الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابُ دعوى الدَّم والقسامة
يُشْتَرَطُ أَنْ يُفَصِّلَ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ عَمْدٍ وَخَطَأٍ وَانْفِرَادٍ وَشرْكَةٍ - فَإِنْ أَطْلَقَ .. اسْتَفْصَلَهُ الْقَاضِي، وَقِيلَ: يُعْرِضُ عَنْهُ - وَأَنْ يُعَيِّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَوْ قَالَ:(قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ) .. لَمْ يُحَلِّفْهُمُ الْقَاضِي فِي الأَصَحِّ،
===
(كتاب دعوى الدم والقسامة)(1)
والشهادة على الدم؛ إذ الباب مشتمل على الأمور الثلاثة.
واستفتحه في "المحرر" بحديث: "الْبيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ"(2)، وفي إسناده لين (3).
والقسامة بفتح القاف: اسم للأيمان، وقيل: اسم للأولياء، وأول من قضى بها الوليد بن المغيرة في الجاهلية فأقرها الشارع في الإسلام.
(يشترط) لصحة دعوى الدم (أن يفصل ما يدعيه من عمد وخطأ)(وشبه عمد (وانفراد وشركة) وبيان عدد الشركاء إنْ كان المدعى به المال دون القصاص؛ لاختلاف الأحكام بذلك.
وقد يفهم: أنه يكفي قوله: عمدًا أو خطأ، من غير بيان صفته، وليس كذلك.
(فإن أطلق .. استفصله القاضي) ندبًا، وقيل: حتمًا، (وقيل: يعرض عنه) ولا يستفصله؛ لأنه ضرب من التلقين، ومنع الأول كونه تلقينًا، بل التلقين أن يقول له:(قل: قتله عمدًا أو خطأً).
(وأن يعين المدعى عليه، فلو قال: "قتله أحدهم") أي أحد المدعى عليهم ( .. لم يحلفهم القاضي في الأصح) للإبهام، كما لو ادعى دينًا على أحد رجلين، والثاني: يحلفهم، للحاجة، لأن القاتل يخفي القتل، ويعسر على الولي معرفته، ولا ضرر عليهم في يمين صادقة.
(1) هذا شطر بيت موزون. اهـ هامش (أ).
(2)
المحرر (ص 418).
(3)
أخرجه الدارقطني (3/ 111)، والبيهقي (8/ 123) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وَيَجْرِيَانِ فِي دَعْوَى غَصْبٍ وَسَرِقَةٍ وَإِتْلَافٍ، وَإِنَّمَا تُسْمَعُ مِنْ مُكَلَّفٍ مُلْتَزِمٍ عَلَى مِثْلِهِ. وَلَوِ ادَّعَى انْفِرَادَهُ بِالْقَتْلِ ثُمَّ ادَّعَى عَلَى آخَرَ .. لَمْ تسمَعِ الثَّانِيَةُ، أَوْ عَمْدًا وَوَصَفَهُ بِغَيْرِهِ .. لَمْ يَبْطُلْ أَصْلُ الدَّعْوَى فِي الأَظْهَرِ
===
(ويجريان في دعوى غصب وسرقة وإتلاف) ونحوها؛ كما إذا ضل ماله .. فيدعي على جمع حاضرين أن أحدهم أخذه؛ إذ السبب ليس لصاحب الحق فيه اختيار، والمباشر له يقصد الكتمان، فأشبه الدم.
وضابط محل الخلاف: أن يكون سبب الدعوى ينفرد به المدعى عليه، فيجهل تعيينه، بخلاف دعوى القرض والبيع وسائر المعاملات؛ لأنها تنشأ باختيار المتعاقدين، وشأنها أن يضبط كل واحد منهما صاحبه.
(وإنما تسمع) الدعوى بالدم وغيره (من مكلف) فلا تسمع من صبي ومجنون؛ لإلغاء عبارتهما (ملتزم) فلا تسمع من حربي؛ لأنه لا يستحق قصاصًا ولا غيره (على مثله) فلا تسمع الدعوى على صبي ولا مجنون ولا حربي.
