الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابُ الشهادات
شَرْطُ الشَّاهِدِ: مُسْلِمٌ، حُرٌّ، مُكَلَّفٌ، عَدْلٌ، ذُو مُرُوءَةٍ، غَيْرُ مُتَّهَمٍ، وَشَرْطُ الْعَدَالَةِ: اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَالإِصْرَارِ عَلَى
===
(كتاب الشهادات)
الشهادة: الإخبار بما شوهد، مأخوذة من الشهود، وهو الحضور؛ لأن الشاهد شاهد ما غاب عن غيره، وقيل: مأخوذة من الإعلام.
والأصل فيها قبل الإجماع: قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، وقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وهو أمر إرشاد لا وجوب، ومن السنة أحاديث شهيرة في الباب.
(شرط الشاهد: مسلم) لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} والكافر ليس بعدل، وسواء شهد على مسلم أو كافر من أهل ملته أو غيرها، في حضر أو سفر، في وصية أو غيرها، كان هناك مسلم أو لم يكن.
(حر) فلا تقبل شهادة عبد؛ لأن الشهادة فيها معنى الولاية، وهو مسلوبٌ منها، (مكلف) فلا تقبل شهادة مجنون وصبي بالإجماع، (عدل) فلا تقبل من فاسق؛ للآية السابقة، (ذو مروءة) لأن ما لا مروءة له .. لا حياء له، ومن لا حياء له .. قال ما شاء، وسيأتي تفسير المروءة.
(غير متهم) لحديث: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ ذِي الظِّنَّةِ" رواه البيهقي مرسلًا، وأسنده شيخه الحاكم (1)، والظنة: التهمة.
وبقي من الشروط النطق؛ فلا تقبل شهادة الأخرس ولو فهمت إشارته في الأصح، وعدم السفه؛ فلا تقبل شهادة المحجور عليه بالسفه؛ كما نقله في "أصل الروضة" قبيل (فصل التوبة) عن الصيمري، وقال: إن كان كذلك .. فهو شرط آخر (2).
(وشرط العدالة: اجتناب الكبائر) لأن مرتكب الكبيرة فاسق، (والإصرار على
(1) سنن البيهقي (10/ 201)، المستدرك (4/ 99) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
روضة الطالبين (11/ 245).
صَغِيرَةٍ، وَيَحْرُمُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُكْرَهُ شِطْرَنْجٌ، فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ مَالٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ .. فَقِمَارٌ،
===
صغيرة) دون الاجتناب الكلي، فقلَّ من يسلم منها إلا من عصمه الله تعالى.
وقضية كلامه: أن الإصرار على صغيرة مبطل للعدالة مطلقًا، ويخالفه قوله في "الروضة" تبعًا لـ "أصلها": وهل الإصرار السالب للعدالة المداومة على نوع من الصغائر أو الإكثار من الصغائر، سواء كانت من نوع أو أنواع؟ فيه وجهان، ويوافق الثاني قول الجمهور: أن من غلبت طاعاته معاصيه .. كان عدلًا، وعكسه فاسق، ولفظ الشافعي رضي الله عنه في "المختصر" يوافقه؛ فعلى هذا: لا تضر المداومة على نوع من الصغائر إذا غلبت الطاعات، وعلى الأول: تضر (1).
(ويحرم اللعب بالنرد على الصحيح) لحديث: "مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ .. فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ" رواه مسلم (2)، والثاني: أنه مكروه كالشطرنج؛ لكنه أشد كراهة.
والفرق على الأصح: أن وضع الشطرنج لصحة الفكر والتدبر؛ فهو يعين على تدبر الحروب والحساب، والنرد موضوعة على ما يخرجه الكعبان؛ فهو كالأزلام.
