باب

- ‌فصلٌ [في شروط السارق الذي يقطع]

- ‌بابُ قاطع الطريق

- ‌فَصْلٌ [في اجتماع عقوبات على شخص واحد]

- ‌كتابُ الأشربة

- ‌فَصْلٌ [في التعزير]

- ‌كتابُ الصِّيال وضمان الولاة

- ‌فَصْلٌ [في حكم إتلاف البهائم]

- ‌كتابُ السِّيَر

- ‌فَصْلٌ [في مكروهات ومحرمات ومندوبات في الجهاد وما يتبعها]

- ‌فَصْلٌ [في حكم الأسر وأموال أهل الحرب]

- ‌فَصْلٌ [في أمان الكفار]

- ‌كتابُ الِجزْيَة

- ‌فَصْلٌ [في مقدار الجزية]

- ‌باب

- ‌فَصْلٌ [في أحكام عقد الجزية]

- ‌بابُ الهدنة

- ‌كتابُ الصَّيد والذَّبائح

- ‌فَصْلٌ [في آلة الذبح والصيد]

- ‌فَصْلٌ [فيما يملك به الصيد وما يذكر معه]

- ‌كتاب الأضحية

- ‌فَصْلٌ [في العقيقة]

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌كتاب المسابقة والمناضلة

- ‌كتابُ الأيمان

- ‌فصلٌ [في صفة الكفارة]

- ‌فصلٌ [في الحلف على السكنى والمساكنة وغيرهما]

- ‌فصلٌ [في الحلف على أكل وشرب مع بيان ما يتناوله]

- ‌فصلٌ [في مسائل منثورة ليقاس بها غيرها]

- ‌فصلٌ [في الحلف على ألا يفعل كذا]

- ‌كتاب النَّذر

- ‌فصلٌ [في نذر النسك والصدقة والصلاة وغيرها]

- ‌كتابُ القضاء

- ‌فصلٌ [فيما يقتضي انعزال القاضي أو عزله وما يذكر معه]

- ‌(باب

- ‌فصلٌ [في آداب القضاء وغيرها]

- ‌فصلٌ [في التسوية وما يتبعها]

- ‌بابُ القضاء على الغائب

- ‌فصلٌ [في بيان الدعوى بعين غائبة]

- ‌فصلٌ [في بيان من يحكم عليه في غيبته وما يذكر معه]

- ‌بابُ القِسْمَة

- ‌كتابُ الشهادات

- ‌فصلٌ [فيما يعتبر فيه شهادة الرجال]

- ‌فصلٌ [في تحمل الشهادة وأدائها]

- ‌فصلٌ [في الشهادة على الشهادة]

- ‌فصلٌ [في الرجوع عن الشهادة]

- ‌كتابُ الدعوى والبيّنات

- ‌فصلٌ [فيما يتعلق بجواب المدعى عليه]

- ‌فصلٌ [في كيفية الحلف والتغليظ فيه]

- ‌فصلٌ [في تعارض البينتين]

- ‌فصلٌ [في اختلاف المتداعيين في العقود]

- ‌فصلٌ [في شروط القائف]

- ‌كتابُ العتِق

- ‌فصلٌ [في العتق بالبعضية]

- ‌فصلٌ [في الإعتاق في مرض الموت وبيان القرعة في العتق]

- ‌فصلٌ [في الولاء]

- ‌كتابُ التَّدبير

- ‌فصلٌ [في حكم حمل المدبرة]

- ‌كتابُ الكِتابة

- ‌فَصْلٌ [فيما يلزم السيد بعد الكتابة]

- ‌فَصْلٌ [في بيان لزوم الكتابة وجوازها]

- ‌فَصْلٌ [في مشاركة الكتابة الفاسدة الصحيحة]

- ‌كتابُ أمّهات الأولاد

- ‌أهمّ مصادر ومراجع التّحقيق

الفصل: ‌ ‌كتابُ القضاء هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، ===   (كتاب القضاء) هو بالمد: الولاية المعروفة، وجمعه أقضية؛

‌كتابُ القضاء

هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ،

===

(كتاب القضاء)

هو بالمد: الولاية المعروفة، وجمعه أقضية؛ كغطاء وأغطية.

