الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ [في مكروهات ومحرمات ومندوبات في الجهاد وما يتبعها]
يُكْرَهُ غَزْوٌ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِمَامِ أَوْ نَائِبهِ، وَيُسَنُّ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ وَيَأْخُذَ الْبَيْعَةَ بِالثَّبَاتِ، وَلَهُ الاسْتِعَانَةُ بِكُفَّارٍ تؤْمَنُ خِيَانَتُهُمْ، وَيَكُونُونَ بِحَيْثُ لَوِ انْضَمَّتْ فِرْقَتَا الْكُفْرِ. . قَاوَمْنَاهُمْ،
===
(فصل: يكره غزو بغير إذن الإمام أو نائبه) لأنه على حسب الحاجة، والإمام ونائبه أعرف بها، ولا يحرم؛ لأن أكثر ما فيه التغرير بالنفس، وهو جائز في الجهاد، وفي "المرشد": أن ذلك لا يجوز.
(ويسن إذا بعث سرية أن يؤمّر عليهم ويأخذَ البيعة بالثبات) اقتداءً به صلى الله عليه وسلم؛ كما هو مشهور في الصحيح (1).
(وله الاستعانة بكفار) لأنه عليه السلام استعان بيهود بني قينقاع، ذكره الشافعي (2)، (تؤمن خيانتهم، ويكونون بحيث لو انضمت فرقتا الكفر. . قاومناهم)، وأن يكون في المسلمين قلة وتمسَّ الحاجة إلى الاستعانة، قال الرافعي: وهذا مع شرط مقاومة الفرقتين كالمتنافيين؛ لأنهم إذا قلوا حتى احتاجوا لمقاومة فرقةٍ إلى الاستعانة بالأخرى. . فكيف يقدرون على مقاومتهما معًا لو التأمتا؟ ! قال في "زيادة الروضة": لا منافاة؛ فالمراد: أن يكون المستعان بهم فرقة يسيرة لا يكثر العدد بهم كثرةً ظاهرةً. انتهى (3).
قال البُلْقيني: وفيه لين، ثم أجاب: بأن الكفار إذا كانوا مئتين مثلًا، وكان المسلمون مئة وخمسين. . ففيهم قلة بالنسبة لاستواء العددين، فإذا استعانوا بخمسين كافرًا. . فقد استوى العددان، ولو انحاز هؤلاء الخمسون إلى العدو فصاروا مئتين وخمسين. . أمكن المسلمين مقاومتُهم؛ لعدم زيادتهم على الضعف، قال: وأيضًا
(1) أما التأمير. . فأخرجه مسلم (1731/ 3) عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، وأما البيعة بالثبات. . فأخرجه مسلم أيضًا (1856) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2)
الأم (9/ 199)، وأخرجه البيهقي (9/ 37) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
الشرح الكبير (11/ 381)، روضة الطالبين (10/ 239).
وَبِعَبيدٍ بِإِذْنِ السَّادَةِ وَمُرَاهِقِينَ أَقْوِيَاءَ، وَلَهُ بَذْلُ الأُهْبَةِ وَالسِّلَاحِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَمِنْ مَالِهِ، وَلَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ مُسْلِمٍ لِجِهَادٍ، وَيَصِحُّ اسْتِئْجَارُ ذِمِّيٍّ لِلإِمَامِ،
===
ففي كتب جمع من العراقيين: اعتبار الحاجة من غير ذكر القلة، والحاجة قد تكون للخدمة، فلا يتنافى الشرطان. انتهى.
وشرط في "أصل الروضة" شرطًا آخر: وهو أن يعرف الإمام حسن رأيهم في المسلمين، وشرط الماوردي أيضًا: أن يخالفوا معتقد العدو؛ كاليهود مع النصارى، وأقره في "زيادة الروضة"(1).
(وبعبيد بإذن السادة، ومراهقين أقوياء) لأنه ينتفع بهم في القتال وسقي الماء ومداواة الجرحى، ويستصحب النساء لمثل ذلك، هذا إذا كانوا مسلمين، وفي جواز إحضار نساء أهل الذمة وصبيانهم قولان في "الروضة" و"أصلها" بلا ترجيح (2).