(ويكره بشطرنج) لأن الأصل الإباحة، وقد روي اللعب عن جماعة من الصحابة والتابعين، وروى الشافعي عن سعيد بن جبير رضي الله عنه: أنه كان يلعب به وهو مستدبر ولا يراه (3)، وإنما كره وإن لم يثبت فيه نهي؛ لقول علي رضي الله عنه للاعبين به: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (4)، ولخوف الاشتغال به عن الصلاة، وليس في الباب حديث صحيح ولا حسن.
(فإن شرط فبه مال من الجانبين .. فقمار) فيحرم، فإن أخرج أحدهما المال ليبذله إن غُلِبَ، ويمسكه إن غَلَبَ .. فليس بقمار، بل هو عقدُ مسابقةٍ على غير آلة قتال، ولا يصح.
(1) روضة الطالبين (11/ 225)، الشرح الكبير (13/ 9).
(2)
صحيح مسلم (2260) عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.
(3)
انظر "سنن البيهقي"(10/ 211).
(4)
أخرجه البيهقي (10/ 212).
وُيبَاحُ الْحُدَاءُ وَسَمَاعُهُ، وَيُكْرَهُ الْغِنَاءُ بِلَا آلَةٍ وَسَمَاعُهُ، وَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ آلَةٍ مِنْ شِعَارِ الشَّرَبَةِ، كَطُنْبُورٍ وَعُودٍ وَصَنْجٍ وَمِزْمَارٍ عِرَاقِيٍّ، وَاسْتِمَاعُهَا، لَا يَرَاعٌ فِي الأَصَحِّ. قُلْتُ: الأَصَحُّ: تَحْرِيمُهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَيَجُوزُ دُفٌّ لِعُرْسٍ وَخِتَانٍ
===
ويشترط للجواز أيضًا: ألا يقترن به فحش، أو إخراج الصلاة عن وقتها عمدًا، فإن وجد ذلك .. لرُدَّت شهادته، فإن لم يتعمد الإخراج، بل شغله اللعب به حتى خرج، فإن تكرر منه .. فُسِّق، وإلا .. فلا.
(ويباح الحداء وسماعه) لما فيه من إيقاظ النوام، وتنشيط الإبل للسير، وقد ورد فيه أحاديث.
(ويكره الغناء بلا آلة وسماعه) لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} ، قال ابن عباس وابن مسعود: هو الغناء بلا آلة على المشهور (1).
(ويحرم استعمال آلة من شعار الشربة؛ كطنبور وعود وصنج) وهو صفر يضرب واحد بواحد، (ومزمار عراقي) وسائر المعازف، وهي: آلات اللهو والأوتار؛ كالرباب والجُنْك والسِّنطِير والكَمنْجَة وغيرها.
(واستماعها) لأن سماعها يدعو إلى شرب الخمر لا سيَّما من قرب عهده به (لا يراع) وهو الشبابة (في الأصح) لقصة ابن عمر مع نافع في ذلك، رواه أبو داوود (2)، (قلت: الأصح: تحريمه، والله أعلم) لأنه يطرب بانفراده؛ فحرم كسائر المزامير، والقصة المذكورة منكرةٌ؛ كما قاله أبو داوود، وعلى تقدير صحتها؛ فهي حجة في التحريم، وإنما لم يامره بسدِّ أذنيه؛ لأنه لم يصغ إليها، ولهذا قال: أتسمع، ولم يقل أتستمع.
(ويجوز دف لعرس وختان) للنصِّ في العرس (3)، والختان بالقياس عليه، وقال البُلْقيني: إنه مستحب؛ لأن مدار ما استدلوا به على الجواز على حديث: "أَعْلِنُوا
(1) أخرجه الحاكم (2/ 411).
(2)
سنن أبي داوود (4924)، وأخرجه ابن حبان (693).
(3)
أخرجه البخاري (5147) عن الرُّبَيِّع بنت مُعوِّذ بن عَفْراء رضي الله عنهما.