وهو في اللغة: إحكام الشيء، وفراغه، ويرد لمعان.

والأصل فيه من الكتاب: آيات؛ منها: قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} .

ومن السنة: ما لا يحصى كثرة؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ .. فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ .. فَلَهُ أَجْرٌ" متفق عليه (1).

وقال في "شرح مسلم": أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم؛ إن أصاب .. فله أجران باجتهاده وإصابته، وإن أخطأ .. فله أجر باجتهاده في طلب الحق، أما من ليس بأهل للحكم .. فلا يحل له أن يحكم، وإن حكم .. فلا أجر له، بل هو آثم، ولا ينفذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا؛ لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاص في جميع أحكامه، سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر في شيء من ذلك (2).

(هو فرض كفاية) بالإجماع؛ كما قاله الرافعي (3)، بل هو أسنى من فروض الكفايات، وأعلى مراتب الولايات، حتى قال الغزالي: إنه أفضل من الجهاد؛ لأن القضاء حفظ للموجود، والجهاد ازدياد بتحصيل مفقود (4).

والمراد: قبول توليته، أما تقليده من الإمام .. فهو فرض عين؛ كما قاله

(1) صحيح البخاري (7352)، صحيح مسلم (1716) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

(2)

شرح صحيح مسلم (12/ 13 - 14).

(3)

الشرح الكبير (12/ 409).

(4)

الوسيط (7/ 287).

ص: 437

فَإِنْ تَعَيَّنَ .. لَزِمَهُ طَلَبُهُ، وَإِلَّا؛ فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْلَحَ وَكَانَ يَتَوَلَّاهُ .. فَلِلْمَفْضُولِ الْقَبُولُ، وَقِيلَ: لَا. وَيُكْرَهُ طَلَبُهُ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ .. فَلَهُ الْقَبُولُ

===

الماوردي والروياني، لدخوله في عموم ولايته، ولا يصح إلا من جهته (1).

(فإن تعين) إنسان للقضاء ( .. لزمه طلبه) إن لم يعرض عليه؛ كسائر فروض الكفايات إذا تعينت، ويلزمه بذل المال في تحصيله إن احتاج إليه، ولا يعذر بالخوف على نفسه مثلًا أو خيانة بل عليه أن يتولى ويحترز، فإن عرض عليه .. لزمه القبول جزمًا، فإن امتنع .. عصى، وللإمام جبره على الأصح.

(وإلا) أي: وإن لم يتعين عليه (فإن كان غيره أصلح وكان يتولاه .. فللمفضول القبول) إذا بذل له من غير طلب، (وقيل: لا) هذا الخلاف رتبه الرافعي على أن الإمامة العظمى هل تنعقد للمفضول مع وجود الفاضل؟ والأصح: الانعقاد؛ لأن تلك الزيادة خارجة عن حدّ الإمامة، والقضاء أولى بالجواز، لإمكان التدارك فيه بنظر من فوقه من الولاة، بخلاف الإمام (2).

وأشار بقوله: (وكان يتولاه) إلى تخصيص الخلاف به، فلو لم يرض .. فكالعدم.

(ويكره طلبه) لوجود من هو أولى منه، (وقيل: يحرم) ومحل الخلاف: إذا جوزنا ولاية المفضول، فإن لم نجوزها .. حرم عليه الطلب، والقبول جزمًا، وإذا حرم عليه ذلك .. حرمت توليته، كذا جزما به، وحكى القاضي الحسين خلافًا في تحريمها حينئذ، واستشكله الإمام: بأنه إذا كان النصب جائزًا .. فكيف يحرم طلب الجائز؟ ! (3)

(وإن كان مثله) وسئل بلا طلب ( .. فله القبول) ولا يلزمه على الأصح، لأنه قد يقوم به غيره.

(1) الحاوي الكبير (20/ 58)، بحر المذهب (11/ 49).

(2)

الشرح الكبير (12/ 412).

(3)

الشرح الكبير (12/ 412)، روضة الطالبين (11/ 93)، نهاية المطلب (18/ 464).