ودخل في المكلف: المحجور عليه بالسفه والفلس والرق؛ لأن المقصود من الدعوى الإقرار، ولو وجد .. لترتب عليه مقتضاه، فتسمع الدعوى على العبد فيما يقبل إقراره به، وكذا على السفيه بحد القذف والقصاص.
(ولو ادعى انفراده بالقتل ثم ادعى على آخر) أنه شريكه أو منفرد ( .. لم تسمع الثانية) لما فيه من تكذيب الأولى ومناقضتها.
نعم؛ لو صدقه الثاني .. ووخذ بها على الأصحِّ؛ لأن الحق لا يعدوهما، ويحتمل كذبه في الأولى وصدقه في الثانية.
وقد يفهم كلامه: بقاء الدعوى الأولى بحالها، وليس كذلك، فلو لم يقسم على الأولى، ولم يمض حكم .. لم يمكن من العود إليه.
(أو عمدًا، ووصفه بغيره) أي: بالخطأ أو شبه العمد ( .. لم يبطل أصل الدعوى في الأظهر) لأنه قد يظن الخطأ عمدًا، وحينئذ يعتمد تفسيره، ويمضي حكمه، وقال ابن داوود في "شرح المختصر": لا بد من تجديد الدعوى بالخطأ، والثاني: تبطل؛ لأن في دعوى العمد اعترافًا بأنه ليس بمخطئ، فلا يقبل رجوعه عنه.
وَتَثْبُتُ الْقَسَامَةُ فِي الْقَتْلِ بِمَحَلِّ لَوْثٍ، وَهُوَ: قَرِينَةٌ لِصِدْقِ الْمُدَّعِي؛ بِأَنْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحِلَّةٍ أَوْ قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ لِأعْدَائِهِ، أَوْ تَفَرَّقَ عَنْهُ جَمْعٌ
===
(وتثبت القسامة في القتل بمحل لوث) لقصة عبد الله بن سهل في "الصحيحين"(1).
(وهو) أي: اللوث (قرينة لصدق المدعي) سمي بذلك؛ لأن أصل اللوث في اللغة: هو القوة، وقيل: الضعف، فكأنه حجة ضعيفة (بأن وجد قتيل في محلة) منفصلة عن البلد الكبيرة، (أو قرية صغيرة لأعدائه) لأن قصة عبد الله بن سهل هكذا كانت، فإن أهل خيبر أعداء الأنصار، ووجوده بقرب المحلة أو القرية كوجوده بها.
ويشترط: ألا يساكن الأعداء غيرهم؛ لاحتمال أن الغير قتله، وهل يشترط: ألا يخالطهم غيرهم حتى لو كانت القرية على قارعة الطريق وكان يطرقها المارة والمجتازون، فلا لوث أو لا يشترط؟ وجهان، أصحهما في "الروضة" و"أصلها": الثاني (2)، فإن خيبر يطرقها الأنصار، ولكن حكى في "شرح مسلم" عن الشافعي: الاشتراط، وقال في "المهمات": إنه الصواب الذي عليه الفتوى، فقد نص عليه الشافعي، وذهب إليه جمهور الأصحاب، بل جميعهم إلا الشاذ (3).
(أو تفرق عنه جمع) في دار دخلها عليهم ضيفًا، أو دخلها معهم لحاجة، أو في مسجد، أو طريق، أو ازدحم قوم على بئر، ثم تفرقوا عن قتيل؛ لقوة الظن هنا أيضًا، ولا يشترط هنا كونهم أعداءه.
(1) وهي: أن عبد الله بن سهل انطلق هو ومُحيِّصة بن مسعود إلى خيبر، وهي يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى مُحيِّصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلًا، فدفنه، ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومُحيِّصة وحُويِّصة ابنا مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال عليه السلام:"كَبِّرْ كَبِّرْ"، وهو أحدث القوم، فسكت، فتكلما، فقال:"أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبكُمْ، أَوْ قَاتِلِكُمْ؟ " قالوا: أنحلف ولم نر؟ فقال: "فَتُبْرِيكُمْ يَهُودُ بخَمْسِينَ يَمِينًا مِنْهُمْ"، قالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار، فعقله صلى الله عليه وسلم من عنده [صحيح البخاري (3173)، صحيح مسلم (1669)] اهـ هامش (أ).