- وَكَذَا غَيْرُهُمَا فِي الأَصَحِّ - وَإِنْ كَانَ فِيهِ جَلَاجِلُ. وَيَحْرُمُ ضَرْبُ الْكُوبَةِ - وَهِيَ: طَبْلٌ طَوِيلٌ ضَيِّقُ الْوَسَطِ - لَا الرَّقْصُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَكَسُّرٌ كَفِعْلِ الْمُخَنِّثِ،
===
النِّكَاحَ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ" (1)، هو يقتضي زيادة على الجواز. انتهى، وقد جزم البغوي في "شرح السنة" بالاستحباب (2)، كما نقله الأَذْرَعي وغيره.
(وكذا غيرهما) كقدوم غائب، وكل سرور حادث (في الأصح) لأنه قد يراد إظهار السرور، وقد نذرت امرأة أن تضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بالدف إن رجع من سفره سالمًا، فقال عليه الصلاة والسلام:"أَوْفِي بِنَذْرِكِ" حسنه الترمذي (3)، والثاني: المنع؛ لأن عمر رضي الله عنه كان إذا سمع صوتًا أو دفًّا .. أنكره؛ فإن كان عرسًا أو ختانًا .. أقره (وإن كان فيه) أي: في الدف (جلاجل) لإطلاق الخبر، ومن ادعى أنها لم تكن بجلاجل .. فعليه الإثبات.
(ويحرم ضرب الكوبة، وهي: طبل طويل ضيق الوسط) واسع الطرفين؛ لحديث: "إِنَّ الله حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ" رواه أبو داوود وابن حبان في "صحيحه"(4).
والمعنى فيه: التشبه بالمخنثين؛ فإنهم يعتادون الضرب به، وتفسيره الكوبة بالطبل، قال في "المهمات":(إنه خلاف المشهور في كتب اللغة، قال الخطابي: غلط من قال: الكوبة: الطبل، بل هي النرد، وذكر مثله ابن الأعرابي والزمخشري، وصححه ابن الأثير في "النهاية")(5).
(لا الرقص) فإنه لا يحرم؛ لأنه مجرد حركات على استقامة أو اعوجاج، قال القفال: وهو مكروه (إلا أن يكون فيه تكسر؛ كفعل المخنث) فيحرم على الرجال والنساء، كذا حكياه عن الحليمي، وذكر في "المهمات": أن كلام الحليمي ليس
(1) أخرجه الترمذي (1089)، وابن ماجه (1895) عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
شرح السنة (5/ 312).
(3)
سنن الترمذي (3690)، وأخرجه ابن حبان (4386) عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.
(4)
سنن أبي داوود (3685)، صحيح ابن حبان (5365) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(5)
المهمات (9/ 331).
وَيُبَاحُ قَوْلُ شِعْرٍ وَإِنْشَادُهُ، إِلَّا أَنْ يَهْجُوَ، أَوْ يُفْحِشَ، أَوْ يُعَرِّضَ بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَالْمُرُوءَةُ: تَخَلُّق بِخُلُقِ أَمْثَالِهِ فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ، فَالأَكْلُ فِي سُوقٍ، وَالْمَشْيُ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ، وَقُبْلَةُ زَوْجَةٍ أَوْ أَمَةٍ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَإِكْثَارُ حِكَايَاتٍ مُضْحِكَةٍ، وَلُبْسُ فَقِيهٍ قِبَاءً
===
صريحًا في التحريم، وأنه لم يصرح بذكر النساء (1)، وقال البُلْقيني: إن كان التحريم للتشبه بالمخنث المتشبه بالنساء .. فإنما يحرم على الرجال؛ للعن المتشبه من الرجال بالنساء، ولا يحرم على المرأة، فإنه لا دليل يقتضي التحريم، و (المخنث) - بكسر النون، ويجوز فتحها -: الذي يتشبه بالنساء.
(ويباح قول شعر وإنشاده) بالإجماع؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان له شعراء يصغي إليهم؛ منهم: حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك رضي الله عنهم، واستنشد من شعر أمية بن أبي الصلت مئةَ بيت (2).
