الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعطيل (السنة) وإصدار (الشريعة)
للأستاذ عبد الحميد بن باديس
رئيس جعية العلماء المسلمين الجزائريين
ــ
روعت الأمة بنبأ تعطيل جريدة "السنة" بقرار من وزارة الداخلية، وتقاطرت على الإدارة رسائل الاستياء والتعجب ولم يكن تعجب الناس من تعطيل جريدة دينية بعيدة كل البعد عن السياسة دون استيائهم من عرقلة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عن عملها الديني التهذيبي الذي ذاقت الأمة حلاوته وشاهدت جميل أثره.
أما نحن فقد شاركنا الأمة في الاستياء ولم نشاركها في التعجب، فقد كنا توعدنا بأشياء هذا التعطيل أحدها (1) فجاء ونحن له متوقعون: غير أن الذي نعحب منه نحن المباشرين لتسيير الجمعية هو التبدل العظيم والانقلاب السريع الذي شاهدناه من بعض الإدارات نحو الجمعية. لقد تجولت وفود الجمعية السنة الماضية في جميع جهات الوطن وألقى وعاظها خطبهم ودروسهم في المحافل العامة، وكثيرا ما كان يحضرها رجال من الحكام وكانوا يلقون من شيوخ البلدان الأميار وحكام الدوائر كل تعضيد وتقدير، وقابلنا بعد تمام الرحل إدارة الشؤون الوطنية بالعاصمة فلم نسمع على خطتنا أدنى إنكار ولم نتلمح أقل إشارة إلى ارتياب في الجمعية أو استثقال لأعمالها، فما الذي بدل العقول وحول النيات، وحمل بريفي العاصمة على ابتداء منازلة الجمعية بقراره المشهو وحمل تلك الإدارات على مناوأة الجمعية
(1) كذا في الأصل.
ومضايقة رجالها وعرقلة أعمالها حتى عطلوا جريدة السنة لغير ما سبب إلا أنها جريدة الجمعية ولسان حالها؟! هذا محل سؤالنا ومناط تعجبنا.
وبعد فما ينقم علينا الناقمون؟ أينقمون علينا تأسيس جمعية دينية إسلامية تهذيبية تعين فرنسا على تهذيب الشعب وترقيته ورفع مستواه إلى الدرجة اللالقة بسمعة فرنسا ومدنيتها وتربيتها للشعوب وتثقيفها؟ فإذا كان هذا ما ينقمون علينا فقد أساءوا إلى فرنسا قبل أن يسيئوا إلينا، وقد دلوا على رجعية فيهم وجمود لا يتناسبان مع المبادئ الجمهورية ولا مع حالة هذا العصر، أفتكون في الهند جمعيات للعلماء تقوم بأعمالها بغاية الحرية والهناء عشرات من السنين تحت السلطة الإنجليزية الغاشمة القاسية وتضيق صدوركم أنتم عن تكوين جمعية واحدة للعلماء المسلمين بالجزائر تحت المبادئ الجمهورية العادلة المشعة بعلومها على الأمم؟ تناهضوها وهي ما تزال في المهد؟ أفظننتم أن الأمة الجزائرية ذات التاريخ العظيم تقضي قرنا كاملا في حجر فرنسا المتمدنة ثم لا تنهض بجنب فرنسا تحت كنفها، يدها في يدها فتاة لها من الجمال والحيوية ما لكل فتاة انجبتها أو ربتها مثل تلك الأم؟ أخطأتم يا هؤلاء التقدير وأسأتم الظن بالمربي والمربى، وبعدتم عن العلم بسنن الكون في نهضات الأمم بعضها ببعض عند الاختلاط أو التجاور أو الترابط بشيء من روابط الاجتماع.
