الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لمن أعيش
ملخص محاضرة ألقاها عبد الحميد على أعضاء
جمعية التربية والتعليم الإسلامية
ــ
أيها الأخوة:
ينبغي لكل قوم جمعهم عمل أن يفهم بعضهم بعضا كما ينبغي أن يفهموا العمل الذي هم متعاونون عليه ليكونوا في سيرهم على بصيرة من أنفسهم وعملهم. فقد يجتمع قوم على عمل مع اختلاف منازعهم فيأخذ كل واحد ليجذب إلى ناحية فتقع الخصومة ما بينهم وينقطع حبل عملهم وربما انتهى بهم الأمر إلى افتراق وعدوان. ولو أنهم في أول الأمر تفاهموا، لما تخاصموا.
فنحن - أيها الاخوة - الذين اجتمعنا على التربية والتعليم من معلم ومتعلم يجب علينا أن يفهم بعضنا بعضاً. والمعلم هو الذي يجب أن يفهمه المتعلمون ويفهمهم هو في نفسه لأنه هو الذي انتصب ليبث فيهم أفكاراً وأخلاقاً وآداباً وهو مؤثر عليهم أثراً ما لا محالة، فمن واجب نصحه لهم أن يفهمه في نفسه لينظروا في قبول التأثر به فيستمرون معه، وعدم قبوله فيفارقونه، وليكون من قبلوا واستمروا مجتمعين على شيء قد فهموه واتفقوا على البقاء فيه والتعاون عليه.
وأنا أظن نفسي مفهوما عند من يتصلون بي مثلكم ولو كان ذلك في زمن قليل لأنني ما فتئت أعلن عن فكرتي التي أعيش لها وغايتي التي أسعى إليها في كل مناسبة. واليوم - وقد كان تباين ما في بعض
من يتصلون بي- رأيت من الواجب أن ألقي عليكم هذا البيان مختصراً في سؤال وجواب ثم أقفّي عليه بشيء من الشرح والتفصيل:
س: لمن أعيش أنا؟
ج: أعيش للإسلام والجزائر.
قد يقول قائل: إنّ هذا ضيق في النظر، وتعصب للنفس، وقصور في العمل، وتقصير في النفع. فليس الإسلام وحده ديناً للبشرية، ولا الجزائر وحدها وطن الإنسان ولأوطان الإنسانية كلها حق على كل واحد من أبناء الإنسانية، ولكل دين من أديانها حقه من الاحترام.
فأقول: نعم إن خدمة الإنسانية في جميع شعوبها، والحدب عليها في جميع أوطانها، واحترامها في جميع مظاهر تفكيرها ونزعاتها، هو ما نقصده ونرمي إليه، ونعمل على تربيتنا وتربية من إلينا عليه، ولكن هذه الدائرة الإنسانية الواسعة ليس من السهل التوصل إلى خدمتها مباشرة ونفعها دون واسطة فوجب التفكير في الوسائل الموصلة إلى تحقيق هذه الخدمة وإيصال هذا النفع.
ونحن لما نظرنا في الإسلام وجدناه الدين الذي يحترم الإنسانية في جميع أجناسها فيقول: (17/ 70){وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ويقرر التساوي والأخوة بين جميع تلك الأجناس ويُبَيّن أنهم كانوا أجناساً للتمييز لا للتفضيل وأن التفاضل بالأعمال الصالحة فقط فيقول: (49/ 13){يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (3) ويدعو تلك الأجناس كلها إلى التعاطف والتراحم بما يجمعها من وحدة الأصل ووشائج القرابة القريبة والبعيدة فيقول: (4/ 1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}. ويقرر التضامن الإنساني العام بأنَّ الإحسان إلى واحد إحسان إلى الجميع، والإساءة إلى واحد اساء (1) إلى الجميع فيقول:(5/ 35){مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} . ويعترف بالأديان الأخرى ويحترمها ويسلِّم أمر التصرف فيها لأهلها فيقول: (109/ 6){لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} . ويقرر شرائع الأمم ويهون عليها شأن الاختلاف ويدعوها كلها إلى التسابق في الخيرات فيقول: (5/ 15){لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} . ويأمر بالعدل العام مع العدو والصديق فيقول: (5/ 9){وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} . ويحرم الاعتداء تحريماً عاماً على البغيض والحبيب فيقول: (5/ 3){وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} . ويأمر بالإحسان العام فيقول: (16/ 90){إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} . ويأمر بحسن التخاطب العام فيقول: (2/ 83){وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} .