(إلا أن يهجو) في شعره (أو يفحش أو يعرِّض بامرأة معينة) فيحرم في الثلاث، أما في الهجو .. فللإيذاء ولو كان صادقًا، وأما الإفحاش .. فالمراد به: أن يمدح الناس ويطري، ولا يمكن حمله على نوع من المبالغة؛ فهو كسائر أنواع الكذب إذا أكثر منه .. رُدَّت شهادته، وأما التعريض بالمرأة .. فلما فيه من الإيذاء والإشهار والقذف إن صرَّح.
(والمروءة: تخلُّقٌ بخلق أمثاله في زمانه ومكانه) لأن الأمور العرفية قلَّما تضبط بل تختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والبلدان، وقيل: المروءة: التحرز عما يسخر منه ويضحك به، وقيل: أن يصون نفسه عن الأدناس، ولا يشينها عند الناس.
(فالأكل في سوق) والشرب من سقايات الطريق إلا أن يكون سوقيًّا، أو شرب لغلبة العطش.
(والمشي مكشوف الرأس) أو البدن غير العورة، إذا لم يكن ذلك ممن يليق به.
(وقبلة زوجة أو أمة بحضرة الناس، وإكثار حكايات مضحكة، ولبس فقيه قباء
(1) المهمات (9/ 332).
(2)
أخرجه مسلم (2255) عن الشَّرِيد بن سُوَيد الثقفي رضي الله عنه.
وَقَلَنْسُوَةً حَيْثُ لَا يُعْتَادُ، وَإِكْبَابٌ عَلَى لَعِبِ الشَّطْرَنج أَوْ غِنَاءٍ أَوْ سَمَاعِهِ، وَإِدَامَةُ رَقْصٍ يُسْقِطُهَا، وَالأَمْرُ فِيهِ يَخْتَلِفُ بِالأَشْخَاصِ وَالأَحْوَالِ وَالأَمَاكِنِ، وَحِرْفَةٌ دَنِيَّةٌ كَحِجَامَةٍ وَكَنْسٍ وَدَبغٍ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ بِهِ يُسْقِطُهَا، فَإِنِ اعْتَادَهَا وَكَانَتْ حِرْفَةَ أَبِيهِ .. فَلَا فِي الأَصَحِّ.
===
وقلنسوة) وهي ما يلبس على الرأس، وكذا لبس تاجر ثوب حمَّال، ولبس حمَّال لبس القضاة (1)(حيث لا يعتاد وإكباب على لعب الشطرنج، أو غناء، أو سماعه، وإدامة رقص يسقطها) أي: المروءة؛ لمنافاة ذلك لها.
وقضية تعبيره بـ (الناس): اعتبار الجمع، وليس كذلك، فلو قال:(بحضرة أجنبي) .. لكان أحسن.
وقضية عدِّه هذه المذكورات في خوارم المروءة دون ما قبلها: أنها لا تحرم وإن كرهت، وهو ما جزم به في "النهاية" و"الوسيط"(2)، وذكر في "المطلب": أنه سمع ابن رزين يحكي عمن لقيه من علماء الشام أن في تحريم تعاطي المباحات التي ترد بها الشهادة أوجهًا: ثالثها: إن تعلقت به شهادة .. حرم، وإلا .. فلا.
(والأمر فيه يختلف بالأشخاص والأحوال والأماكن) لأن المدار على العرف، فقد يقبح الشيء من شخص دون غيره، وفي حال دون حال، فليس لعب الشطرنج في الخلوة مرارًا؛ كلعبه في السوق مرة.
(وحرفة دنية؛ كحجامة وكنس ودبغ) كقيِّم حمام وحارس (ممن لا يليق به يسقطها) لإشعار ذلك بقلة مروءته، (فإن اعتادها وكانت حرفة أبيه .. فلا في الأصح) لأنها حرفة مباحة، وبالناس حاجة إليها، فلو ردت الشهادة بها .. لتورع الناس عنها، فيعم الضرر، والثاني: يسقطها؛ لأن في اختياره لها مع اتساع طرق الكسب إشعارًا بقلة المروءة، قال في "زيادة الروضة": لم يتعرض الجمهور لهذا التقييد، وينبغي ألا يقيد بصنعة آبائه، بل ينظر هل يليق به هو أم لا؟ ثم هنا وافق "المحرر"(3)، ولم يعترض عليه.
