الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إصلاح التعليم بجامع الزيتونة، عمره الله
قد علمنا أن إخواننا الزيتونيين طالبوا بالإصلاح منذ زمان، وسمعنا أن حكومة سمو الباي أجابت طلبهم وألفت لجنة لوضع مناهج الإصلاح المطلوب. ثم انقطعت أخبار تلك اللجنة مدة ليست بالقصيرة حتى حسبناها قد أصابها ما أصاب تلك اللجنة التي ألفت بالعبدلية لنشر الكتب القيمة، مثل رحلة العبدري، وشرعت في العمل بالتصحيح والمقابلة، ثم قضي عليها بالموت فلم نسمع حسيسها إلى اليوم. ثم عادت المطالبة بالإصلاح على ألسنة الصحف، وعاد الإعلان من طرف الإدارة ان اللجنة ما زالت حية وأنها جادة في عملها وما عليكم إلا الانتظار. واتصل الحديث على الإصلاح في الصحافة وقامت المناقشات الحادَّة بين الكتاب في وجوهه إلى أن بلغت إلى حد غير محمود، وكانت تلك المناقشات في الخارج كالصدى لما قام من الخلاف بين أعضاء اللجنة في الداخل، وقد أدت- ويا للمصاب- إلى صدع الوحدة الصحافية التونسية كما أدت إلى صدع بناء اللجنة الموقرة. فأصبنا بمصبتين اثنتين ولما نصل إلى النتيجة، فأما البلاء فكان معجلا وأما الإصلاح المطلوب فحظنا منه الانتظار، وليت شعري متى ينتهي هذا الانتظار؟ ومتى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه و (غيرك) يهدم. فكيف إذا كنت أنت تهدمه أيضاً؟ فما أعظم أسفنا- معشر الزيتونيين- مما آلت إليه الحال، وما أشد ألمنا من هذا التأخير والانتظار.
ثم لنا كلمة في بعض وجوه الإصلاح رأينا من واجبنا أن نقولها: إن جامع الزيتونة كلية دينية فلا يكون إصلاح التعليم فيه إلا على مراعاة هذا الوصف الذي هو أساسه وغايته، والرجال الذين يتخرجون
من هذا الجامع يقومون بخطط كلها دينية وهم أصناف ثلاثة: رجال القضاء والفتوى ورجال الإمامة والخطابة ورجال التعليم، ولكل خطة من هذه الخطط وسائل خاصة لتحصيل الكفاءة فيها والاضطلاع بها، إن من المعلوم أن ما يحتاج إليه القاضي والمفتي من سعة الاطلاع على الأحكام وتمام الخبرة بتطبيقها على النوازل غير ما يحتاج إليه الإمام الخطيب من القدرة على إنشاء الخطب وحسن المعالجة بها لأمراض وقتها وقوة التأثير بها على سامعيها المعالجين بها وغير ما يحتاج إليه المعلم من معرفة أساليب التفهيم، وفهم نفسية المتعلمين وحسن التنزل لهم والأخذ بأفهامهم إلى حيث يريد بهم، حسب درجتهم واستعدادهم.
فلهذا نرى أن أول عمل في الإصلاح هو تقسيم التعليم في الجامع إلى قسمين: قسم المشاركة وقسم التخصص.
فأما في قسم المشاركة فيتساوى فيه المتعلمون في المعلومات على طبقاتهم ويحصل الفائزون في الامتحان بعد تمام مدة التعلم التي لا تقل عن ثماني سنوات على شهادة عالم مشارك بدلا من لفظة (متطوع) فإنه لفظ مات معناه وذهبت قيمته بذهاب الوقت الذي وضع فيه والمناسبة التي اقتضته.
وأما قسم التخصص فيفرع إلى ثلاثة فروع: فرع للتخصص في القضاء والافتاء وفرع للتخصص في الخطابة وفرع للتخصص في التعليم. وبعد تمام المدة التي لا تقل عن أربع سنوات في فرع القضاء والافتاء، وعن سنتين في فرعي الخطابة والتعليم، ينال الفائزون في الامتحان شهادة التخصص بالعالية فيما فازوا فيه.