(وله) أي: للإمام (بذل الأهبة والسلاح من بيت المال ومن ماله) ندبًا؛ لينال ثواب الإعانة، وكذا للآحاد بذل ذلك من ماله؛ ففي الحديث:"مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا. . فَقَدْ غَزَا" متفق عليه (3).
(ولا يصح استئجار مسلم لجهاد) لما مر في (باب الإجارة) فإن المصنف قد ذكره هناك، فذكره هنا تكرار (4).
(ويصح استئجار ذمي للإمام) لأنه منفعة مقصودة للمسلمين، فجاز للإمام تحصيلها بالإجارة لهم؛ كغيرها من المنافع، والذمي لا يقع عنه، فأشبه استئجار البهيمة، وطريقه الإجارة لا الجعالة على الأصحِّ، ولا يضر كون الأعمال مجهولة؛ فإن المقصود القتال.
وهل تعتبر هنا شروط الاستعانة؟ قال الزركشي: فيه نظر، وقضية كلام الأصحاب: اعتبارها. انتهى، ولم يظهر لي وجه المنع.
(1) الحاوي الكبير (18/ 146)، روضة الطالبين (10/ 239).
(2)
روضة الطالبين (10/ 240)، الشرح الكبير (11/ 384).
(3)
صحيح البخاري (2843)، صحيح مسلم (1895)، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
(4)
منهاج الطالبين (ص 310).
قِيلَ: وَلِغَيْرِهِ. وَيُكْرَهُ لِغَازٍ قَتْلُ قَرِيبٍ، وَمَحْرَمٍ أَشَدُّ. قُلْتُ: إِلَّا أَنْ يَسْمَعَهُ يَسُبُّ اللهَ تَعَالَى أَوْ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَيَحْرُمُ قَتْلُ صَبيٍّ وَمَجْنُونٍ وَامْرَأَةٍ وَخُنْثَى مُشْكِلٍ،
===
(قيل: ولغيره) من المسلمين؛ كالأذان، والأصحُّ: المنع، والفرق بينه وبين الأذان: أن الجهاد أعظم وقعًا، ويتعلق بإقامته وتأخيره مصالح يحتاج فيها إلى نظر كامل، وأيضًا الذمي مخالف في الدين، وقد يخور في الجيش إذا حضر (1)، فليفوض أمره إلى الإمام.
(ويكره لغاز قتل قريب) لأن فيه قطعَ الرحم المأمور بصلتها؛ كذا علله في "المطلب"، وقضيته: أنها كراهة تحريم، وبه جزم الجَاجَرمي في "الإيضاح"، والمشهور: أنها تنزيه، وعُلِّل: بأنه قد تحمله الشفقة على الندم، فيكون ذلك سببًا لضعفه.
(و) قتلُ قريب (محرم أشدّ) لقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ، أما غير القريب من المحارم. . فقال المنكت: لم أَرَ من ذكر المنع من قتله، (قلت: إلا أن يسمعه يسب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم) فلا كراهة حينئذ؛ تقديمًا لحق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي "الصحيحين":"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ"، زاد مسلم:"وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"(2).
(ويحرم قتل صبي ومجنون وامرأة وخنثى مشكل) للنهي عن قتل الصبيان والنساء في "الصحيحين"(3)، وألحق المجنون بالصبي، والخنثى بالمرأة؛ لاحتمال أنوثته.
ويستثنى من إطلاقه صور، إحداها: ما إذا قاتلوا. . فإنه يجوز قتلهم، وقد
(1) أي: يضعف وينكسر، وفي (هـ):(وقد يخون).
(2)
صحيح البخاري (14) عن أبي هريرة رضي الله عنه، صحيح مسلم (44/ 70) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
صحيح البخاري (3014)، صحيح مسلم (1744) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وَيَحِلُّ قَتْلُ رَاهِبٍ وَأَجِيرٍ وَشَيْخٍ وَأَعْمَى وَزَمِنٍ لَا قِتَالَ فِيهِمْ وَلَا رَأْيَ فِي الأَظْهَرِ، فَيُسْتَرَقُّونَ وَتسبَى نِسَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ. وَيَجُوزُ حِصَارُ الْكُفَّارِ فِي الْبِلَادِ وَالْقِلَاع وَإِرْسَالُ الْمَاءِ عَلَيْهِمْ وَرَمْيُهُمْ بِنَارٍ وَمَنْجَنِيقٍ
===
استثناها في "المحرر"، فلا وجه لحذفه (1)، الثانية: حال الضرورة عند تترس الكفار بهم؛ كما سيأتي، الثالثة: إذا لم يجد المضطر سواهم. . فله قتلهم وأكلهم على الأصحِّ في (كتاب الأطعمة)(2).