(1) في (ز): (جمال) بدل (حمال) في الموضعين.
(2)
نهاية المطلب (19/ 26)، الوسيط (7/ 352).
(3)
روضة الطالبين (11/ 233)، المحرر (ص 497).
وَالتُّهَمَةُ: أَنْ يَجُرَّ إِلَيْهِ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعَ عَنْهُ ضَرًّا، فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِعَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ وَغَرِيمٍ لَهُ مَيْتٍ أَوْ عَلَيْهِ حَجْرُ فَلَسٍ، وَبِمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ، وَبِبَرَاءَةِ مَنْ ضَمِنَهُ، وَبِجرَاحَةِ مُوَررِّثهِ. وَلَوْ شَهِدَ لِمُوَرِّثٍ لَهُ مَرِيضٍ أَوْ جَرِيحٍ بِمَالٍ قَبْلَ الانْدِمَالِ .. قُبلَتْ فِي الأَصَحِّ، وَتُرَدُّ شَهَادَةُ عَاقِلَةٍ بِفِسْقِ شُهُودِ قَتْلٍ، وَغُرَمَاءِ مُفْلِسٍ بِفِسْقِ شُهُودِ دَيْنٍ آخَرَ. وَلَوْ شَهِدَا لاثْنَينِ بِوَصِيَّةٍ فَشَهِدَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِوَصِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ التَّرِكَةِ .. قُبِلَتِ الشَّهَادَتَانِ فِي الأَصَحِّ
===
(والتهمة: أن يجر إليه نفعًا أو يدفع عنه ضررًا، فترد شهادته لعبده) المأذون وغيره؛ لأن ما يشهد به فهو له، (ومكاتبه) لأن له في مال مكاتبه علقة حال الكتابة؛ لأن له المنع من بعض التصرفات، ولأنه بصدد العود إليه بعجز أو تعجيز.
(وغريم له ميت أو عليه حجر فلس) لأنه إذ أثبت للغريم شيئًا .. أثبت لنفسه المطالبة به (1)، وتقبل شهادة لغريم لم يحجر عليه ولو معسرًا على الأصح؛ لتعلق الحق بذمته، بخلاف المحجور عليه؛ لأنه يحكم بماله لغرمائه حال الشهادة.
(وبما هو وكيل فيه) لأنه يثبت لنفسه سلطنة التصرف في المشهود به.
(وببراءة من ضمنه) بأداء أو إبراء؛ لأنه يدفع بها الغرم عن نفسه.
(وبجراحة مورثه، ولو شهد لمورث له مريض أو جريح بمال قبل الاندمال .. قبلت في الأصح، وترد شهادة عاقلة بفسق شهود قتل) هذه المسائل مكررة؛ فقد ذكرها في (باب دعوى الدم) وتقدم شرحها إلا أنه أطلق هنا ما يجب تقييده في موضعين، أحدهما: ردُّ جراحة المورث، وهو فيما قبل الاندمال، ثانيهما: ردُّ العاقلة، وهو فيما يتحملونه، وقد ذكره هناك على الصواب.
(وغرماء مفلس) حجر عليه (بفسق شهود دين آخر) ظهر عليه؛ لتهمة ضرر المزاحمة.
(ولو شهدا لاثنين بوصية فشهدا للشاهدين بوصية من تلك التركة .. قبلت الشهادتان في الأصح) لانفصال كلِّ شهادة عن الأخرى، ولا تجر شهادته نفعًا إلى نفسه، ولا تدفع عنه ضررًا، والثاني: المنع؛ لتهمة المواطأة، وجعل في
(1) في (و): (لأنه إذا أثبت للغريم شيئًا).