(2)
روضة الطالبين (10/ 10)، الشرح الكبير (11/ 15).
(3)
شرح صحيح مسلم (10/ 145)، المهمات (8/ 267).
وَلَوْ تَقَابَلَ صَفَّانِ لِقِتَالٍ وَانْكَشَفُوا عَنْ قَتِيلٍ، فَإِنِ الْتَحَمَ قِتَالٌ .. فَلَوْثٌ فِي حَقِّ الصَّفِّ الآخَرِ، وَإِلَّا .. فِي حَقِّ صَفِّهِ. وَشَهَادَةُ الْعَدْلِ لَوْثٌ، وَكَذَا عَبِيدٌ وَنسَاءٌ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ تَفَرُّقُهُمْ
===
نعم؛ يشترط كونهم محصورين بحيث يتصور اجتماعهم على القتيل، وإلا .. لم تسمع الدعوى، ولم يقسم.
(ولو تقابل صفان لقتال، وانكشفوا عن قتيل، فإن التحم قتال) أي: اختلط بعضهم ببعض، أو كان سلاح أحد الصفين يصل إلى الآخر برمي أو غيره ( .. فلوث في حق الصف الآخر) لأن الظاهر: أن أهل صفه لا يقتلونه، (وإلا) أي: وإن لم يلتحم، ولا كان يصل السلاح .. فاللوث (في حق صفه) لأن الظاهر: أنهم قتلوه.
(وشهادة العدل) الواحد بأن فلانًا قتله (لوث) لحصول الظن بصدقه، وسواء تقدمت شهادته على الدعوى أو تأخرت؛ كما جزم به في "أصل الروضة" والرافعي أبداه بحثًا، وهو رأي الإمام بعد أن نقل عن الأصحاب: أن سبيلها سبيل سائر الشهادات (1)، هذا في قتل العمد، أما قتل الخطأ وشبه العمد .. فلا يكون لوثًا، بل يحلف معه يمينًا واحدة، ويستحق المال، صرح به الماوردي (2).
(وكذا عبيد ونساء) ممن تقبل روايتهم؛ لأنه يثير ظنًّا، (وقيل: يشترط تفرقهم) لاحتمال التواطؤ في حالة الاجتماع، والأصحُّ: المنع، واحتمال التواطؤ، كاحتمال الكذب في شهادة الواحد، وما صححه من عدم اشتراط تفرقهم جرى عليه في "أصل الروضةٌ، واعترض: بأن الرافعي قال: إنه الأقوى، وأراد من جهة البحث لا النقل، وصرح بأن المشهور: أنه لا يكون لوثًا، ونقله في "المطلب" عن النص، وقال: إنه الذي أورده سليم، وحكاه ابن الصباغ عن الأصحاب، قال في "المهمات": فتعين أن تكون الفتوى عليه (3).
وتعبيره بالجمع: يخرج الاثنين، والذي في "الشرح" و"الروضة" عن
(1) روضة الطالبين (10/ 11)، الشرح الكبير (11/ 17)، نهاية المطلب (17/ 11).
(2)
الحاوي الكبير (16/ 250).
(3)
الشرح الكبير (11/ 16)، روضة الطالبين (10/ 11)، المهمات (8/ 269).
وَقَوْلُ فَسَقَةٍ وَصِبْيَانٍ وَكُفَّارٍ لَوْثٌ فِي الأَصَحِّ. وَلَوْ ظَهَرَ لَوْثٌ فَقَالَ أَحَدُ ابْنَيْهِ: (قَتَلَهُ فُلَانٌ) وَكَذَّبَهُ الآخَرُ .. بَطَلَ اللَّوْثُ، وَفِي قَوْلٍ: لَا، وَقِيلَ: لَا يَبْطُلُ بِتكذِيبِ فَاسِقٍ، وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا:(قَتَلَهُ زَيْدٌ وَمَجْهُولٌ)، وَقَالَ الآخَرُ:(عَمْرٌو وَمَجْهُولٌ) .. حَلَفَ كُلٌّ عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ
===
"التهذيب": أن شهادة عبدين أو امرأتين كشهادة الجمع، واعتمده في "المهمات"، ونقله عن جزم الماوردي، قال: وحكاه عنه في "البحر" وارتضاه، وجزم به الخوارزمي في "الكافي"، ومحمد بن يحيى في "المحيط"(1).