(ويحل قتل راهب وأجير وشيخ وأعمى وزمن لا قتال فيهم ولا رأي في الأظهر) لعموم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (3)، والثاني: المنع؛ لأنهم لا يقاتلون، فأشبهوا النساء والصبيان، فإن قاتلوا. . قتلوا قطعًا.
وقوله: (لا قتال فيهم): قطعًا ينبغي أن يكون قيدًا في الشيخ ومن بعده؛ فإن الراهب والأجير فيهم قتال، ولا فرق فيهم بين الشيخ والشاب القوي، وكذلك المحترف.
واحترز بقوله: (ولا رأي): عمن له رأي يستعين به الكفار في القتال؛ فإنه يقتل قطعًا.
(فيسترقون، وتسبى نساؤهم) وذراريهم، (و) يغنم (أموالهم)، هذا إذا جوزنا قتلهم، ولهذا أتى المصنف بالفاء؛ لينبه على التفريع، فإن قلنا: بالمنع. . فالمذهب: أنهم يرقون بنفس الأسر؛ كالنساء والصبيان.
(ويجوز حصار الكفار في البلاد والقلاع، وإرسال الماء عليهم، ورميهم بنار ومنجنيق)، ونحو ذلك؛ من هدم البيوت، وإلقاء الحيات، وقطع المياه عنهم؛ لقوله تعالى:{وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} ، وفي "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف (4)، وروى البيهقي: أنه نصب عليهم المَنْجَنيق (5)، وألحق به
(1) المحرر (ص 448).
(2)
منهاج الطالبين (ص 540).
(3)
في جميع النسخ: (اقتلوا المشركين).
(4)
صحيح البخاري (4325)، صحيح مسلم (1778) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وانظر "شرح صحيح مسلم"(12/ 123) في ذكر الخلاف حول الراوي هل هو عبد الله بن عمرو أو عبد الله بن عمر.
(5)
سنن البيهقي (9/ 84) عن أبي عبيدة رضي الله عنه، وانظر "البدر المنير"(9/ 93 - 94).
وَتَبْيِيتُهُمْ فِي غَفْلَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُسْلِمٌ أَسِيرٌ أَوْ تَاجِرٌ. . جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَوِ الْتَحَمَ حَرْبٌ فَتَتَرَّسُوا بِنِسَاءٍ وَصِبْيَانٍ. . جَازَ رَمْيُهُمْ،
===
ما في معناه؛ لأن أكثر ما في ذلك قتلهم غيلة، وسيأتي جوازه.
(وتبييتهم في غفلة)، وهو الإغارة عليهم ليلًا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أغار على بني المصطلق، متفق عليه (1).
نعم؛ يكره حيث لا حاجة إليه؛ لأنه لا يأمن ليلًا أن يصيب مسلمًا من الجيش يظنه كافرًا، قاله البُلْقيني، وتبعه الزركشي، وقال: إنه أشار إليه في "الأم".
(فإن كان فيهم مسلم) واحدٌ فأكثرَ (أسير أو تاجر. . جاز ذلك) أي: ما سبق؛ من التغريق، والتحريق، ورمي المَنْجَنيق، ونحوها (على المذهب) لئلا يتعطل الجهاد بحبس مسلم عندهم، ولأنه قد لا يصيب المسلم.
نعم؛ يكره إذا لم تكن ضرورة؛ تحرزًا من إهلاك المسلم، ولا يحرم على الأظهر، وإن كان ضرورة؛ كخوف ضررهم، أو لم يحصل فتح القلعة إلا به. . جاز قطعًا.
