الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الشمال الأفريقي:
سياسة وخز الدبابيس
ــ
لا ننكر أننا من المعجبين بالآداب الفرنسية، ولا ننكر أننا مع المعجبين فوق ذلك بالصحافة الفرنسية الكبرى، وما لها من بديع نظام، ومهرة أقلام، وجرأة وإقدام، لهذا يؤلمنا ويزعجنا ويملأ أنفسنا حسرة وإشفاقا أن نرى الآداب الفرنسية وأن نرى الصحافة الفرنسية الكبرى تنحط أحيانا إلى دركة الهذر واللغو والسخافة، وتنغمس في حمأة التعصب الممقوت المظلم فتنكر على غيرها ما تستحسنه لنفسها، وتعتبر الفضيلة عندها رذيلة عند غيرها. ثم تلجأ فوق كل ذلك إلى باب الاختلاق والإفك والبهتان فتتهم الأبرياء وهي تعلم أنهم أبرياء، وتقلب الحقائق وهي تعلم أنها تقلب الحقائق، وما ذلك إلا خدمة لغايات انتفاعية، ودفاعا عن مصالح مادية لبعض الهيئات التي تغذي صناديق تلك الصحف الكبرى.
وهكذا يقع التدليس والتلبيس على الشعب الفرنسي، فيبقى بفضل صحافته الكبرى المتحاملة عن غرض أو عن استئجار، جاهلا حقيقة ما يجري بالبلاد المرتبطة مع وطنه ارتباطا وثيقا، غالطا في حكمه عليها، غير متصور حقيقة ميولها وعواطفها وآمالها وآلامها.
وكلامنا اليوم مع أم الصحف الباريسية الكبرى، العجوز الوقورة جريدة الطان. فقد سولت لها النفس الأمارة بالسوء أن تسود مقالا عن الجزائر والجزائريين بمناسبة الاجتماع الذي عقدته بباريس لجنة البحر المتوسط الجديدة، وهي التي تجمع نواب الوزارات ورجال الحكم في مستعمرات فرنسا وبلاد الحماية والانتداب، ومهمتها النظر
في المشاكل المشتركة التي تهم سياسة فرنسا الاستعمارية لكي تتوحد تلك السياسة وتسير في خطة متماثلة بكل الأقطار التي يخفق على أرضها العلم الذي يقولون أنه يمثل بأحمره وأبيضه وأزرقه الحرية والأخوة والمساواة.
فلتحريش أعضاء هذه اللجنة، ولحملهم على سلوك سياسة الشدة والعنف والجبروت مع الرجال الذين دانوا بطاعة فرنسا ما يزيد عن القرن، وسقطوا في كل ميادين القتال ألوفا مؤلفة حول رايتها، ولأجل غايتها، ولتشويه الحقائق والباس الحوادث غير لباسها الطبيعي، كتبت الطان مقالها المأسوف له والمتحسر عليه، ونشرته في عددها الصادر يوم 20 فيفري السالف.
فهي تقول وأنف الحقيقة راغم: أن المهيجين الذين هدأ فورانهم أثر زيارة مسيو ريني قد عادوا فجأة إلى ميدان الإثارة، ومن الممكن أن يقودوا الأمة إلى فاجعة كفاجعة قسنطينة المؤلمة.
فالدكتور ابن جلول يتهم كي جريدته (الانطانت) الإدارة الفرنسية بأنها تريد أن تغمر الجزائر في ميدان النار والدماء.
ويؤيده في هذا الطريق ابن باديس والطيب العقبي وهما على رأس جمعية العلماء التي لمت في نادي الترقي شمل الذين اتفقوا على نسف نفوذ فرنسا باستعمال شتى الطرق. وفي كل مكان نجد نشاط دعاة المذهب الوهابي وأعوان الجامعة العربية الذين يدينون بفكرة شكيب أرسلان، والذين يتلقون تعاليمه من لوزان على طريق القاهرة. ومن أهم مطالبهم حرية الوعظ في المساجد وحرية التعليم بدون مراقبة.