وَلَا تُقْبَلُ لِأصْلٍ وَلَا فَرْعٍ، وَتُقْبَلُ عَلَيْهِمَا، وَكَذَا عَلَى أَبيهِمَا بطَلَاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِمَا أَوْ قَذْفِهَا فِي الأَظْهَرِ، وَإِذَا شَهِدَ لِفَرْعٍ وَأَجْنَبِيٍّ .. قُبلَتْ لِلأَجْنَبِيِّ فِي الأَظْهَرِ. قُلْتُ: وَتُقْبَلُ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَلِأخٍ وَصَدِيقٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَلَا تُقْبَلُ مِنْ عَدُوٍّ - وَهُوَ: مَنْ يُبْغِضُهُ بِحَيْثُ يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَتِهِ، وَيَحْزَنُ
===
"الروضة" الخلاف ضعيفًا فعبر بالصحيح (1)، وخالفه هنا.
(ولا تقبل لأصل) وإن علا (ولا فرع) وإن سفل؛ لأنه كالشهادة لنفسه، لأنه جزء منه، ففي الصحيح:"فَاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنِّي"(2)، وعن القديم: القبول؛ لأن الشخص لا يكون صادقًا في شيء دون شيء، ورُدَّ بمنع شهادته لنفسه، وكذا لا تقبل لمكاتب أصله، أو فرعه، ولا لمأذونهما.
(وتقبل عليهما) لانتفاء التهمة (وكذا على أبيهما بطلاق ضرة أمهما أو قذفها في الأظهر) وهي تحته؛ لضعف نفع أمهما بذلك؛ لأنه مهما أراد .. طلقها، أو نكح عليها مع إمساكها، والثاني: المنع؛ لأنها تجر نفعًا إلى أمهما، وهو انفرادها بالأب، فإن الطلاق ينجز ذلك، والقذف يحوج إلى اللعان، وهو سبب الفرقة.
(وإذا شهد لفرع وأجنبي .. قبلت للأجنبي في الأظهر) وردت في حق الفرع قطعًا، وهذا هو الخلاف في تفريق الصفقة.
(قلت: وتقبل لكل من الزوجين) للآخر؛ لأن الحاصل بينهما عقد يطرأ ويزول، فلا يمنع قبول الشهادة؛ كما لو شهد الأجير للمستأجر وعكسه، وقيل: لا تقبل؛ لأن كلَّ واحدٍ منهما وارث لا يحجب، فأشبه الأب، وبه قال الأئمة الثلاثة، وقيل: تقبل شهادته لها دون عكسه؛ لأن لها النفقة عليه فهي متهمة.
(ولأخ وصديق والله أعلم) لضعف التهمة؛ لأنهما لا يتهمان تهمة الأصل والفرع.
(ولا تقبل من عدو) على عدو للتهمة؛ لأنها ربما تفضي إلى الشهادة بالباطل، لأنها عظيمة الموقع في النفوس (وهو: من يبغضه بحيث يتمنَّى زوال نعمته، ويحزن
(1) روضة الطالبين (11/ 236).
(2)
أخرجه البخاري (3767)، ومسلم (2449/ 94) عن المِسْور بن مَخْرمة رضي الله عنه.
بِسُرُورِهِ، وَيَفْرَحُ بِمُصِيبَتِهِ - وَتُقْبَلُ لَهُ، وَكَذَا عَلَيْهِ فِي عَدَاوَةِ دِينٍ كَكَافِرٍ وَمُبْتَدِعٍ. وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ مُبْتَدِعٍ لَا نُكَفِّرُهُ، لَا مُغَفَّلٍ لَا يَضْبُطُ
===
بسروره، ويفرح بمصيبته) لشهادة العرف بذلك، قالا: وقد تكون العداوة من الجانبين، وقد تكون من أحدهما فتختص برد شهادته على الآخر (1).
(وتقبل له) لانتفاء التهمة (وكذا عليه في عداوة دين ككافر ومبتدع) فتقبل شهادة المسلم على الكافر، والسني على المبتدع؛ لأن العداوة الدينية لا توجب ردَّ الشهادة.