والطريق الثاني: لا اعتبار بالضرورة، بل إن علم أن ما يرمي به يهلك المسلم. . لم يجز، وإلا. . فقولان، والثالث: إن كان عدد المسلمين الذين فيهم مثل المشركين. . لم يجز، وإن كان أقل. . جاز؛ لأن الغالب أنه لا يصيب المسلمين، قال الزركشي: وينبغي التحريم حيث لا ضرورة، ويدل له قوله تعالى في تأخير القتال عن أهل مكة عام الحديبية:{وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} الآية، قال: وكلام الشافعي يقتضيه، وقال البُلْقيني: إن قضية نص "الأم": التحريم، وقضية نص "المختصر": الكراهة، قال: فإطلاق الجواز على المذهب مخالف للنصين جميعًا.
(ولو التحم حرب فتترسوا بنساء وصبيان) منهم (. . جاز رميهم) إذا دعت الضرورة إليه؛ لئلا يُتّخذَ ذلك ذريعةً إلى منع الجهاد وطريقًا إلى الظفر بالمسلمين؛
(1) صحيح البخاري (2541)، صحيح مسلم (1730) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وَإِنْ دَفَعُوا بِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِم وَلَم تَدْعُ ضَرُورَةٌ إِلَى رَمْيِهِمْ. . فَالأَظْهَرُ: تَرْكُهُمْ. وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمِينَ؛ فَإِنْ لَمْ تدْعُ ضرُورَة إِلَى رَمْيِهِمْ. . تَرَكْنَاهُمْ، وَإِلَّا. . جَازَ رَمْيُهُمْ فِي الأَصَحِّ.
===
لأنا إن كففنا عنهم لأجل التُّرْس. . فهم لا يكفون عنا، فالاحتياط لنا أولى من الاحتياط لأولادهم ونسائهم.
(وإن دفعوا بهم عن أنفسهم ولم تدع ضرورة إلى رميهم. . فالأظهر: تركهم) وجوبًا؛ لئلا يؤدي إلى قتلهم من غير ضرورة، وقد صح النهي عن قتل النساء والصبيان (1)، وهذا ما صححه في "المحرر"؛ فإنه قال: إنه الأولى، فتبعه في الكتاب (2)، والثاني: يجوز رميهم؛ كما يجوز نصب المَنْجَنيق على القلعة وإن كان يصيبهم، وهذا ما صححه في "زيادة الروضة"، ولا ترجيح في "الكبير"(3)، قال الزركشي: والمذهب المنقول عن نصه في الجديد: الجواز، وكذا الحكم لو تترسوا بهم في القلعة.
(وإن تترسوا بمسلمين؛ فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم. . تركناهم) ولم يجز رميهم قطعًا؛ صيانةً للمسلمين، والفرق بينهم وبين النساء والصبيان على طريقة المصنف في "الروضة": أن المسلم محقون الدم؛ لحرمة الدين، فلم يجز قتله من غير ضرورة، والذرية حقنوا لحق الغانمين، فجاز قتلهم بغير ضرورة.
(وإلا) أي: وإن دعت ضرورة إلى رميهم؛ بأن تترسوا بهم في حال التحام القتال، وكانوا بحيث لو كففنا عنهم. . ظفروا بنا (. . جاز رميهم في الأصح) المنصوص بقصد قتال المشركين (4)، ويتوقى المسلمين بحسب الإمكان؛ لأن مفسدة الإعراض أكثر من مفسدة الإقدام، ويحتمل هلاك طائفة للدفع عن بيضة الإسلام، والثاني: المنع؛ لأن غايته أن نخاف على أنفسنا، ودم المسلم لا يباح بالخوف؛ بدليل صورة الإكراه.
(1) سبق تخريجه (ص 274).
(2)
المحرر (ص 448).
(3)
روضة الطالبين (100/ 245)، الشرح الكبير (11/ 397 - 398).
(4)
الأم (5/ 705).
وَيَحْرُمُ الانْصِرَافُ عَنِ الصَّفِّ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى مِثْلَيْنَا إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ يَسْتَنْجِدُ بِهَا، وَيَجُوزُ إِلَى فِئَةٍ بَعِيدَةٍ فِي الأَصَحِّ
===
قال الرافعي: وأشعر إيراد الغزالي: تخصيص الوجهين بما إذا تترس الكفار بطائفة من المسلمين في صف القتال؛ فإنه أجاب بالمنع فيما إذا تترس كافر بمسلم. انتهى، وتبعه في "الحاوي الصغير"؛ حيث قال: لا كافر بمسلم (1).