ص: 438

وَيُنْدَبُ الطَّلَبُ إِنْ كَانَ خَامِلًا يَرْجُو بِهِ نَشْرَ الْعِلْمِ أَوْ مُحْتَاجًا إِلَى الرِّزْقِ، وَإِلَّا .. فَالأَوْلَى تَرْكُهُ. قُلْتُ: وَيُكْرَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَالاعْتِبَارُ فِي التَّعْيِينِ وَعَدَمِهِ بِالنَّاحِيَةِ. وَشَرْطُ الْقَاضِي: مُسْلِمٌ، مُكَلَّفٌ، حُرٌّ، ذَكَرٌ، عَدْلٌ، سَمِيعٌ،

===

(ويندب الطلب إن كان خاملًا) أي: غير مشهور بين الناس (يرجو به نشر العلم أو محتاجًا إلى الرزق) مع الشهرة، وإذا ولّي .. حصلت له كفاية من بيت المال؛ لحصول المنفعة بعلمه في الأولى، وأما في الثانية .. فلأنه يكسب كفايته بسبب هو طاعة؛ لما في العدل من جزيل الثواب.

(وإلا) أي: وإن كان شهيرًا بالعلم مكفيًّا بالرزق ( .. فالأولى: تركه) أي: الطلب والقبول؛ لما فيه من الخطر من غير حاجة.

(قلت: ويكره) الطلب والقبول إذا قلّد بلا طلب (على الصحيح، والله أعلم) وعلى ذلك حمل امتناع السلف، وهذا ما صححه الرافعي في "شرحيه"(1).

(والاعتبار في التعيين وعدمه بالناحية) قال الرافعي: وقضيته: ألّا يجب على من يصلح للقضاء طلبه ببلد آخر لا صالح فيها، ولا قبوله إذا ولي، ويجوز أن يفرق بينه وبين القيام بسائر فروض الكفايات المحوجة إلى السفر؛ كالجهاد وتعلّم العلم ونحوهما: بأنه يمكن القيام بتلك الأمور والعود إلى الوطن، وعمل القضاء لا غاية له، فالانتقال له هجرة، وترك الوطن بالكلية تعذيب. انتهى (2).

قال الإمام والغزالي: ويجب أن يكون في القرى من القضاة عدد بحيث لا يكون بين القاضيين مسافة العدوى.

(وشرط القاضي: مسلم) ولو على كافر؛ لأن القصد به فصل الأحكام، والكافر جاهل بها أو متهم على الدين، (مكلف) فلا يولى صبي ومجنون؛ لنقصهما، (حرٌّ) فلا يولى رقيق ولو مبعضًا؛ لنقصه أيضًا، (ذكر) فلا تولى امرأة؛ لنقصها، ولاحتياج القاضي لمخالطة الرجال، وهي مأمورة بالتخدر، والخنثى في ذلك كالمرأة، (عدل) فلا يولى فاسق؛ لعدم الوثوق بقوله، (سميع) فلا يولى أصم

(1) الشرح الكبير (12/ 413).

(2)

الشرح الكبير (12/ 414).

ص: 439

بَصِيرٌ، نَاطِقٌ، كَافٍ، مُجْتَهِدٌ، وَهُوَ: أَنْ يَعْرِفَ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالأَحْكَامِ، وَخَاصَّهُ وَعَامَّهُ، وَمُجْمَلَهُ وَمُبَيَّنَهُ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، وَمُتَوَاتِرَ السُّنَّةِ وَغَيْرَهُ، وَالْمُتَّصِلَ وَالْمُرْسَلَ، وَحَالَ الرُّوَاةِ قُوَّةً وَضَعْفًا،

===

لا يسمع أصلًا؛ لأنه لا يفرق بين إقرار وإنكار، (بصير) لأن الأعمى لا يعرف الطالب من المطلوب، وفي معنى الأعمى: من يرى الأشباح ولا يعرف الصور.

نعم؛ لو كانت إذا قربت منه عرفها .. صح، فلو كان يبصر نهارًا فقط .. جاز توليته، أو ليلًا فقط .. قال الأَذْرَعي: ينبغي منعه.