(1) كذا في الأصل الصواب: اساءة.
فلما عرفنا هذا وأكثر من هذا في الإسلام - وهو الدين الذي فطرنا عليه الله بفضله - علمنا أنه دين الإنسانية الذي لا نجاة لها ولا سعادة إلا به، وأن خدمتها لا تكون إلا على
أصوله، وأن إيصال النفع إليها لا يكون إلا من طريقه، فعاهدنا الله على أن نقف حياتنا على خدمته ونشر هدايته، وخدمة كل ما هو بسبيله ومن ناحيته. فإذا عشت له فإني أعيش للإنسانية لخيرها وسعادتها، في جميع أجناسها وأوطانها، وفي جميع مظاهر عاطفتها وتفكيرها، وما كنا لنكون هكذا إلا بالإسلام الذي ندين به ونعيش له ونعمل من أجله.
فهذا - أيها الإخوان - معنى قولي: ((إنني أعيش للإسلام)).
أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص، وتفرض عليَّ تلك الروابط لأجله- كجزء منه- فروضا خاصة، وأنا أشعر بأن كل مقوماتي الشخصية مستمدة منه مباشرة. فأرى من الواجب أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة. وكما أنني كلما أردت أن أعمل عملا وجدتني في حاجة إليه: إلى رجاله وإلى ماله وإلى حاله وإلى آلامه وإلى آماله، كذلك أجدني إذا عملت قد خدمت بعملي ناحية أو أكثر مما كنت في حاجة إليه. هكذا هذا الاتصال المباشر أجده بيني وبين وطني الخاص في كل حال وفي جميع الأعمال. وأحسب أن كل ابن وطن يعمل لوطنه لا بد أن يجد نفسه مع وطنه الخاص في مثل هذه المباشرة وهذا الاتصال.
نعم إن لنا وراء هذا الوطن الخاص أوطانا أخرى عزيزة علينا هي دائما منا على بال، ونحن فيما نعمل لوطننا الخاص نعتقد أنه لا بد أن نكون قد خدمناها، وأوصلنا إليها النفع والخير من طريق خدمتنا لوطننا الخاص.
وأقرب هذا (1) الأوطان إلينا هو المغرب الأدنى والمغرب الأقصى اللذان ما هما والمغرب الأوسط إلا وطن واحد لغة وعقيدة وآداباً وأخلاقاً وتاريخا ومصلحة ثم الوطن العربي والإسلامي ثم وطن الإنسانية العام.
ولن نستطيع أن نؤدي خدمة مثمرة لشيء من هذه كلها إلا إذا خدمنا الجزائر. وما مثلنا في وطننا الخاص - وكل ذي وطن خاص - إلا كمثل جماعة ذوي بيوت من قرية واحدة. فبخدمة كل واحد لبيته تتكون من مجموع البيوت قرية سعيدة راقية. ومن ضيع بيته فهو لما سواها أضيع. وبقدر قيام كل واحد بأمر بيته تترقى القرية وتسعد، وبقدر إهمال كل واحد لبيته تشقى القرية وتنحط.
فنحن إذا كنا نخدم الجزائر فلسنا نخدمها على حساب غيرها ولا للاضرار بسواها - معاذ الله - ولكن لننفعها وننفع ما اتصل بها من أوطانٍ الأقرب فالأقرب.
هذا - أيها الإخوان - هو مرادي، بقولي:«أنني أعيش للجزائر» .
والآن - أيها الإخوان - وقد فهمتموني وعرفتم سمو فكرة العيش للإسلام والجزائر فهل تعيشون مثلي للإسلام والجزائر؟
نعم! نعم! بصوت واحد.
فلنقل كلنا: ليحيي الإسلام! لتحيا الجزائر (2).
(1) كذا فى الأصل.
(2)
ش: ج 10، م 12، ص 424 - 428 غرة شوال 1355هـ- جانفى 1937م.