الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حول كلمتنا الصريحة
لقد أحدثت الكلمة الصريحة التي نشرناها بالعدد الاسبق من الشهاب أثرها المطلوب، وكان لها الدوي العظيم الذي كنا نتوقعه لها. فتلك كانت أول مرة فيما نعلم، جوبهت فيها الحكومة وجوبه فيها رجال السياسة بحقيقة ناصحة، هي عين الحقيقة التي تعتقدها الأمة، وفيها بيان لعواطف وإحساس وشعور الأغلبية المطلقة من سكان هذا الوطن الجزائري.
فأما الذين طهرت سريرتهم وخلصت نيتهم، فقد حبذوا خطتنا وشكروا لنا صراحتنا، وحمدوا لنا هذا الموقف الذي وقفناه ضد محاولات التجنيس الخائبة، ومحاولات هدم القومية واللغة والدين المجرمة، إذ بينا في جلاء ووضوح أننا مع احترامنا للسلطة الفرنسية، وإطاعتنا لقوانين الجمهورية، نريد ونستطيع أن نحافظ على ذاتيتنا الخاصة، وما فيها من مميزات اللغة والدين والإخلاص والثقافة ولا نريد بأي حال من الأحوال ولا نستطيع أن ننسلخ طوعا واختيارا أو كرها وجبرا على تلك الذاتية، وما فيها من مميزات، وما لها من حقوق.
وأما الذين في قلوبهم مرض، والذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وأنكروا ما لهذه الأمة من مجد، وما لها من تاريخ، وما لها من روابط تجعل منها أمة متحدة ومتجانسة لها من الاتحاد والتجانس ما لأكثر الأمم تجانسا واتحادا في كل بلاد الأرض فأولئك قوم فزعوا من مقالنا كما تفزع الخفافيش عندما ينبثق نور الفجر، ومنهم من انتقد ومنهم من رد، ومنهم من أفحش وأقذع، وأن إلى الأمة التي أنكروها إيابهم، وأن عليها- مهما تجاهلوها- حسابهم.
إن كلمتنا الصريحة قد وضعت الكثير من الرجال على المحك، فمنهم من ظهرت نفسه من در مكنون، ومنهم من انطوت جوانبه على حمأ مسنون.
وإنا لنشهد أن من أكمل الرجال الذين رأينا فيهم بهذه المناسبة، الهمة الحالية، وشرف النفس، وطهارة الضمير، الأستاذ فرحات عباس الصيدلي، والعضو البلدي والعمالي بسطيف.
كان هذا الرجل الأبي من أهدافنا في مقالنا (كلمة صريحة) وهو الذي آخذناه عن مقاله (فرنسا هي أنا) وقلنا له ولمن معه إنكم عندما تسمعون لسياسة الاندماج، وتحبذون التجنيس، وترضون ضياع حقوقنا الإسلامية مقابل حق الانتخاب، وتريدون- خلافا للطبيعة- أن يصير جمهور المسلمين بهذه البلاد جمهورا فرنسيا بحتا، لا يختلف عن الجماهير الفرنسية في شيء، إنكم عندما تسعون وتحبذون هذا لا تمثلوننا ولا تتكلمون باسمنا، وإنكم في واد والأمة في واد آخر.
فالسيد فرحات عباس، لم يتألم ولم يتكدر، وسلك مسلك كبار رجال السياسة الذين يحبذون النقد وينصاعون لكلمة الحق، فزار إدارة الشهاب، وأكد لها تقديره لجهودها، وجرت له مع صاحب الشهاب محادثة دلت على سمو أدبه وعلو كعبه في عالم السياسة والتفكير.
ثم نشر مقالا في جريدة (لا ديفانس)(1) الصادقة الثابتة الجسورة، يبين فيه نظريته، ويشرح فيه فكرته الاجتماعية التي بنى عليها سلوكه السياسي، وسيجد قراؤنا تعريب هذا المقال إثر فصلنا هذا.
ولقد تولت بعض الدوائر مهاجمتنا، مستترة وراء جريدة النجاح، ووراء ورقة تدعى (صدى الصحافة الإسلامية)، ولقد كنا ننتظر من تلك الدوائر التي هاجمتنا، مناقشة هادئة تتناسب مع وقارها، وكنا
(1) La défense: الدفاع يصدرها المرحوم الأمين العمودي.
ننتظر منها نضالا بأسلحة حادة، لكن خاب أملنا في الأمرين. فالمناقشة كانت صبيانية الشكل والموضوع، والأسلحة كانت عتيقة مفلولة أبلتها كثرة الاستعمال.
فأما السلاح الذي استعمل ضدنا في النجاح فهو أسئلة وضعها رجل كبير، وأمضاها رجل صغير وقد حسب الذين قدموا لنا هذه الأسئلة أنهم يحرجوننا بوضع البحث فوق ميدان الاستقلال، كأننا قد رفعنا علم العصيان، ونادينا بفصل الجزائر عن فرنسا من الآن.
