الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النص التقريبي لكامل التقرير الأدبي
الذي ألقاه سماحة الأستاذ عبد الحميد بن باديس
بدار جمعية التربية والتعليم 1358هـ
يوم اجتماعها العام صبيحة الأحد 28 مايو 1939م
ــ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين أجمعين إلى يوم الدين.
أما بعد: فباسم جمعية التربية والتعليم الإسلامية أرحب بكم أيها المستمعون الكرام وأشكركم على تلبيتكم لنداء جمعيتكم الإسلامية الناهضة، وأهنئكم وأذكركم بأنكم كنتم منذ أربع سنوات خلت تجتمعون في محلات غيركم.
واليوم- والحمد لله- أصبحتم تجتمعون في داركم. ولقد كنتم ضعافا فقواكم الله، وعززكم ورفع شأنكم.
أولا تثقون بالله؟ إنكم بلا شك تثقون به، ومن وثق بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم. وإذا كنتم تثقون بالله فثقوا بأنفسكم، فإن من لم تكن له ثقة بنفسه لا تكون له ثقة بالله.
وإذا كنتم تثقون بأنفسكم فثقوا بنفوس مؤمنة صادقة. ولم لا نثق بأنفسشا؟ وقد أعطانا الله عقولا ندرك بها، ومواهب نستسخرها لما يرضي الله ورسوله. لنا مواهب مثل ما لغيرنا. ولنا من هذه القومية العربية الخالدة مثل ما لغيرنا. ولنا من هذا التاريخ الممتد البعيد مجد وملك مثل ما لغيرنا وفوق ما لغيرنا.
ولقد أعطانا الله من هذا الدين الإنساني من هذا الدين العقلي الروحي ما يكمل عقولنا، ويهذب أرواحنا. أعطانا منه ما لم يعطه لغيرنا، لنكون قادة وسادة. وأعطانا وطنا شاسعا واسعا، مثل ما لغيرنا فنحن إذن شعب ماجد عظيم يعتز بدينه، يعتز بلغته، يعتز بوطنه، يعتز بقوميته، يستطيع أن يكون في الرقي واحدا من هذه الشعوب، وأن يفوق كثيرا من هذه الشعوب. ولنا من تاريخه الحافل ما يجعلنا نؤمن بصدق معتقدنا فيه.
إننا نعتصم بالحق، ونعتصم بالتواضع عندما نقول: إننا شعب خالد ككثير من الشعوب. لكننا ننصف التاريخ إذا قلنا: إننا سبقناها في ميادين الحياة، سبقناها بهدايتنا، ونشرنا بينها الشريعة الحقة قبل أن تتكون هذه الأمم وسبقنا هذه الأمم في نشر الحق، أيام كانت في ظلمات من الجهل حالكة أيام كانت تسبح في لجج من الأوهام والخيالات. وذلك ما كنا فيه، وما سنعود إن شاء الله إليه، وإنما علينا أن نعرف تاريخنا، ومن عرف تاريخه جدير بأن يتخذ لنفسه منزلة لائقة به في هذا الوجود. ولا رابطة تربط ماضينا المجيد بحاضرنا الأغر والمستقبل السعيد، إلا هذا الحبل المتين: اللغة العربية، لغة الدين، لغة الجنس، لغة القومية، لغة الوطنية المغروسة.
إنها وحدة الرابطة بيننا وبين ماضينا وهي وحدها المقياس الذي نقيس به أرواحنا بأرواح أسلافنا، وبها يقيس من يأتي بعدنا من أبنائنا وأحفادنا الغر الميامين، أرواحهم بأرواحنا، وهي وحدها اللسان الذي نعتز به وهي الترجمان عما في القلب من عقائد وما في العقل من أفكار، وما في النفس من آلام وآمال. إن هذا اللسان العربي العزيز الذي خدم الدين، وخدم العلم، وخدم الانسان، هو الذي نتحدث عن محاسنه منذ زمان، ونعمل لإحيائه منذ سنين، فليحقق الله أمانينا.
