الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صلاح التعليم أساس الإصلاح
-1 -
لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم فإنّما العلماء من الأمّة بمثابة القلب إذا صلح صلح الجسد كلّه وإذا فسد فسد الجسد كلّه، وصلاح المسلمين إنّما هو بفقههم الإسلام وعملهم به وإنّما يصل إليهم هذا على يد علمائهم، فإذا كان علماؤهم أهل جمود في العلم وابتداع في العمل فكذلك المسلمون يكونون. فإذا أردنا إصلاح المسلمين فلنصلح علماءهم.
ولن يصلح العلماء إلاّ إذا صلح تعليمهم. فالتعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته وما يستقبل من علمه لنفسه وغيره فإذا أردنا أن نصلح العلماء فلنصلح التعليم ونعني بالتعليم التعليم الذي يكون به المسلم عالماً من علماء الإسلام يأخذ عنه الناس دينهم ويقتدون به فيه.
ولن يصلح هذا التعليم إلاّ إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه في مادته وصورته فيما كان يعلم صلى الله عليه وآله وسلم وفي صورة تعليمه، فقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم أنّه قال:«إنّما بعثت معلما» (2)، فماذا كان يعلم وكيف كان يعلم.
كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم الناس دينهم من الإيمان والإسلام والإحسان كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في جبريل في الحديث المشهور: «هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم»
وكان يعلمهم هذا الدين بتلاوة القرآن عليهم كما قال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} . وبما بيَّنه لهم من قوله وفعله وسيرته وسلوكه في مجالس تعليمه وفي جميع أحواله فكان الناس يتعلمون دينهم بما يسمعون من كلام ربهم وما يتلقون من بيان نبيهم، وتنفيذه لما أوحى الله إليه وذلك البيان هو سنته التي كان عليها أصحابه والخلفاء الراشدون من بعده وبقية القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية من التابعين وأتباع التابعين.
وإذا رجعت إلى موطأ مالك سيد أتباع التابعين فإنّك تجده في بيان الدين قد بنى أمره على الآيات القرآنية وما صح عنده من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله، وما كان من عمل أصحابه الذي يأخذ منه ما استقر عليه الحال آخر حياته. لأنّهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمره. وكذلك إذا رجعت إلى كتاب الأمّ لتلميذ مالك الإمام الشافعي فإنّك تجده قد بنى فقهه على الكتاب وما ثبت عنده من السنة.
وهكذا كان التعلم والتعليم في القرون الفضلى مبناها على التفقه في القرآن والسنة، روى ابن عبد البر في الجامع عن الضحاك في قوله تعالى:{كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} ، قال الضحاك:"حق على كلّ من تعلم القرآن أن يكون فقيها". وروى عن عمر رضي الله عنه أنّه كتب إلى أبي موسى رضي الله عنه: "أمّا بعد فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية". وقال الإمام ابن حزم في كتاب الإحكام، وهو يتحدث عن السلف الصالح كيف كانوا يتعلمون
الدين: "كان أهل هذه القرون الفاضلة المحمودة -يعني القرون الثلاثة- يطلبون حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم والفقه في القرآن، ويرحلون في ذلك إلى البلاد فإن وجدوا حديثا عنه عليه السلام عملوا به واعتقدوه". ومن راجع كتاب العلم من صحيح البخاري ووقف على كتاب جامع العلم للإمام ابن عبد البر عصري ابن حزم وبلديه وصديقه، عرف من الشواهد على سيرتهم تلك شيئا كثيرا.
هذا هو التعليم الديني السني السلفي، فأين منه تعليمنا نحن اليوم وقبل اليوم، بل منذ قرون وقرون؟ فقد حصلنا على شهادة العالمية من جامع الزيتونة ونحن لم ندرس آية واحدة من كتاب الله، ولم يكن عندنا أي شوق أو أدنى رغبة في ذلك. ومن أين يكون لنا هذا ونحن لم نسمع من شيوخنا يوما منزلة القرآن من تعلم الدين والتفقه فيه، ولا منزلة السنة النبوية من ذلك. هذا في جامع الزيتونة فدع عنك الحديث عن غيره ممّا هو دونه بعديد المراحل.