(وقول فسقة وصبيان وكفار لوث في الأصح) لأن الغالب أن اتفاق الجمع الكثير على الإخبار عن الشيء كيف كان .. لا يكون إلا عن حقيقة، والثاني: لا؛ لأنه لا عمل على قولهم في الشرع، والثالث: لوث من غير الكفار، ومن أقسام اللوث لهج الخاص والعام؛ بأن فلانًا قتل فلانًا، نقلاه عن البغوي وأقراه (2).
(ولو ظهر لوث فقال أحد ابنيه: ) مثلًا ("قتله فلان"، وكذبه الآخر .. بطل اللوث) لأن الله تعالى أجرى العادة بحرص القريب على التشفي من قاتل قريبه، وأنه لا يبرئه، فعارض هذا اللوث مسقط، (وفي قول: لا) يبطل؛ لأن في سائر الدعاوى لا يسقط بتكذيب أحد الوارثين حق الثاني، فيحلف المدعي خمسين يمينًا، ويأخذ حقه من الدية، (وقيل: لا يبطل بتكذيب فاسق) لأن قوله غير معتبر في الشرع، والأصحُّ: أنه لا فرق بينهما، فإن قول الفاسق فيما يسقط حقه مقبول؛ لانتفاء التهمة.
ومحل الخلاف: بالنسبة إلى المدعي، أما بطلانه بالنسبة إلى المكذب .. فلا خلاف فيه، كما صرح به في "البيان" وغيره (3).
(ولو قال أحدهما: "قتله زيد ومجهول"، وقال الآخر: "عمرو ومجهول" .. حلف كل على من عينه) لاحتمال أن الذي أبهم ذكره هو الذي عينه الآخر، وكذلك
(1) الشرح الكبير (11/ 16)، روضة الطالبين (10/ 11)، المهمات (8/ 270).
(2)
الشرح الكبير (11/ 18)، روضة الطالبين (10/ 12).
(3)
البيان (13/ 241).
وَلَهُ رُبُعُ دِيَةٍ. وَلَوْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اللَّوْثَ فِي حَقِّهِ فَقَالَ: (لَمْ أَكُنْ مَعَ الْمُتَفَرِّقِينَ عَنْهُ) .. صُدِّقَ بِيَمِينهِ. وَلَوْ ظَهَرَ لَوْثٌ بِأَصْلِ قَتْلٍ دُونَ عَمْدٍ وَخَطَأٍ .. فَلَا قَسَامَةَ فِي الأَصحِّ. وَلَا يُقْسَمُ فِي طَرَفٍ وَإِتْلَافِ مَالٍ، إِلَّا فِي عَبْدٍ فِي الأَظْهَرِ. وَهِيَ: أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعِي عَلَى قَتْلٍ ادَّعَاهُ خَمْسِينَ يَمِينًا،
===
بالعكس، (وله ربع دية) لاعترافه على أن الواجب على من عينه نصف الدية، وحصته منه النصف.
(ولو أنكر المدعى عليه اللوث في حقه، فقال: "لم أكن مع المتفرقين عنه") أي: القتيل ( .. صدق بيمينه) لاحتماله، والأصل براءة ذمته من القتل، وعلى المدعي البينة على قيام الأمارة التي يدعيها.
(ولو ظهر لوث بأصل قتل دون عمد وخطأ .. فلا قسامة في الأصح) لأن مطلق القتل لا يفيد مطالبة القاتل، بل لا بد من ثبوت العمدية، ولا مطالبة العاقلة، بل لا بد أن يثبت كونه خطأً، أو شبه عمد، والثاني: نعم؛ لأنه إذا ظهر القاتل .. خرج الدم عن كونه باطلًا مهدرًا.