(ناطق) فلا يصح من الأخرس وإن فهمت إشارته؛ لعجزه عن تنفيذ الأحكام، (كاف) أي: ناهض ذو فطنة؛ فلا يولى مغفل، ومن اختل نظره بكبر ونحوه، (مجتهد) فلا يولى جاهل بالأحكام الشرعية، ولا مقلد، وهو: من حفظ مذهب إمامه، لكنه غير عارف بغوامضه، وقاصر عن تقرير أدلته؛ لأنه لا يصلح للفتوى، فالقضاء أولى.

(وهو) أي: المجتهد (أن يعرف من القرآن والسنة ما يتعلق بالأحكام) لا جميعهما، وآي الأحكام خمس مئة آية؛ كما ذكره الماوردي وغيره، قال الغزالي: ولا حاجة لتتبع الأحاديث على تفرقها وانتشارها، بل يكفي أن يكون له أصل مصحح وقعت العناية به بجمع أحاديث الأحكام؛ كسنن أبي داوود، ويكفي أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه إذا احتاج إلى العمل بذلك الباب (1).

(وخاصه وعامه) والعام الذي أريد به الخصوص وعكسه، ومقيده ومطلقه، (ومجمله ومبيَّنه، وناسخه ومنسوخه، ومتواتر السُّنة وغيره) وهو الآحاد؛ لأن به يتمكن من الترجيح عند تعارض الأدلة، فيقدم الخاص على العام، والمقيد على المطلق، والمبيّن على المجمل، والناسخ على المنسوخ، والمتواتر على الآحاد.

قال ابن برهان: ويشترط أن يعرف أسباب النزول.

(والمتصل والمرسل، وحال الرواة قوة وضعفًا) لأن بذلك يتوصل إلى تقرير الأحكام.

(1) الحاوي الكبير (20/ 110)، المستصفى (2/ 351).

ص: 440

وَلِسَانَ الْعَرَبِ لُغَةً وَنَحْوًا، وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إِجْمَاعًا وَاخْتِلَافًا، وَالْقِيَاسَ بِأَنْوَاعِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ جَمْعُ هَذِهِ الشُّرُوطِ فَوَلَّى سُلْطَانٌ لَهُ شَوْكَةٌ فَاسِقًا أَوْ مُقَلِّدًا .. نَفَذَ قَضَاؤُهُ لِلضَّرُورَةِ،

===

(ولسان العرب لغة ونحوًا) لأن الشرع ورد بالعربية، وبهذا يعرف عموم اللفظ وخصوصه، وإطلاقه وتقييده، وإجماله وبيانه، فيعرف ما لا بدّ منه من فهم الكتاب والسنة.

(وأقوال العلماء من الصحابة فمن بعدهم إجماعًا واختلافًا) لئلا يقع في حكم أجمعوا على خلافه.

(والقياس بأنواعه) أي: جليِّه وخفيِّه، صحيحه وفاسده، قال القاضي أبو الطيب: ولا يشترط أن يكون في كل نوع من هذه مُبرِزًا حتى يكون في النحو كسيبويه، وفي اللغة كالخليل، بل المعتبر ما يتوصل به إلى معرفة الحكم، وحكاه ابن الصباغ عن الأصحاب، وقال: إن هذا سهل على متعلمه هذا الزمان؛ فإن العلوم دُوِّنت وجمعت.

(فإن تعذر جمع هذه الشروط فولّى سلطان له شوكةٌ فاسقًا أو مقلِّدًا .. نفذ قضاؤه للضرورة) كيلا تتعطل مصالح الناس؛ كما ينفذ قضاء قاضي البغاة لمثل هذه الضرورة، كذا قاله في "الوسيط"، واستحسنه الرافعي، وجزم به في "المحرر"، ووافق ابن عبد السلام على ما قاله الغزالي؛ إذ لا بدّ للناس من قضاة، قال: لكن يجب تولية الأمثل فالأمثل (1).

وقال ابن الرفعة: كلام صاحب "الكافي" دالّ على تردد فيه إذا كان ثَمّ من يصلح، فإن لم يكن .. فلا وجه إلا لتنفيذ حكمه.

وقال ابن الصلاح وابن أبي الدم وابن شداد: لا نعلم أحدًا ذكر ما ذكره الغزالي، والذي قطع به العراقيون والمراوزة: أن الفاسق لا تنفذ أحكامه (2).