فالعلماء -إلَاّ قليل منهم- أجانب أو كالأجانب من الكتاب والسنة من العلم فهما والتفقه فيهما. ومن فطن منهم لهذا الفساد التعليمي الذي باعد بينهم وبين العلم بالدين وحملهم وزرهم ووزر من في رعايتهم لا يستطيع -إذا كانت له همة ورغبة- أن يتدارك ذلك إلا في نفسه. أمّا تعليمه لغيره فإنّه لا يستطيع أن يخرج فيه عن المعتاد، الذي توارثه عن الآباء والأجداد رغم ما يعلم فيه من فساد وإفساد.
ونحن بعد أن بينَّا تعليم الدين من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن عمل السلف الصالح من أهل القرون الفاضلة المحمودة، ومنهم إمامنا إمام دار الهجرة مالك، فإنّنا عقدنا العزم على
إصلاح التعليم الديني في دروسنا حسب ما تبلغ إليه طاقتنا إن شاء الله تعالى. وسننشر ما يكون من ذلك في الجزء الآتي إن شاء الله عليه توكلنا وعليه فليتوكل المؤمنون (1).
-2 -
قد ذكرنا في المقال السابق ما كان عليه التعليم الديني في عهد السلف الصالح من التفقه في الدين بالتفقه في القرآن والأحاديث النبوية، وذكرنا الحالة التي انتهى إليها في عصرنا من هجر القرآن والسنة، والاقتصار على الفروع العلمية المنشرة دون استدلال، ولا تعليل، واستشهدنا على ذلك بحالتنا نحن أنفسنا لما أخذنا شهادة العالية من جامع الزيتونة- عمره الله- بدوام ذكره. ونريد أن نذكر اليوم أن هذا الإعراض عن ربط الفروع بأصولها ومعرفة مآخذها، هو داء قديم في هذا المغرب من أقصاه إلى أدناه، بل كان داء عضالا فيما هو أرقى من المغارب الثلاث وهو الأندلس. ونحن ننقل فيما يلي كلام إمامين عظيمين من أئمة الأندلس المتبعين لمالك رحمه الله.
قال الإمام عمر بن عبد البر المتوفى سنة 493هـ في (جامع بيان العلم وفضله): "واعلم أنه لم تكن مناظرة بين اثنين أو جماعة من السلف إلا لتفهم وجه الصواب، فيصار إليه ويعرف أصول القول وعلته، فيجري عليه أمثلته ونظائره، وعلى هذا الناس في كل بلد إلا عندنا كما شاء الله ربنا، وعند من سلك سبيلنا من أهل المغرب فإنهم لا يقيمون علة ولا يعرفون للقول وجها، وحسب أحدهم أن يقول فيها رواية لفلان، ورواية لفلان، ومن خالف عندهم الرواية التي لا يقف على
(1) ش: ج 11، م 10، ص 478 - 481 رجب 1353هـ - 10 أكتوبر 1934م.