(ويحرم الانصراف عن الصف) ولو غلب على ظنه أنه إذا ثبت قتل في الأصحِّ؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} ، وفي "الصحيحين":"اجْتَنِبُوا السَّبع الْمُوبِقَاتِ"، وعد منها: الفرار يوم الزحف (2)، (إذا لم يزد عدد الكفار على مثلينا) لقوله تعالى:{فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية، وهو أمر بمعنى الخبر (3)، وإلا. . لوقع خلاف المخبر عنه، وهو محال.
والمعنى في وجوب المصابرة على الضعف؛ كما قاله القاضي الحسين: أن المسلم يقاتل على إحدى الحسنيين؛ إما أن يُقتلَ فيدخل الجنة، أو يَسْلَمَ فيفوز بالأجر والغنيمة، والكافر يقاتل على الفوز بالدنيا.
(إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة يستنجد بها) للآية، والمراد بالتحرف هنا: الانتقال إلى مكان في موضع الحرب أمكن للقتال؛ لكون موقفه الأول ضيقًا أو في عين الشمس ونحو ذلك، والمراد بالتحيز هنا: الذهاب بنيّة الانضمام إلى طائفة من المسلمين؛ ليرجع معهم محاربًا.
(ويجوز) الانصراف للمتحيز (إلى فئة بعيدة في الأصح) لإطلاق الآية، والثاني: يشترط: أن تكون قريبة؛ ليتصور الاستنجاد بها في القتال وإتمامه.
(1) الشرح الكبير (11/ 399)، الحاوي الصغير (ص 606).
(2)
صحيح البخاري (2766)، صحيح مسلم (89) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
كذا في جميع النسخ، و"عجالة المحتاج"(4/ 1689)، والصواب: أن يقال: (وهو أمر بلفظ الخبر) كما في "النجم الوهاج"(9/ 329)، أو:(وهو خبر بمعنى الأمر) كما في "مغني المحتاج"(4/ 298)، والله تعالى أعلم.
-وَلَا يُشَارِكُ مُتَحَيِّزٌ إِلَى بَعِيدَةٍ الْجَيْشَ فِيمَا غَنِمَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ، وَيُشَارِكُ مُتَحَيِّزٌ إِلَى قَرِيبَةٍ فِي الأَصَحِّ- فَإِنْ زَادَ عَلَى مِثْلَيْنِ. . جَازَ الانْصِرَافُ،
===
والمراد بالقريبة: التي يتصور الاستنجاد بهم في هذا القتال ولحوق مددهم والقتالُ قائمٌ بعدُ.
وقيد الإمام والغزالي جواز الانصراف: بما إذا لم يكن فيه انكسار المسلمين، وجرى عليه في "الحاوي الصغير"، قال الرافعي: ولم يتعرض له المعظم، قال الأَذْرَعي: وهو ظاهر، لا سيما لو علم المتحيز أنه لو ولى لولى الناس معه؛ لكونه زعيمَ الجيش أو أميرَهم أو من أبطالهم المشهورين (1).
هذا كله في حال القدرة، أما من عجز بمرض أو نحوه، أو لم يبق معه سلاح. . فله الانصراف بكل حال، ولو أمكنه الرمي بالحجارة. . لا يقوم مقام السلاح في الأصحِّ، كذا قالاه في الباب الأول عند الكلام في الرجوع عن الإذن، وأرسل الرافعي هنا الوجهين بلا ترجيح، وذهل في "الروضة" عما سبق هناك فصحح من "زوائده" أن الحجارة تقوم مقامه، فوقع في الاختلاف (2).
ويستحب: أن يتولى متحرفًا أو متحيزًا (3).
(ولا يشارك متحيز إلى بعيدة الجيش فيما غنم بعد مفارقته) لأنه ببعده تفوت نصرته، أما ما غنموه قبل مفارقته. . فيشارك فيه، نص عليه، وبمثله أجاب في المتحرف للقتال (4)، (ويشارك متحيز إلى) فئة (قريبة في الأصح) لبقاء نصرته، والثاني: لا؛ لمفارقته.