(وتقبل شهادة مبتدع لا نكفره) لأنه يزعم بدعته دينًا حقًّا، وسواء على هذا من سب الصحابة وغيرهم، هذا هو الراجح في "زيادة الروضة" بخلاف من قذف عائشة رضي الله عنها فإنه كافر (2)، وقال السبكي في "الحلبيات": في تكفير من سبَّ الشيخين وجهان لأصحابنا، فإنْ لم نكفره .. فهو فاسق لا تقبل شهادته، ومن سب بقية الصحابة .. فهو فاسق مردود الشهادة، ولا يغلط فيقال: شهادته مقبولة. انتهى.
فجعل ما رجحه في "الروضة" غلطًا، قال الأَذْرَعي: وهو كما قال، ونقل عن جمع التصريح به، وأن الماوردي قال: مذهب الشافعي: أن من سبَّ الصحابة أو لعنهم أو كفرهم .. فهو فاسق مردود الشهادة (3).
ويستثنى من إطلاق المصنف قبول شهادة المبتدع: الخطابية، وهم قوم يجوزون الشهادة لصاحبهم إذا سمعوه يقول:(لي على فلان كذا)، فلا تقبل شهادة الواحد منهم لمثله؛ كما صرحا به في (كتاب البغاة)(4).
نعم؛ لو ذكر الخطَّابي في شهادته ما يقطع الاحتمال بأن قال: (سمعته يقرُّ له بكذا)، أو (رأيته يقرضه كذا) .. قبل في الأصح.
(لا مغفل لا يضبط) لعدم الوثوق بقوله، والمراد: ألا يضبط أصلًا أو غالبًا، أما
(1) الشرح الكبير (13/ 28 - 29)، روضة الطالبين (11/ 237).
(2)
روضة الطالبين (11/ 240).
(3)
الحاوي الكبير (21/ 185).
(4)
الشرح الكبير (11/ 83)، روضة الطالبين (10/ 53).
وَلَا مُبَادِرٍ. وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي حُقُوقِ اللهِ تَعَالَى، وَفِيمَا لَهُ فِيهِ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ كَطَلَاقٍ وَعِتْقٍ وَعَفْوٍ عَنْ قِصَاصٍ، وَبَقَاءِ عِدَّةٍ وَانْقِضَائِهَا، وَحَدٍّ لَهُ، وَكَذَا النَّسَبُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَمَتَى حَكَمَ بِشَاهِدَيْنِ فَبَانَا كَافِرَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ صَبيَّيْنِ .. نَقَضَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا فَاسِقَانِ فِي الأَظْهَرِ. وَلَوْ شَهِدَ كَافِرٌ أَوْ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ كَمَالِهِ .. قُبِلَتْ، أَوْ فَاسِقٌ تَابَ
===
من لا يضبط نادرًا والأغلب منه الحفظ .. قبل قطعًا؛ لأن أحدًا لا يسلم منه.
نعم؛ موضع الردِّ فيمن كثر غلطه: إذا لم تكن الشهادة مفسرة؛ فإن فسرها مثل أن يقول: (لفلان كذا أقر له به)، أو (اقترضه منه)، أو بيَّن الزمان والمكان الذي تحمل فيه الشهادة، وتأنق في ذكر الأوصاف .. قبلت.
(ولا مبادر) بالشهادة قبل الدعوى، وكذا بعدها وقبل أن يستشهد على الأصح، حيث تمتنع شهادة الحسبة؛ لما في ذلك من التهمة.
(وتقبل شهادة الحسبة في حقوق الله تعالى، وفيما له فيه حق مؤكد) أي: لا يتأثر برضا الآدمي (كطلاق) بائن أو رجعي، (وعتق وعفو عن قصاص وبقاء عدة، وانقضائها وحد له) أي: لله تعالى؛ كحد الزنا وقطع الطريق، والسرقة؛ لأن المغلب فيها حق الله تعالى، (وكذا النسب على الصحيح) لأن فيه حقًّا لله تعالى؛ إذ الشرع أكد الأنساب ومنع قطعها، فضاهى الطلاق والعتاق، والثاني: لا؛ لتعلق حق الآدمي فيه.
