الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجنسية القومية والجنسية السياسية
تختلف الشعوب بمقوماتها ومميزاتها كما تختلف الأفراد. ولا بقاء لشعب إلا ببقاء مقوماته ومميزاته كالشأن في الأفراد. فالجنسية القومية هي مجموع تلك المقومات وتلك المميزات. وهذه المقومات والمميزات هي اللغة التي يعرب بها ويتأدب بآدابها، والعقيدة التي يبني حياته على أساسها، والذكريات التاريخية التي يعيش عليها وينظر لمستقبله من خلالها والشعور المشترك بينه وبين من يشاركه في هذه المقومات والمميزات.
والجنسية السياسية أن يكون لشعب ما لشعب آخر من حقوق مدنية واجتماعية وسياسية مثل ما كان عليه مثل ما على الآخر من واجبات اشتركا في القيام بها لظروف ومصالح ربطت ما بينهما.
ومن الممكن أن يدوم الاتحاد بين شعبين مختلفين في الجنسية القومية إذا تناصفا وتخالصا فيما ارتبطا به من الجنسية السياسية التي قضت بها الظروف واقتضتها المصلحة المشتركة.
فإذا لم يرتبطا بالجنسية السياسية فلا بد لهما- مهما طال الأمد- من أحد أمرين: إما أن يندمج أضعفهما في أقواهما بانسلاخه من مقوماته ومميزاته فينعدم من الوجود. وإما أن يبقى الضعيف محافظا على مقوماته ومميزاته فيؤول أمره- ولا بد- إلى الانفصال. وبعد فنحن الأمة الجزائرية لنا جميع المقومات والمميزات لجنسيتنا القومية وقد دلت تجارب الزمان والأصوال على أننا من أشد الناس محافظة على هذه الجنسية القومية وإننا ما زدنا على الزمان إلا قوة
فيها وتشبثا بأهدابها وأنه من المستحيل إضعافنا فيها فضلا عن إدماجنا أو محونا. أما من الناحية السياسية فقد قضى قانون- 1865 - باعتبارنا فرنسيين لكنه تفذ وينفذ تنفيذا جائرا فيفرض علينا جميع الواجبات الفرنسية دون حقوقها فكنا كما قال الشاعر:
وإذا تكون كريهة ادعي لها
…
وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
أو كما يقول مثلنا الدارج "وقت الدوا هاتوا بو نافع، وقت الشفا طيشوا الدرياس" صبرنا على هذا الحيف طويلا وعالجناه بما استطعنا مرات كثيرة من جهات عديدة حتى جاء الوقت الذي نفد فيه الصبر وأعيا العلاج فقلنا البيت الثاني من قول الشاعر المتقدم:
هَذَا وَجِدَّكُمُ الصِّغَارُ بِعَيْنِهِ
…
لَا أُمُّ لِي إِنْ دَامَ ذَاكَ وَلَا أَبُ
فنهضت الأمة نهضتها بمؤتمرها الفخم الجليل وقررت فيه بالإجماع "المحافظة التامة على المميزات الشخصية، والمطالبة بجميع الحقوق السياسية" وأدرك أقطاب الواجهة الشعبية أحقية هذا الطلب وأدركوا أن لا بقاء للأمة الجزائرية مرتبطة بفرنسا إلا إذا أعطيت حقوق الجنسية الفرنسية السياسية مع بقائها على جنسيتها القومية بجميع مميزاتها ومقوماتها فتقدموا لمجلس الأمة الفرنسي بالقانون المعروف اليوم ببروجي بلوم- فيوليط وتلقاه الذين يقدمون مصالحهم الفردية والاستعمارية على مصالح فرنسا الحقيقية بما هو معروف من معارضة بذية ظالمة منكرة وتلقته الأمة الجزائرية التي ترضى بالارتباط بفرنسا في حقوقها وواجباتها- وهي الجنسية السياسية- ما دامت محترمة في جنسيتها القومية وهي تلك المقومات والمميزات بشرط لا بد منه: وهو أن يكون التساوي تاما في جميع تلك الحقوق دون تخصيص لحق دون حق ولا تمييز لطبقة عن طبقة.
ولهذا اعتبرت بروجي بلوم- فيوليط قليلا جدا بالنسبة لحقوقها وإنما تقبله اليوم كخطوة أولى فقط يجب بعد تنفيذها أن يقع الاسراع في بقية الخطوات إلى تحقيق التساوي التام العام الذي هو الشرط الطبيعي في سنن الاجتماع في بقاء الارتباط بصفاء وإخلاص.
واذا لم يكن فلا عتب على الزمان، وما شاء الله كان.
إننا بكلامنا هذا نعرب عن فكر الأكثرية العظمى من الأمة الإسلامية الجزائرية. ونعلن أن هنالك من لا يرضيهم هذا ومن لهم نظرات أخرى لها حظها من الاعتبار. وإننا نتحقق أن الموقف الذي يقفه البرلمان الفرنسوي يوم تعرض عليه المسألة هو الذي يوجه الأمة الجزائرية إحدى الوجهتين فالمستقبل بيده. والأمر لله من قبل ومن بعد (1).
عبد الحميد بن باديس
(1) ش: ج 12، م 12 غرة ذي الحجة 1355هـ- فيفري 1637م.