(فإن زاد على مثلين. . جاز الانصراف) لقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الآية، وسواء أكان المسلمون رجالة والمشركون فرسانًا، أم بالعكس؛ كما نقله في "زيادة الروضة" عن الماوردي والروياني، ثم قال: وفيه نظر، ويمكن تخريجه على
(1) نهاية المطلب (17/ 453)، الوجير (ص 513)، الحاوي الصغير (ص 607)، الشرح الكبير (11/ 403).
(2)
الشرح الكبير (11/ 364، 404)، روضة الطالبين (10/ 213، 248).
(3)
بلغ مقابلة على أصله. اهـ هامش (أ).
(4)
الأم (5/ 394).
إِلَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ انْصِرَافُ مِئَةِ بَطَلٍ عَنْ مِئَتَيْنِ وَوَاحِدٍ ضُعَفَاءَ فِي الأَصحِّ. وَتَجُوزُ الْمُبَارَزَةُ، فَإِنْ طَلَبَهَا كَافِرٌ .. اسْتُحِبَّ الْخُرُوجُ، وَإِنَّمَا تَحْسُنُ مِمَّنْ جَرَّبَ نَفْسَهُ وَبِإِذْنِ الإِمَامِ. وَيَجُوزُ إِتْلَافُ بِنَائِهِمْ وَشَجَرِهِمْ لِحَاجَةِ الْقِتَالِ وَالظَّفَرِ بِهِمْ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يُرْجَ حُصُولُهَا لَنَا، فَإِنْ رُجِيَ .. نُدِبَ
===
الوجهين في المسألة عقبها؛ في أن الاعتبار بالعدد أم بالمعنى (1).
(إلَّا أنه يحرم انصراف مئة بطل عن مئتين وواحد ضعفاءَ في الأصح) اعتبارًا بالمعنى؛ لأنهم يقاومونهم لو ثبتوا، وإنما يراعى العدد عند تقارب الأوصاف، والثاني: المنع؛ لأن اعتبار الأوصاف يعسر، فاعتبر الحكم بالعدد.
ومأخذ الخلاف: أنه هل يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه أو لا؟ والأصحُّ: الجواز، والمعنى الذي شرع القتال لأجله -وهو الغلبة- دائر مع القوة والضعف لا مع العدد، فيتعلق الحكم به، والخلاف جارٍ في عكسه، وهو فرار مئة من ضعفائنا عن مئة وتسعة وتسعين من أبطالهم (2).
(وتجوز المبارزة) للاتباع (3)، ولا تكره، ولا تندب، (فإن طلبها كافر .. استحب الخروج) إليه؛ لما في الترك من الضعف للمسلمين والتقوية للكافرين.
(وإنما تحسن) المبارزة (ممن جرب نفسه) فعرف قوته وجرأته، أما الضعيف الذي لا يثق بنفسه .. فتكره له ابتداءً وإجابةً، وقيل: تحرم (4)، (وبإذن الإمام) أو أمير الجيش؛ لأنه قد يظن الإنسان نفسه كفؤًا لها، وقد لا يكون، فاختص بنظر الإمام، فإن بارز بغير إذنه .. جاز على الأصحِّ؛ لأن التغرير بالنفس في الجهاد جائز.
(ويجوز إتلاف بنائهم وشجرهم لحاجة القتال والظفر بهم) لأنه صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير، فأنزل الله:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} الآية، متفق عليه (5)، (وكذا إن لم يرج حصولها لنا) مغايظةً لهم وتشديدًا عليهم، (فإن رجي .. ندب
(1) روضة الطالبين (10/ 249).
(2)
وقع (من ضعفائهم) في "الروضة"[10/ 249]، وهو سبق قلم. اهـ هامش (أ).
(3)
أخرجه البخاري (3969)، ومسلم (3033) موقوفًا على أبي ذر رضي الله عنه.
(4)
والصحيح المنصوص: الأول. اهـ هامش (هـ).
(5)
صحيح البخاري (4031)، صحيح مسلم (1746) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.