فمن ناحية يقع الحث على عدم دفع الضرائب. ومن ناحية أخرى تجمع الأموال الطائلة لشراء الديار زعم أنها تستعمل مراكر دينية، وأنها في الحقيقة تستعمل مركزا لتهذيب الناشئة تهذيبا إصلاحيا متعصبا.
ثم وقع استغلال موت الأمير خالد سليل الأمير عبد القادر، وقد توفي بدمشق فرقدت الدعوة لإقامة صلوات عمومية لاستنزال الرحمة على روحه.
وهنالك الشيوعية وهي لا تستدرج الناس باسم المذهب الشيوعي.
إنما تستدرجهم باسم المصالح المختلفة فتجذب إلى الحزب الشيوعي مستخدمي السكك الحديدية- وبرجال، المراسي والعملة. وجمعية كوكب شمال إفريقيا الشيوعية ترسل أفلاما سينمائية تظهر النظام الشيوعي في أبدع صوره. فناحية قسنطينة وتبسة وهي القريبة لتونس والتي يمكن للدعاة أن يتجولوا بسهولة بينها وبين البلاد التونسية، وناحية تلمسان، وهي مركز التعصب الديني الحاد، هما الناحيتان اللتان تحوم حولهما الريب بشدة واللتان سيدلي مسيو لودو عنهما ببيان أمام اللجنة العليا).
هذا كلام جريدة الطان.
ولقد كنا نمر كراما بهذا اللغو لو أنه صدر من صحيفة صغيرة، أو جريدة لا تمثل طبقة ممتازة من كبار الفرنسيين، أما وقد صدرت هذه الأقوال المستهجنة من صحيفة الطان، فالسكوت عنها يعد خوراً إن لم يعتبر جريمة.
فلنأخذ أقوال الطان من أولها، ولنعمل فيها معول الحقيقة- وللحقيقة معاول هدامة في بعض الأحيان- ولنقل نحن أقوالنا التي تخالف أقوالها على خط مستقيم. ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين.
نقول نحن أن الهيجان الذي تريد الطان أن تجعله موجوداً الآن بالجزائر، لا وجود له إلا في المخيلة المريضة المخروفة التي أملت ذلك الفصل. نعم هنالك استياء عمومي في طبقة الفلاحين الذين لم يجد أكثرهم من الإعانة الموعود بها إلا ما يجده الصادي في السراب. وهنالك استياء في الرأي العام عن إبطاء الإصلاحات الموعود بها والتي
أجمعت الأمة على المطالبة بها. وهنلك تذمر عمومي من الحالة الحاضرة سواء من ناحيتها السياسية أو من ناحيتها الدينية والاقتصادية.
إنما الهيجان الذي تصوره الطان كأنه الغول الهاجم لابتلاع الأرواح، إنما الهيجان التي (1) تقول بأنه سيكون من نوع حوادث قسنطينة المؤلمة، فذلك ما نفي (2) وقوعه بكل قوة وبكل شدة، ولن يكون إلا إذا عملت يد المحرشين الأجانب الأوربيين على إثارته وتهيئة أسبابه، خدمة لأغراضهم الخاصة. والرأي العام الإسلامي لا يتبع كل ناعق، ولا يقدم بسهولة مثل هذه الأعمال إلا إذا استثير وأمعن في استثارته ولم يبق في قوس صبره منزع.
ثم لنتول الدفاع متطوعين عن النواب وهم الأغنياء عن دفاعنا، فمتى كانوا مهيجين أو دعاة للفتنة والاضطراب، وهم الذين بحّت أصواتهم في المناداة بوجوب التآخي والتضامن مع الفرنسيين لأجل الإحراز على نفس الحقوق الفرنسية، بواسطة فرنسا وحدها، ولو بتضحية بعض الشخصية الإسلامية- وهذا ما لا نوافق عليه نحن- وأقوالهم أمام وزير الداخلية، وكتاباتهم كلها على هذا المنوال.