(1) الوسيط (7/ 291)، الشرح الكبير (12/ 418)، المحرر (ص 422)، القواعد الكبرى (1/ 146).

(2)

الوسيط (7/ 291).

ص: 441

وَيُنْدَبُ لِلإِمَامِ إِذَا وَلَّى قَاضِيًا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الاسْتِخْلَافِ، فَإِنْ نَهَاهُ .. لَمْ يَسْتَخْلِفْ، فَإِنْ أَطْلَقَ .. اسْتَخْلَفَ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَا غَيْرِهِ فِي الأَصَحِّ. وَشَرْطُ الْمُسْتَخْلَفِ كَالْقَاضِي، إِلَّا أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ - كَسَمَاعِ: بَيِّنَةٍ - فَيَكْفِي عِلْمُهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَيَحْكُمُ بِاجْتِهَادِهِ أَوِ اجْتِهَادِ مُقَلَّدِهِ إِنْ كَانَ مُقَلِّدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ خِلَافَهُ

===

واعترضه الزركشي: بأن الدارمي في "الاستذكار" قد جزم بما قاله الغزالي، ونقله الجاجَرْمي في "الإيضاح" عن الإمام.

(ويندب للإمام إذا ولّى قاضيًا أن يأذن له في الاستخلاف) لما فيه من الإعانة على فصل الخصومات، ويتأكد ذلك عند اتساع الخطة.

(فإن نهاه .. لم يستخلف) لأنه لم يرض بنظر غيره، فإن كان ما فوض إليه أكثر مما يمكنه القيام به .. فيقتصر على الممكن، ويترك الاستخلاف على الأرجح في "الروضة"(1).

(فإن أطلق) التولية ( .. استخلف فيما لا يقدر عليه لا غيره في الأصح) لأن قرينة الحال تقتضي ذلك، والثاني: يستخلف في الكل، كالإمام.

نعم؛ لو أمكنه القيام بما تولاه كقضاء بلدة صغيرة .. فليس له الاستخلاف في الأصح؛ لأن الإمام لم يرض بنظر غيره.

وظاهر كلامه: أن هذا في توليته القضاء، فلو جعل لرجل التزويج والنظر في أمر اليتامى .. لم يكن له الاستخلاف فيه، وبه صرح القاضي شريح والروياني في (أدب القضاء).

(وشرط المستخلف كالقاضي) لأنه قاض (إلا أن يستخلفه في أمر خاص كسماع بينة، فيكفي علمه بما يتعلق به) من شرائط البينة، ولا يشترط فيه رتبة الاجتهاد.

(ويحكم) الخليفة (باجتهاده) إن كان مجتهدًا (أو اجتهاد مقلَّده) بفتح اللام (إن كان مقلِّدًا، ولا يجوز أن يشترط عليه خلافه) لقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} والحق: ما دل عليه الدليل عند المجتهد، فلا يجوز أن يحكم بغيره، والمقلِّد ملحق بمن يقلده، فلذلك أجرى عليه حكمه، فلو شرط المستخلف على خليفته أن يخالف

(1) روضة الطالبين (11/ 119).

ص: 442

وَلَوْ حَكَّمَ خَصْمَانِ رَجُلًا فِي غَيْرِ حَدٍّ للهِ تَعَالَى .. جَازَ مُطْلَقًا بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَفِي قَوْلٍ: لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ: بِشَرْطِ عَدَمِ قَاضٍ بِالْبَلَدِ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِمَالٍ دُونَ قِصَاصٍ وَنِكَاحٍ وَنَحْوِهِمَا، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ إِلَّا عَلَى رَاضٍ بِهِ، فَلَا يَكْفِي رِضَا قَاتِلٍ فِي ضَرْبِ دِيَةٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ،

===

اجتهاده أو اجتهاد مقلَّده - بفتح اللام - ويحكم باجتهاد المستخلف .. لم يجز، وهذا كله مبني على جواز استخلاف المخالف في المذهب؛ كالشافعي للحنفي وعكسه، وهو المعروف في المذهب.

(ولو حكّم خصمان رجلًا في غير حدٍّ لله تعالى .. جاز مطلقًا بشرط أهلية القضاء) لأنه وقع لجمع من الصحابة ولم ينكره أحد.