واحترز بحق الله: عن حق الآدمي؛ كالقصاص وحد القذف والبيوع والإقرار، فإن شهادة الحسبة لا تقبل فيه، فإن لم يعلم صاحب الحق .. أعلمه الشاهد حتى يدعي، ويستشهده فيشهد.
(ومتى حكم بشاهدين فبانا كافرين أو عبدين أو صبيين) أو بان أحدهما كذلك ( .. نقضه هو وغيره) لأنه تبين الخطأ؛ كما لو حكم باجتهاد ثم بان النص بخلاف.
(وكذا فاسقان في الأظهر) كسائر من سبق بل أولى؛ لأن اعتبار العدالة منصوصٌ عليه في غير آية، والثاني: لا ينقض؛ لأن فسقهم إنما يعرف ببينة تقوم عليه، وعدالة تلك البينة إنما تدرك با لاجتهاد، والاجتهاد لاينقض بالاجتهاد.
(ولو شهد كافر أو عبد أو صبي ثم أعادها بعد كماله .. قبلت، أو فاسق تاب ..
فَلَا، وَتقبَلُ شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِهَا بِشَرْطِ اخْتِبَارِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ مُدَّةً يُظَنُّ بِهَا صِدْقُ تَوْبَتِهِ، وَقَدَّرَهَا الأَكْثَرُونَ بِسَنَةٍ
===
فلا) والفرق: أن الرد كان لمَّا قام بهم فلا يتهمون بدفع عار الرد، بخلاف الفاسق؛ فإنه كان يخفي فسقه، والرد يظهره فيسعى في دفع عار الرد السابق، وسواء المستتر بفسقه والمعلن به.
نعم؛ في المعلن به وجه، وأطلق الكافر، وهو في المعلن بكفره أما لو كان يستره، ثم أعادها بعد التوبة .. فالأصح في "أصل الروضة" و"الشرح الصغير": عدم القبول؛ كالرد بالفسق، ولو ردت شهادته لعداوة فزالت وأعادها .. لم تقبل على الأصح (1).
(وتقبل شهادته في غيرها) أي: في غير تلك الشهادة التي شهد بها حال فسقه ثم تاب بالاتفاق؛ إذ لا تهمة (بشرط اختباره بعد التوبة مدة يظن بها صدق توبته) لأن التوبة من أعمال القلوب وهو متهم بإظهارها لترويج شهادته وعود ولايته فاعتبر الشارع ذلك؛ ليقوى ما ادعاه.
(وقدرها الأكثرون بسنة) لأن للفصول الأربعة تأثيرًا في النفوس، واتباعها لشهواتها، فإذا مضت على حاله .. أشعر ذلك بحسن السريرة، وقد اعتبر الشارع السنة في العنة، وفي مدة التغريب، والزكاة، والجزية، واستثني من اشتراط الاختبار: صور؛ منها: شاهد الزنا إذا وجب عليه الحد؛ لعدم تمام العدد، فإذا تاب .. قبلت شهادته في الحال من غير استبراء على المذهب في "أصل الروضة"(2)، ومنها: ما لو عصى الولي بالعضل ثم تاب زوج في الحال، ولا يحتاج إلى استبراء، حكاه الرافعي عن البغوي، ثم حاول اعتبار الاستبراء (3)، ومنها: مخفي الفسق إذا تاب وأقرَّ وسلم نفسه للحد؛ لأنه لم يظهر التوبة عما كان مستورًا عليه إلا عن صلاح، قاله الروياني
(1) روضة الطالبين (11/ 242).
(2)
روضة الطالبين (11/ 249).
(3)
الشرح الكبير (13/ 42).