الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وشعرت لكرامتها، وأخذت تذكر ماضيها أيام حريتها واستقلالها، وهو غير بعيد في الماضي عنها، فانبعثت تعمل لفك قيودها ونيل حريتها وتبوء منزلتها اللائقة بها كسائر الأمم التي ليست هي- في قوميتها وتاريخها- دونها. غير أنها تريد أن تكون مع فرانسا وتكون فرانسا معها كأستاذ نصوح وتلميذ بار يتبادلان الصداقة والاحترام ويتعاونان في الرخاء والشدة.
هذا- لعمر الله- هو حقيقة نفسية هذه الشعوب، وهذا هو سبب ثورتها على الظلم وإبايتها من استمرار الحال على ما كان.
وما من علاج بعد هذا- والله- إلا تبديل السياسة العتيقة الرثة البالية بسياسة جديدة تعترف لهذه الشعوب بكيانها القومي، وتفسح أمامها مجال العمل للتقدم والرقي، وتنيلها أعظم قسط من التحرير، وتشعرها بأنها تساندها لتبلغ رشدها، فتكون بدورها يوم رشدها التام عضدا- وأي عضد- لها.
فهل يستطيع الساسة هذا العلاج!
نحن الجزائر:
فإذا أرادت فرنسا أن تحافظ عليها فلتحافظ على قلوبنا:
يكتنف الجزائر اليوم- وأختيها كذلك- خطران عظيمان: موسوليني من شرقها وفرانكو من غربها .. يحيط بها هذان الخطران وتضطرب أمواج البحر الأبيض المتوسط بغواصاتهما، وتدوي جوانب أجوائه بأزيز طياراتهما، وتحتل قواتهما مراكز الحياة من أحشائه، حتى أصبح الذي يريد أن يمتطي متنه في باخرة، أو يتبطن جوه في طيارة، يشعر بالخوف من مبارحته ساحل الجزائر إلى حلوله بساحل مرسيليا.
وقد صرح نواب فرانسوي الجزائر الراديكاليين في المؤتمر الراديكالي المنعقد أخيرا بأنهم ما قطعوا البحر الأبيض المتوسط لحضور المؤتمر إلا تحت رحمة الغواصات والطيارات وأنهم وجلون هلعون من مستقبل اتصال شمال إفريقيا بفرنسا وخائفون أشد الخوف من انفصاله عنها.
وقد ابتدأ هذا الانفصال بانقطاع البريد الجوي بينهما.
هذا كله بعد ما أنفقت فرانسا وانكلترا- سيدة البحار! - على حماية طرق المواصلات، وجمعتا مجلسا حربياً لذلك، وإشرتا تلك الحماية بالفعل، وخابتا فيها خيبة ظاهرة لا تخفى على أحد. فقد غرقت بعد تلك الحماية بواخر وانتقلت قرصنة المدنية الأوروبية من البحر إلى الجو وجمعت على البشرية البلاء من السماء والأرض: وكان في القرصنة الجوية الجديدة الجواب الخشن والتحذير الحازم من جبروت الفاشيزم إلى الدولتين الديموقراطيتين المتعاونتين.
حقيقة أن هذا شيء اضطربت له فرائص فرانسا على اختلاف أحزابها وحسبت له ألف حساب. خصوصا وكل أحد يعلم أن الحرب آتية من دون ريب وأن ميدانها هو البحر الأبيض المتوسط وأن أول ما يعمله أعداء فرانسا هو فصل الشمال الافريقي عنها.
والذين يعرفون مقدار ما انتفعت به فرانسا من الشمال الافريقي في الحرب الماضية، يعلمون ما يلحقها من أضرار بانفصاله عنها في الحرب الآتية.
كيف تقاوم فرنسا محاولة العدو للفصل؟ وكيف تستطيع المحافظة على الجزائر- وعلى الشمال الافريقي- إذا تم ذلك الفصل!
أما فرانسويو الاستعمار بالجزائر والذين يستخدمون فرانسا لتفوقهم ودوام عتوهم وتسلطهم، ولا تهمهم فرنسا بقدر ما تهمهم مصالحهم،
فهؤلاء قد شغلهم التفكير في وسائل الضغط والشدة ضد الجزائريين - وإخوانهم- عن كل تفكير آخر رغم مشاهدتهم لهذا الخطر واضطرابهم له.
وأما الرجال المسؤولون فلا شك أنهم مهتمون الاهتمام كله بمقاومة ذلك الفصل وبالمحافظة على الجزائر- وأختيها- إذا وقع. غير أننا- والعجب ملء أنفسنا- لا نسمع في الخارج إلا ما يوافق- في الأكثر- نظرية أولئك الرجعيين الاستعماريين الذين أعمتهم مصالحهم الخاصة عن كل شيء حتى كأن السياسة الفرنسية كلها انصبغت بصبغتهم وأصبحت تحت تأثيرهم!
فهم يذكرون لزوم المحافظة على الجزائر ووسائل المحافظة على الجزائر، ولا يذكرون- أبدا- المحافظة على الجزائر ووسائل المحافظة على الجزائريين بل لا يفتؤون يذكرون الشدة على الجزائريين ووسائل الشدة على الجزائريين.
أين أنتم أيها السادة؟
نحن الجزائر، وما الجزائر إلا الجزائريون، فإذا كنتم تريدون المحافظة على الجزائر فحافظوا على قلوبنا.
تالله إذا ضيعتم قلوبنا فقد ضيعتم الجزائر ولا محالة، ولا ينفعكم في ذلك اليوم العصيب شيء مما تقدرون اليوم.
ما يزال في الوقت متسع لتدارك الحال وجبر القلوب والعمل لمصلحة فرانسا العليا إن كنتم حقيقة لها تعملون (1).
(1) ش: ج 9، م 13، ص 398 - 406 غرة رمضان 1356هـ- نوفمبر 1937م.