ثم إن المتعلمين في قسم الاشتراك يكونون من الحائزين على شهادة التخصص في التعليم وكذلك المعلمون في فرع التخصص للتعليم وأما المعلمون في فرع القضاء والفتوى فلا بد أن يكون ممن تخصصوا
فيهما وتخصصوا في التعليم وكذلك المعلمون في فرع الخطابة.
هذا رأينا في مسألة التقسيم، وأما مسألة الفنون وكيفية تعليمها فنرى أن يشتمل منهاج التعليم المشترك على اللغة والنحو والصرف والبيان، بتطبيق قواعد هده الفنون على الكلام الفصيح لتحصيل (1)، وأما قراءتها بلا تطبيق- كما الجاري به العمل اليوم- فهو تضييع وتعطيل وقلة تحصيل، وعلى تاريخ الأدب العربي وعلى تعلم الإنشاء وعلى تعلم حسن الأداء في القراءة وإلقاء الكلام وعلى العقائد. ويجب أن تؤخذ هي وأدلتها من آيات القرآن فإنها وافية بذلك كله، وأما إهمال آيات القرآن المشتملة على العقائد وأدلتها والذهاب مع تلك الأدلة الجافة فإنه من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وعلى الفقه ويجب أن يقتصر فيه على تقرير المسائل دون تشعباتها، ثم يترقى بهم إلى ذكر بعض أدلتها، وعلى أصول الفقه مسائل مجردة، ثم يترقى إلى تطبيقها على المسائل الفقهية لتحصل لهم من هذا ومن ذكر أدلة المسائل الفقهية كما تقدم ملكة النظر والاستدلال، وعلى التفسير ويكون بسرد تفسير الجلالين على المتعلم وهو يبين ما يحتاج للبيان. والمقصود من هذا أن يطلع المتعلم على التفسير بفهم المفردات وأصول المعاني بطريق الإجمال، وعلى الحديث بقراءة الأربعين وغيرها سردا على الطريقة المتقدمة في التفسير. وعلى دروس في التربية الأخلاقية يعتمد فيها على آيات وأحاديث وآثار السلف الصالح. وعلى التاريخ الإسلامي على وجه الاختصار، وعلى الحساب والجغرافية، بأقسامها، وعلى مبادئ الطبيعة والفلك والهندسة. وإذا لم يكن في الشيوخ المصممين من يقوم ببعض هذه العلوم فلنأت بأمثل إخواننا المطربشين من تونس أو من مصر إن اقتضى الحال ذلك.
(1) كذا في الأصل ولعله: لتحصيل الملكة.
وأما فرع القضاء والفتوى من قسم التخصص فيتوسع لهم في فقه المذهب ثم في الفقه العام وتكون (بداية المجتهد) من الكتب التي يدرسونها ويدرسون آيات وأحاديث الأحكام ويدرسون علم التوثيق ويتوسعون في علم الفرائض والحساب ويطلعون على مدارك المذاهب حتى يكونوا فقهاء إسلاميين ينظرون إلى الدنيا من مرآة الإسلام الواسعة لا من عين المذهب الضيقة.
وأما فرع الخطابة فيتوسم لهم في صناعة الإنشاء والاطلاع على أنواع الخطب ويدرسون آيات المواعظ والآداب وأحاديثهما، ويتوسعون في السيرة النبوية ونشرة الدعوة الإسلامية، ويمرنون على إلقاء الخطب الارتجالية.
وأما فرع التعليم فيتوسعون في العلوم التي يريدون التصدي لتعليمها مع تمرينهم على التعليم بالفعل ومدارستهم للكتب الموضوعة لفن التعليم.
هذه أصول ما نراه من كيفية الإصلاح بجامع الزيتونة المعمور. وهي وإن لم تكن وافية بالتفصيل فإنها كافية في مقام الأعمال، ولعل اللجنة الموقرة تعيرها التفاتا فتزنها بميزان العدل والإنصاف، فعساها واجدة فيها بعض ما يفيد (1).
عبد الحميد بن باديس
(1) ش: ج 10، م 7، ص 601 - 605 غرة جمادى الثانية 1355هـ - أكتوبر 1931م.