(ولا يقسم في طرف وإتلاف مال) لأن النص ورد في النفس، وهي أعظم من غيرها، ولهذا اختصت بالكفارة، فلا يلحق بها ما دونها.
ولو قال المصنف: (ولا يقسم فيما دون النفس) .. لكان أخصر وأعم؛ لشموله الجراحات.
(إلا في عبد في الأظهر) هذا الخلاف مبني على الخلاف في أن بدل العبد تحمله العاقلة أو لا، والأظهر: أنها تحمله، ولا فرق في العبد بين القن والمدبر وأم الولد والمكاتب.
(وهي) أي: القسامة (أن يحلف المدعي على قتل ادعاه خمسين يمينًا) لحديث سهل بن أبي حَثْمة (1)، وهو مخصص لعموم حديث:"الْبيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ"(2).
(1) سبق تخريجه في (ص 151).
(2)
أخرجه بلفظه الترمذي (1341)، والدارقطني (4/ 157) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله =
وَلَا يُشْتَرَطُ مُوَالَاتُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَوْ تَخَلَّلَهَا جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ .. بَنَى، وَلَوْ مَاتَ .. لَمْ يَبْنِ وَارِثُهُ عَلَى الصَّحِيحِ
===
وقد جاء استثناء القسامة أول الباب؛ لأن جانب المدعي قوي باللوث، فتحولت اليمين إليه؛ كما لو أقام شاهدًا في غير القسامة، وسواء النفس الكاملة والناقصة؛ كالمرأة والكافر، فيحلف لكل دية خمسين يمينًا على الأصحِّ؛ لخطر النفس.
وقيل: إن الخمسين تقسط على الدية الكاملة، فيحلف في المرأة خمسة وعشرين يمينًا، وفي اليهودي سبعة عشر، ويقول في يمينه في كل مرة:(لقد قتله هذا)، ويشير إليه، ويرفع في نسبه عند غيبته، أو يعرفه بما يمتاز به من قبيلة أو ضيعة أو لقب (1)، ويتعرض لكونه عمدًا أو خطأً أو شبه عمد.
(ولا يشترط موالاتها على المذهب) لأن الأيمان من جنس الحجج، والتفريق في الحجج لا يقدح، كما إذا شهد الشهود متفرقين، وهذا ما عزياه لإيراد الأكثرين (2)، وقيل: يشترط؛ لأن للموالاة وقعًا في النفوس، وأثرًا في الزجر والردع، وهذا هو الأشبه في اللعان.
وفرق بينهما: بأن اللعان أولى بالاحتياط؛ لأنه تتعلق به العقوبة البدنية، ويختل به النسب، وتشيع الفاحشة.
(ولو تخللها) أي: الأيمان (جنون أو إغماء .. بنى) إذا أفاق، ولا يجب الاستئناف، أما إذا لم نشترط الموالاة .. فظاهر، وأما إذا اشترطناها .. فلقيام العذر، بخلاف ما لو عزل القاضي، أو مات في أثنائها، فإن القاضي الثاني يستأنف على الأصحِّ، قالا: وحكي عن نص "الأم" أنه يبني، وصححه الروياني (3).
(ولو مات) قبل تمام القسامة ( .. لم يبن وارثه على الصحيح) المنصوص؛ لأن الأيمان كالحجة الواحدة، ولا يجوز أن يستحق أحد شيئًا بيمين غيره، والثاني:
= عنهما، والشطر الثاني من الحديث أخرجه البخاري (2514)، ومسلم (1711) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(1)
في (ز): (أو صفة أو لقب).
(2)
الشرح الكبير (11/ 25)، روضة الطالبين (10/ 17).
(3)
الشرح الكبير (11/ 26)، روضة الطالبين (10/ 17).