أنظروا شيئا إلى ما حواليكم من الأمم وتأملوا فيما تنادي به الشعوب وما تعلنه من مطالب، فإنكم إذا نظرتم وتأملتم حمدتم لهذه الجزائر الفتية نهضتها الهادئة، وتسمكها المتين بفرانسا، وارتباطها القوي بمبادئها وعدها نفسها جزءا منها وقصرها لطلبها منها على أن تعطى جميع حقوقها كما قامت بجميع واجباتها، وأن لا يتقدمها في أيام السلم من قد لا يساويها في أيام الحرب.
لا، لا أخالكم تنظرون ولا تتأملون فإن الأثرة المستولية على النفوس حجاب كثيف يحول دون رؤية الحقائق كما هي، ويحول دون رؤية مصلحة فرنسا الحقيقية نفسها. وإني لأفهم من مناهضتهم العجيبة للجمعية وهي جمعية دينية تهذيبية بعيدة عن كل سياسة، أنكم لا تريدون من الجزائر إلا أن تبقى جامدة وأن لا تتمتع بشيء من الحق إلا ما لا غناء فيه ولا بقي معه. ولعمر الحق أن من يريد هذا بالجزائر اليوم لمخالف للشريعة والطبيعة، إذ من الطبيعي أن تتحرك الجزائر ضمن الجمهورية الفرنسية في زمان تحرك ما فيه حتى الحجر، ومن الشرعي أن تنال منها من الحقوق كفاء ما قامت به من الواجبات.
استكثرتم على الجزائر أن تكون لها جمعية لها منزلتها العظيمة في قلبها، وجريدة لها قيمتها الكبيرة في نظرها؟ فنبشركم أنه سيكون للجزائر الفرنسية (1) جمعيات وصحف وسيكون لها وسيكون
…
حتى يقف المسلم الجزائري مع أخيه من بقية أبناء فرنسا على قدم المساواة الحقة التي يكون من أول ثمراتها الإتحاد الصحيح المنشود للجميع.
أم هالكم أن يكون في أبناء الجزائر الفرنسوية من لا يزحزحه عن مبدئه وعد ولا وعيد ولا يستهويه رنين ولا زخرفة؟ فنبشركم بأن الجزائر المفطورة على مبادئ الإسلام والتغذية بمبادئ فرنسا أنجبت وتنجب رجالا كما رأيتم وفوق ما تظنون، رجالا تفتخر بهم فرنسا كما تفتخر بسائر أبنائها الأحرار.
كونوا كما تشاؤون أيها السادة فلكم- وأنتم تمثلون ما تمثلون-
كل احترامنا، وظنوا بنا ما تشاؤون فإنا على بصيرة من أمرنا ويقين
(1) حسب تعبير الفرنسيين المستعمرين في ذلك العهده
من استقامة خطتنا ونيل غايتنا. ومهما تبدلت اعتقاداقنا في أناس بتبدل معاملاتهم لنا فلن تتبدل ثقتنا بفرنسا وقانونها (1).
وعلى خطتنا المستقيمة وهي نشر العلم والفضيلة ومقاومة الجهل والرذيلة. وعلى غايتنا النبيلة وهي تثقيف الشعب الجزائري المرتبط بفرنسا ورفع مستواها العقلي والخلقي والعملي إلى ما يليق بسمعة فرنسا.
وعلى ثقتنا بعدالة فرنسا، وحرية الأمة الفرنسية، وديموقراطيتها.
أسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأسست جريدة (السنة) المعطلة، وأسسنا اليوم (2) بدلها جريدة (الشريعة المطهرة) وستقوم - إن شاء الله- مقامها وتحل من القلوب محلها والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
عبد الحميد بن باديس
(1) هذا أسلوب سياسي استعمله ليحقق به أهدافه البعيدة.
(2)
يوم الاثنين، 2 ربيع الأول 1352هـ الموافق لـ 17 جويلية 1933م وجريدة الشريعه أسبوعية تصدر كل يوم اثنين، صدر منها ستة أعداد وآخر عدد صدر بتاريخ 29 ربيع الثاني 1352هـ الموافق لـ 21 أوت 1933م.