وإن الذي يعلم تاريخ الجزائر الحديث يجزم بأن هذا الشعب شعب حي لن يموت. لقد كان هذا العبد يشاهد قبل عقد من السنين هذا القطر قريبا من الفناء، ليست له مدارس تعلمه، وليس له رجال يدافعون عنه، ويموتون عليه. بل كان في اضطراب دائم مستمر، ويا ليته كان في حالة هناء، وكان أبناؤنا يومئذ لا يذهبون إلا للمدارس الأجنبية، التي لا تعطبهم غالبا من العلم إلا ذلك الفُتات الذي يملأ أدمغتهم بالسفاسف حتى إذا خرجوا منها خرجوا جاهلين دينهم ولغتهم وقوميتهم وقد ينكرونها، هذه هي الحالة التي كنا عليها في تاريخنا الحديث. وما كنا لنرضى بها أو نبقى عليها وقد ولدتنا أمهات مسلمات جزاريات يأبين إلا أن نبقى كما ولدنا، وتأبى ثقافتنا إلا أن نرجع إلى ما عليه كنا. أخذنا نعمل وهناك من سبقنا في التفكير بالعمل وهم رجال نادي (صالح باي) رحمه الله ولا أقول كلهم- لم يكونوا يعملون بوحي من أنفسهم بل كانوا يعملون بإيعازات من غيرهم. فلما بلغ الموعزون وبعض الموعز إليهم إلى غايتهم انتهى كل شيء وماتت الجمعية وهي في المهد، ولم تؤسس أقل تأسيس وأصبحت نسياً منسياً، ومضى على ذلك حين من الدهر حتى جاء هؤلاء الذين يعملون العمل الخالص لوجه الله، فنضوا نهضة أوجدت ما أنتم ترون، من اشتراء محل عظيم للتربية والتعليم يضم الآن من التلاميذ والتلميذات نحو الثمانمائة، ويضم من الكبار المتعلمين ما يناهز الستين أو السبعين حسب أوقات عملهم الحيوي اللازم.
وأن فيها اليوم لمصنعا للنسيج، وقانون هذه الجمعية ينص عليه، وينص على تعليم العربية والفرنسية لأننا قوم نريد الحياة لأنفسنا كما نحبها لغيرنا، ونكره أن ندخل الضرر على أي كان غيرنا، كما لا نرضى أن يدخل علينا الضرر على أي كان غيرنا، ونحترم لغتنا ومجدنا كما نحترم لغة ومجد غيرنا. ولأننا قوم نحب الخير فلا نحرم
منه أحدا، وما فتحنا هذه المدرسة إلا لخدمة العلم وأهله، وتربية النشء وتثقيفه، وللجمعية نيات أخرى تنوي أن تقوم بها في المستقبل إن شاء الله. تنوي أن تبعث البعثات العلمية إلى الخارج، وتسعى جهدها في تحقيق ما ينص عليه قانونها الأساسي من تأسيس المصانع والملاجىء والمحلات العامة.
هذه لمحة مختصرة خاطفة ذكرتها لكم عن تاريخكم وتاريخ نهضتكم الجليلة أيها الإخوان، وأخيراً أشكركم وأشكر الله الذي هداكم، وأشكر كل من سعى في تحقيق أمنيتنا من رجال ونساء، كما أشكر القائمين من رجال الجمعية والمباشرين العمل والتعليم كما لا أنسى الحكيمين الإنسانيين (كتوار) و (عنالي) والسيدتين (مدام سبانو) و (مدام دوره) وأشكر الآنسة زريزر وهي فتاة مسلمة جزائربة أدت خدمات جليلة إلى الجمعية، أشكرهم جميعهم على ما قاموا به من جلائل الأعمال. ثم بعد هذا العرض السريع أرجو أن تذكروا دائما أن الهيأة القديمة في ظرف سنوات قامت بأعمال كبرى وأتمنى على الله أن لا تأتي المقبلة إلا وقد أسستم مصنعا للأعمال، أو ملجأ للأيتام، وأن مجلسا موفقا مثل مجلسكم هذا أوجد هذه الأعمال، لجدير من يخلفه بأن يوجد في القريب العاجل أكثر منها.
إنني ابتدأت حديثي بالثقة بالله والاعتماد على النفس وأختمه بهما، فثقوا بأنفسكم وثقوا بالله، واعتمدوا عليه وعلى أنفسكم واعملوا وكونوا خير خلف لخير سلف.
نقله من القاء الرئيس محمد الغسيري، ومحمد الصالح رمضان
البصائر: السنة 4، عدد 171 قسنطينه يوم الجمعة 5 جمادى الأولى 1358هـ الموافق ليوم 22 جوان 1939م، الصفحة 5، العمود: نصف الأول، والثانى والثالث والرابع من صفحة 6.