واحترز بقوله: (في غير حدّ لله تعالى): عن حدوده؛ فلا تحكيم فيها؛ إذ ليس لها طالب معين، وهذا الاستثناء من زياداته على "المحرر"(1)، وبقوله:(بشرط أهلية القضاء): عما إذا كان غير أهل .. فلا ينفذ قطعًا.

وقوله: (مطلقًا) أي: سواء كان هناك قاض أم لم يكن، وسواء كان المحكم فيه قصاصًا أم نكاحًا أم غيرهما ممّا سيأتي.

(وفي قول: لا يجوز) لما فيه من الافتيات على الإمام، (وقيل: بشرط عدم قاض بالبلد) أي: محل القولين إذا لم يكن في البلد قاض؛ لأنه حال ضرورة حينئذ، فإن كان .. لم يجز، وقيل: محلهما: إذا كان قاض، وإلا .. فيجوز قطعًا.

(وقيل: يختص بمال) لأنه أخف (دون قصاص ونكاح ونحوهما) كلعان وحدِّ قذف؛ لخطر أمرها فتناط بنظر القاضي، والأصح: عدم الاختصاص، لأن من صحّ حكمه في المال .. صحّ في غيره؛ كالمولّى من جهة الإمام.

(ولا ينفذ حكمه إلا على راض به) في ابتداء التحكيم؛ لأنه المثبت للولاية، فلا بدّ من تقدمه، (فلا يكفي رضا قاتل في ضرب دية على عاقلته) بل لا بدّ من رضا العاقلة؛ لأنهم لا يؤاخذون بإقرار الجاني، فكيف يؤاخذون برضاه؟ !

(1) المحرر (ص 484).

ص: 443

فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْحُكْمِ .. امْتَنَعَ الْحُكْمُ، وَلَا يُشْتَرَطُ الرِّضَا بَعْدَ الْحُكْمِ فِي الأَظْهَرِ. وَلَوُ نَصَبَ قَاضِيَيْنِ بِبَلَدٍ وَخَصَّ كُلًّا بِمَكَانٍ أَوْ زَمَنٍ أَوْ نَوْعٍ .. جَازَ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَخُصَّ فِي الأَصَحِّ، إِلَّا أَنْ يَشْرِطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحُكْمِ.

===

(فإن رجع أحدهما قبل الحكم) ولو بعد إقامة البينة ( .. امتنع الحكم) لعدم استمرار الرضا.

(ولا يشترط الرضا بعد الحكم في الأظهر) كحكم المولّى من جهة الإمام، والثاني: يشترط؛ لأن رضاهما معتبر في الحكم، فكذا في لزومه.

(ولو نصب) الإمام (قاضيين ببلد وخص كلًّا بمكان أو زمن أو نوع) كأن جعل أحدهما يحكم في الأموال، والآخر في الدم والفروج ( .. جاز) لعدم المنازعة بينهما، قال ابن كج: وكذا لو ولاهما على أن يحكم كل واحد منهما في الواقعة التي يرفعها المتخاصمان إليه.

(وكذا إن لم يخصّ في الأصح) كنصب الوكيلين والوصيين، والثاني: لا يجوز؛ كالإمامة العظمى.

وشمل كلامه: ما إذا نص على التعميم في المكان والزمان، وما إذا أطلق من غير شرط اجتماع ولا استقلال، وهو الأصح في "زيادة الروضة" تنزيلًا للمطلق على ما يجوز (1)، وقيل: تبطل التولية عند الإطلاق.

(إلا أن يشرط اجتماعهما على الحكم) فلا يجوز قطعًا؛ لاختلاف الاجتهاد في الغالب، والتقليد ممتنع، فيؤدي إلى استمرار الخصومة، والحكم المذكور جارٍ في أكثر من قاضيين بشرط أن يقلّ عددهم، فإن كثر .. لم يصح قطعًا، قاله الماوردي والروياني، ولم يحدا القلة والكثرة بشيء (2).

قال في "المطلب": ويجوز أن يناط ذلك بقدر الحاجة.

* * *

(1) روضة الطالبين (11/ 121).

(2)

الحاوي الكبير (20/ 77 - 78)، بحر المذهب (11/ 59).

ص: 444