وَلَوْ كَانَ لِلْقَتِيلِ وَرَثَةٌ وُزِّعَتْ بِحَسَبِ الإِرْثِ وَجُبِرَ الْكَسْرُ، وَفِي قَوْلٍ: يَحْلِفُ كُلٌّ خَمْسِينَ. وَلَوْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا .. حَلَفَ الآخَرُ خَمْسِينَ، وَلَوْ غَابَ .. حَلَفَ الآخَرُ خَمْسِينَ وَأَخَذَ حِصَّتَهُ، وَإِلَّا .. صبَرَ لِلْغَائِبِ، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِلَا لَوْثٍ وَالْمَرْدُودَةَ عَلَى الْمُدَّعِي أَوْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ لَوْثٍ وَالْيَمِينَ مَعَ شَاهِدٍ .. خَمْسُونَ.
===
يبني؛ لأنا إذا كنا نبني يمين بعض الورثة على بعض في توزيع الخمسين عليهم .. فبناء الوارث على يمين المورث أولى.
(ولو كان للقتيل ورثة .. وزعت بحسب الإرث) لأن ما يثبت بأيمانهم يقسم عليهم كذلك، (وجبر الكسر) لأن اليمين الواحدة لا تتبعض، فإذا كان الورثة ثلاثة بنين .. حلف كل واحد سبعة عشر، (وفي قول: يحلف كل خمسين) لأن العدد في القسامة كاليمين الواحدة في غيرها.
وفرق الأول: بأن اليمين الواحدة لا يمكن قسمتها، بخلاف أيمان القسامة، وهذا القول مبني على أن الدية تثبت للوارث ابتداءً، والأول مبني على أنها تثبت للمقتول ابتداءً.
(ولو نكل أحدهما .. حلف الآخر خمسين، ولو غاب .. حلف الآخر خمسين، وأخذ حصته) وكذا لو كان صغيرًا؛ لأن الدية لا تستحق بأقل منها، (وإلا) أي: وإن لم يحلف ( .. صبر للغائب) فإذا حضر .. حلف ما يخصه.
(والمذهب: أن يمين المدعى عليه بلا لوث، والمردودة على المدعي أو على المدعى عليه مع لوث واليمين مع شاهد .. خمسون)
أما في الأولى: وهي ما إذا ادعى القتل بغير لوث، وتوجهت اليمين على المدعى عليه؛ فلأنها يمين مسموعة في دعوى القتل؛ لعدم البينة، فوجب أن تغلظ بزيادة العدد؛ كما إذا كان ثَمَّ لوث، فإن التعدد ليس للوث، بل لحرمة الدم، واللوث إنما يفيد البداءة بالمدعي، بدليل أنه لو نكل .. حلف المدعى عليه خمسين يمينًا، ومنهم من قطع به، والطريق الثاني: يحكي قولين: وجه التغليظ (1): ما قلناه، ووجه
(1) وقع في "العجالة"[4/ 1602]: وجه عدم التغليط، وهو سبق قلم. اهـ هامش (أ)، لكن في المطبوع منه:(وجه التغليظ).
وَتَجِبُ بِالْقَسَامَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ دِيَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَفِي الْعَمْدِ عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَفِي الْقَدِيمِ: قِصَاصٌ
===
مقابله: أنها يمين في جانب المدعى عليه؛ لقطع الخصومة، فلا تغلظ بالعدد؛ كسائر الدعاوى.
وأما في الثانية: وهي ما إذا نكل المدعى عليه فردت اليمين عليه، ولم يكن ثم لوث، فليس فيها طريقة، بل قولان، وهي أولى بالتعدد من الذي قبلها؛ لأن جانب المدعى عليه معتضد بالأصل: وهو البراءة، وجانب المدعي بالعكس؛ لأنه يريد بيمينه إثبات خلاف الأصل.
وأما في الثالثة: فالأصحُّ: القطع فيها بما ذكره؛ لقوله عليه السلام: "فَتُبرِيكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا"(1)، جعل أيمان المدعى عليهم بعدد أيمان المدعين.
وأما الرابعة: فليس فيها طريقان أيضًا بل قولان، والأظهر: التعدد، وأطلق الشيخان تعدد اليمين مع الشاهد (2)، وينبغي أن يقيد بالعمد، أما قتل الخطأ وشبه العمد .. فيحلف مع الشاهد يمينًا واحدة؛ كما قدمناه عن تصريح الماوردي في الكلام على أن شهادة العدل لوث.