معناها، وأصلها، وصحة وجهها، فكأنه خالف نص الكتاب وثابت السنة ويجيزون حمل الروايات المتضادة في الحلال والحرام، وذلك خلاف أصل مالك. وكم وكم لهم من خلاف في أصول مذهبه مما لو ذكرناه لطال الكتاب بذكره ولتقصيرهم في علم أصول مذهبهم، صار أحدهم إذا لقي مخالفا ممن يقول بقول أبي حنيفة أو الشافعي أو داوود ابن علي، أو غيرهم من الفقهاء وخالفه في أصل قوله بقي متحيرا ولم يكن عنده أكثر من حكاية قول صاحبه فقال: هكذا قال فلان، وهكذا روينا، ولجأ إلى أن يذكر فضل مالك ومنزلته، فإن عأرضه الآخر بذكر فضل إمامه أيضا صار في المثل كما قال الأول:
شكونا إليهم خراب العراق
…
فعابوا علينا شحوم البقر
فكانوا كما قيل فيما مضى
…
أريها السُّها وتريني القمر
وفي مثل ذلك يقول منذر بن سعيد البلوطي:
عذيري من قوم يقولون كلما
…
طلبت دليلا، هكذا قال مالك
فان عدت قالوا: هكذا قال أشهب
…
وقد كان لا تخفى عليه اسمالك
فان زدت قالوا: قال سحنون مثله
…
ومن لم يقل ما قاله فهو آفك
فإن قلت قال الله ضجوا وأكثروا
…
وقالوا جميعا: أنت قرن مماحك
وإن قلت قد قال الرسول فقولهم
…
أتت مالكا في ترك ذاك المسالك
هذا إمام من أئمة الإسلام العظام المجمع على إمامتهم وعدالتهم، ومن أعظم المتبعين لمالك الآخذين بمذهبه، وها هو يشكو مرَّ الشكوى مما كان عليه أهل بلدة الأندلس في القرن الخامس وينعي عليهم ما انفردوا به هم، وأهل الغرب من الجمود والتقليد، وحملهم للروايات المختلفة دون معرفة وجوهها، ومخالفتهم لأصل مذهب الإمام الذي ينتسبون إليه، وعدولهم عن النظر والاستدلال المأمور بهما كتابا وسنة المعمول بهما عند جميع الأئمة إلى الاحتجاج بفضل القائل
وعلمه، والاجماع على أنه قد يصيب المفضول، ويخطى الأفضل، ورحم الله عمر بن الخطاب في قوله:"امرأة أصابت ورجل أخطأ" واستشهد ابن عبد البر بأبيات القاضي منذر بن سعيد البلوطي المولود سنة 265 المتوفي سنة 355 - لتبيين قدم هذا الداء في الأندلس وشكوى العلماء الأعلام منه وإنكارهم على أهله.
وقال الإمام ابن العربي الأندلسي المتوفي سنة 543هـ في (العواصم) وهو يتحدث عن فقهاء عصره: "ثم حدثت حوادث لم يلقوها في منصوصات المالكية فنظروا فيها بغير علم فتاهوا: وجعل الخلف منهم يتبع في ذلك السلف، حتى آل المئال أن لا ينظر إلى قول مالك وكبراء أصحابه، ويقال قد قال في هذه المسألة أهل قرطبة وأهل طلمنكة وأهل طلبيرة وأهل طليطلة: فانتقلوا من المدينة وفقائها إلى طلبيرة وطريقها".
فهذا الإمام العظيم قد عاب عليهم نظرهم في الحوادث بغير علم لأن ما عندهم من الفروع المقطوعة عن الأصول لا يسمى علما ولما لم تكن عندهم الأصول تاهوا في الفروع المنتشرة ومحال أن يضبط الفروع من لم يعرف أصولها، وذكر ما أدَّاهم إليه إهمال النظر، من الانقطاع عن أقوال مالك نمسه، وأمثاله إلى أمثالهم من الفروعيين التائهين الناظرين بغير علم.
فإذا كان الحال هكذا من تلك الأيام في تلك الديار وقد مضت عليه القرون في هذه البلاد وغيرها فإن قلْعه عسير، والرجوع بالتعليم إلى التفقه في الكتاب والسنة وربط الفروع بالمآخذ والأدلة أعسر وأعسر، غير أن ذلك لا يمنعنا من السعي والعمل بصدق الرجاء وقوة الأمل، وسننفذه في دروسنا هذا العام والله المستعان (1).
(1) ش: ج12، م10، ص 518 - 521 غرة شعبان 1353هـ - نوفمبر 1934م.