لكن هؤلاء السادة قد ألفوا منذ أمد طويل سياسة البني وي وي (3) أولئك الذين لم يرتفع لهم صوت ولم تنبس لهم شفة بكلمة في مجال الدفاع عن الحقوق. فإن هم سمعوا كلمة المتذمر وإن هم شاهدوا حركة المستاء، نادوا بالويل والثبور وقالوا أن هذه إلا حركات ضد فرنسا قد نضجت في القلوب وانفجرت بها الصدور.
(1) كذا في الأصل وصوابه: الذي
(2)
كذا في الأصل وصوابه: ننفي.
(3)
عبارة جارية فى الجزائر بمعنى الذين يوافقون على كل شيء يصدر من ساداتهم بكلمة نعم (وي).
ثم ما شأن جمعية العلماء في هذا الأمر؟ - إن سمحت الطان لنفسها بحشر ابن جلول في ميدان التهييج السياسي- وهو بريء منه- فالرجل على كل حال رجل سياسة، ويمكن مصادمته، ويستطيع النضال عن نفسه في هذا المدان. أما جمعية العلماء المسلمين وهي الدينية التهذيبية البحتة، وهي البعيدة كل البعد عن السياسة والسياسيين، وهي التي لا علاقة لها مع الشعب إلا في ميدان الإصلاح المديني والتهذيب الاجتماعي ورفع الأمية عن القوم، فما أسخف الطان وما أسخف ذوي السخائم الذين أملوا على الطان تلك الأقوال في شأنها.
هذه الجمعية جمعية العلماء صحفها منشورة، وأقوالها مأثورة، وأعمالها مشهورة، فليأت هلؤلاء الأفاكون بكلمة أو قول أو فعل يمكن به إتهام الجمعية أو أفراد الجمعية أو القائمين بأمر الجمعية بأنهم يعمدون إلى التهييج أو يعينون على التهييج- هذا إن فرضنا جدلا أن الهيجان موجود.
وإن طالبت الجمعية بإلقاء الوعظ في المساجد، فقدما كانت المساجد مفتوحة في وجه علمائها ودعاتها، وقدماً عقدت الجمعية مجالس الدعوة والإرشاد تحت رعاية ورئاسة رجال الحكومة والبلدية فهل يستطيع أحد من رجال- البوليس أو من رجال البلدية أو الحكومة الادعاء بأن الجمعية قد حادت ولو مرة واحدة في كل حياتها عن سلوك طريق الإرشاد العلمي الديني سواء بالمساجد أو المجتمعات العامة وإشارت على الناس ولو من طرف خفي بتأييد المهيجين وإعانة الهيجان؟
{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} !
ثم ما شأن الأمير شاكيب أرسلان، وما شأن الوهابية، وما شأن الجامعة العربية في كل هذا؟
إنهم يعلمون علم اليقين أنه ليس في الحركة الإصلاحية ولا في
الحركة السياسية في القطر الجزائري، من أصبع خارجي كيفما كان أمره ومهما كان مصدره، ولقد قامت لديهم الأدلة والبراهين على ذلك. وتالله لو أنهم وجدوا برهانا ولو ضعيفا على خلاف ذلك، ولو وجدوا حجة ولو واهية على وجود أي شيء من هذا القبيل، لكانوا قد بطشوا بنا قبل اليوم بطشا، ولكانوا قد محقوا هيأتنا من عالم الوجود، بعد محق أشخاصنا.
لكن ولاة الأمور قد علموا جلية الأمر، وتميز لهم خبيث القول من الطيب، وتأكدوا أن ليس في حركتنا الدينية ولا في الحركة السياسة من يد خارجية. وإننا لنتحداهم تحدي القوي المؤمن بحقه أن يأتونا- حكومة وأفرادا- بما يثبت للناس خلاف هذا. ونكون عندئذ محجوجين ويكون لهم الحق في كل ما يفعلون.
فان لم يفعلوا، ولن يفعلوا، فمثل هذه الأقوال التي لا قيمة لها، والتي لا يقصد بها إلا حشر أسماء مفزعة في ميدان البحث قصد التهويل والتهويش، ليست لها من قيمة أي قيمة، وإنها لتزيد الذي يأتي بها في حديثه سخفا على سخافته، وضعفا على ضعفه.