(وتجب بالقسامة في قتل الخطأ وشبه العمد دية على العاقلة) لقيام الحجة بذلك؛ كما لو قامت بينة، (وفي العمد على المقسم عليه) (ولا قصاص؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"إِمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ"(3)، فأطلق إيجاب الدية ولم يفصل، ولو صلحت الأيمان للقصاص .. لذكره، (وفي القديم: قصاص) لقوله عليه السلام: "أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبكُمْ؟ "(4)، وأجاب الأول: بأن التقدير: (بدل دم صاحبكم)، وعبر بالدم عن الدية؛ لأنهم يأخذونها بسبب الدم.
(1) سبق تخريجه (ص 151).
(2)
الشرح الكبير (11/ 36)، روضة الطالبين (10/ 21).
(3)
أخرجه البخاري تعليقًا في كتاب الأحكام، باب: الشهادة على الخط المختوم.
(4)
سبق تخريجه (ص 151).
وَلَوِ ادَّعَى عَمْدًا بِلَوْثٍ عَلَى ثَلَاثَةٍ حَضَرَ أَحَدُهُمْ .. أَقْسَمَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ وَأَخَذَ ثُلُثَ الدِّيَةِ، فَإِنْ حَضَرَ آخَرُ .. أَقْسَمَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ، وَفِي قَوْلٍ: خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَكَرَهُ فِي الأَيْمَانِ، وَإِلَّا .. فَيَنْبَغِي الاكْتِفَاءُ بِهَا بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْقَسَامَةِ فِي غَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ الأَصَحُّ. وَمَنِ اسْتَحَقَّ بَدَلَ الدَّمِ .. أَقْسَمَ وَلَوْ مُكَاتَبٌ لِقَتْلِ عَبْدِهِ، وَمَنِ ارْتَدَّ .. فَالأَفْضَلُ تَأْخِيرُ أَقْسَامِهِ لِيُسْلِمَ، فَإِنْ أَقْسَمَ فِي الرِّدَّةِ .. صَحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ،
===
(ولو ادعى عمدًا بلوث على ثلاثة حضر أحدهم .. أقسم عليه خمسين، وأخذ ثلث الدية) من ماله على الجديد، وعلى القديم: له القصاص منه.
(فإن حضر آخر)(وأنكر ( .. أقسم عليه خمسين) لأن الأيمان السابقة لم تتناوله، أما إذا أقر .. فإنه منه بإقراره إن كان القتل عمدًا بشرطه ولا قسامة، (وفي قول: خمسًا وعشرين) كما لو حضرا معًا، فإنه يقسم خمسين عليهما، فيخص الواحد من الخمسين النصف (إن لم يكن ذكره في الأيمان، وإلا .. فينبغي الأتفاء بها) ولا يحلف (بناء على صحة القسامة في غيبة المدعى عليه، وهو الأصح)(وجه الصحة في القسامة في الغيبة: القياس على البينة، ووجه مقابله: ضعف القسامة، وهذا بحث للرافعي (1).
(ومن استحق بدل الدم .. أقسم) فالسيد يقسم في قتل عبده على الأظهر (ولو مكاتب لقتل عبده) لأنه استحق بدله، ويستعين بالقيمة على أداء النجوم، ولا يقسم سيده، بخلاف ما إذا قتل عبد المأذون له، فإن السيد يقسم دون المأذون له؛ لأنه لا حق له، بخلاف المكاتب.
(ومن ارتد .. فالأفضل: تأخير أقسامه ليسلم) لأنه لا يتورع، في حال ردته عن الأيمان الكاذبة، (فإن أقسم في الردة .. صح على المذهب) لأنه عليه السلام اعتد بأيمان اليهود، فدل على أن يمين المشرك صحيحة، والقسامة نوع اكتساب للمال، فلا تمنع منه الردة؛ كالاحتطاب والاصطياد ونحوهما، هذا هو الظاهر المشهور؛ كما قاله الرافعي، وقال المزني: لا تصح القسامة، ولا يثبت شيء (2)، وحكاه غيره
(1) الشرح الكبير (11/ 41).
(2)
الشرح الكبير (11/ 47)، مختصر المزني (ص 252).