وقالت الطان: أننا نريد حرية التعليم دون مراقبة. لقد غلطت الطان وغلط الموعزون لها غلطا فاحشا. فنحن نطلب حرية التعليم العربي حقا، إنما نحن نقبل كل مراقبة، فأعمالنا العلمية والتهذيبية تقع علنا في وضح النهار وليس ما نخشاه ولا ما نكتمه. ولو تفضلت الطان وهيأتها الظاهرة والخفية بتعيين مراقب من قبلها للتعليم العربي الحر، لرحبنا به ولحبذنا تعيينه، ولأعقدنا أنه سيكون مقنعا لجريدته بفساد النظرية التي تدافغ عنها اليوم.
أما ما أشارت إليه الطان من أمر ابتياع الديار فإنهأ تقصد به الدار التي ابتاعتها جمعية التربية والتعليم، والتي قامت بفضل جهود
الأمة وتضحياتها المثمرة. فتالله لو أن كاتب الطان شاهد الأمة وهي تجود بما لديها من مال قليل، وشاهد تلك الدار وما تحتويه، لخجل من نفسه ولندم على قوله ولكفانا مؤونة الرد عليه
…
أسست فرنسا في بلادنا وأسست جمعياتها ميات الآلاف من المعاهد والديار التي من هذا القبيل. فقال قائلهم إن الفرنسيين لم يعملوا شيئا مذكورا في هذا الميدان، وطالبوا بالمزيد. ولم يتجاوز ما أسسه الجزائريون أربعة أو خمسة من هذه الديار، فأصبحت هذه الديار متهمة وأصبحت خطرا على المجتمع ونفوذ فرنسا، تؤكد للطان أننا نربد أن نخرج من هذه المعاهد ناشئة مهذبة تعمل جهدها لكي تكون بعيدة عن مثل هذا التعصب الممقوت.
ومن أعجب العجب استشهاد الطان الرصينة- عادة- على صحة أقوالها بالدعوة التي انتشرت في البلاد الجزائرية لإقامة الصلوات العامة أو حفلات الذكرى للأمير خالد رحمه الله.
فتا الله إن هذا لمؤلم، ومؤلم جد الألم.
إذا سلمنا لصحيفة الطان المرتبطة برجال الدين، أن تستهجن مسلكنا الديني، وإذا سمحنا لكتاب الطان الذين أشبعوا روح الحرية أن يقاوموا مطالبنا في الحرية، وإذا سمحنا للذين يدعون الموت في سبيل تحرير الشعوب أن يقاوموا أحراز هذا الشعب أي حق من حقوقه الضئيلة، إذا سمحنا مكرهين بكل هذا، فكيف نسمح لجريدة أمة أقامت في مختلف بلادها فوق الألف تمثل لتخليد ذكرى عظمائها في ميادين الحرب والسياسة والعلم والفن، أن تقاوم أمتنا عندما رأت أن تقيم- لا التماثيل- إنما صلوات عامة وابتتهال لله أن يتقبل خالد برحمته ورضوانه؟
حتى الاعتراف بالجميل، وحتى ذكر الموتى يجب أن ننساه لكي يرضى عنا هؤلاء السادة أصحاب المنطق المستقيم.
إسمعوا! إننا لن نرضيكم أبدا وإننا لن نعمل على إرضائكم. إننا لن نخشاكم أبدا ولن نعمل عملا يوقعنا تحت طائلة أيديكم. نحن سائرون على منهاجنا وفي طريقنا. لا يضرنا صراخكم ولا ينفعنا سكوتكم. فقولوا ما شئتم، فلن تنالوا منا منالا ولن نتزعزع عن عقيدتنا. إنما ننصحكم نصيحة خالصة أن لا تعودوا لمثل هذا العمل الممقوت، فسياسة وخز الدبابيس تنتهي غالبا بفقد الشعب لصبره، وإخراج الحليم عن حلمه. وإننا لنسد في أوجهكم هذا الباب إلا أن كسرتموه والأمر بعدئذ لله (1).
(1) ش ج 12، م 11 غرة ذي الحجة 1354هـ- مارس 1936م ص 680 إلى 686.