فهو يسألنا أولا: متى كانت حدود الجزائر على ما هي عليه الآن؟ وإننا نجيبه لنفرض أن حدود الجزائر لم ترسم على صفتها الحالية شرقا وغربا إلا منذ نحو مائة عام، فهل له أن يجيبنا متى كانت حدود فرنسا وألمانيا وإيطالبا والنمسا والمجر ورومانيا ويوغوسلافيا واليونان وبلغاريا كما هي الآن؟ وهل لم تتغير المرات العديدة خلال هذه المائة عام؟
ثم يسألنا: متى كانت بلاد الجزائر مستقلة؟ ونحن نقول له: إن ضربنا صفحا عن الدول الإسلامية المستقلة التي نشأت وازدهرت بالقطر الجزائري، وسلمنا بأن القطر الجزائري بصفته الحالية لم يكن مستقلا في وقت من الأوقات، فهل لحضرة السائل أن يجيبنا: متى كانت دولة تشيكوسلوفاكيا مستقلة؟ وإلى أي عهد يرجع استقلالها؟
ويسألنا أخيرا، ما هي وحدة اللغة التي تكلمنا عنها في كلمتنا الصريحة، فهل هي اللغة العربية، والحال ليس كذلك، كما يقول، أم ماذا؟
فهل نستطيع أن نجيبه بأن لغة هذا الوطن ليست عربية بدليل أن جريدة النجاح تنشر بلغة الصين، وأن الجريدة الرسمية الحكومية تنشر إلى جانب نسختها الفرنسية نسخة بلغة النبط والكلدانيين؟ أم نقول له أن الواقع يثبت بأنه لا يوجد في أرض الجزائر إلا واحد في المائة
فقط من السكان المسلمين لا يتكلم العربية. ثم نسأله: هل لا توجد في فرنسا إلى جانب اللغة الرسمية الفرنسية لغات أخرى ذات آداب ولها صحف سيارة ويتكلمها الملايين من الناس، وخاصة بالألزاس، وبجهات الفلاندر، وببلاد ابروتانيا التي يقوم أهلها بحملة تكاد تكون ثورية لإجبار الحكومة على تعليم لغتهم بالمدارس، وببلاد البروفانس، وضواحي مرسيليا، وبجزيرة كورسيكا؟
وهل توجد وحدة اللغة، كما توجد بالقطر الجزائري، في رومانيا، ويوغوسلافيا، وتشيكوسلوفاكيا إن لم نتكلم إلا عن هذه البلاد؟
وأما السلاح الذي استعمل ضدنا بصدى الصحافة الأهلية، والذي خرج من معمل جريدة الهك القديمة وكتب بأقلام محرريها، ونحن لا نشرِّفهم بذكر اسمهم، احهتقارا لا جهلا، فهو ذلك الشتم البذيء الرقيع، سلاح الأسافل العاجزين، فصاحب الشهاب عند أولئك السادة: أحمق. مجنون، أخرق، جاهل غبي، مجرم، وهو بوحماره الخارجي الذي أثار إفريقيا قصد تأسيس دولة فوق الخرائب، ولم يتورع الكاتب شلت يمينه عن نبش قبر عبد المؤمن بن علي قدس الله روحه، لتبشيع سياسته والحط بكرامته.
ثم يصف ذلك الكاتب الأمة الجزائرية بكل أوصاف الجهل والفوضى، والتهديم والتخريب، حتى ليكاد الإنسان يعتقد أن ذلك الرجل الذي استؤجر لينال منا، إنما استؤجر لكي يقول للناس في العالم أجمع: أنطروا كيف أصبحت حالة المسلمين الجزائريين بعد أن حكمت فرنسا بلادهم نيفاً ومائة من السنين!
ولو كنا نستطيع أن ننحطَّ إلى تلك الدركة السافلة، ونجاري أولئك المحررين- في أسلوبهم لقلنا لهم إنهم أنذال، سفهاء ليس لهم ضمير، ولا يعرفون شهامة ولا كرامة. لكننا لا نقول لهم هذا، ولا
نوجه لهم أمثال هذا الكلام، فلنا من آدابنا الإسلامية، ولنا مع شهامتنا العربية ما يمنعنا عن الانغماس في مستنقهم النتن.
فدعهم هم والذين يملون عليهم تلك السخافات الرقيعة، يقفون أمام الرأي العام بهذه البلاد، ولننظر كيف يكون حكمه عليهم قاسيا أليما.
إننا أكدنا في (الكلمة الصريحة) رغبتنا في الاحتفاظ بكياننا العربي الإسلامي، فوق أرض هي أرض آبائنا وأجدادنا، مع أحترامنا التام للسلطة وخضوعنا لقوانين البلاد.
لكن خصومنا، كما قلنا آنفا، أرادوا أن يفهموا من كلامنا أننا نريد الاستقلال ورأوا أنهم يحرجوننا إذا وضعوا البحث على بساط الاستقلال. حتى إذا زل بنا القدم فوق هذا البساط الأملس استنزلوا علينا نقمة الحكومة وطلبوا أن نعامل معاملة الثائرين المهيجين، وأن نذهب (1) ضحية قوانين روني وما سبقها.
لكن خابت آمالهم، فنحن قوم لا نتأخر عن الخوض في مثل هذه الميادين، وأنهم لا يزعجوننا أن جرونا للبحث في مسألة الاستقلال.
إن الاستقلال حق طبيعي لكل أمة من أمم الدنيا. وقد استقلت أمم كانت دوننا في القوة والعلم والمنعة والحضارة، ولسنا من الذين يدعون علم الغيب مع الله ويقولون أن حالة الجزائر الحاضرة ستدوم إلى الأبد. فكما تقلبت الجزائر مع التاريخ فمن الممكن أنها تزداد تقلبا مع التاريخ. وليس من العسير بل إنه من الممكن أن يأتي يوم تبلغ فيه الجزائر درجة عالية من الرقي المادي والأدبي، وتتغير فيه السياسة الاستعمارية عامة والفرنسية خاصة، وتسلك فرنسا مع الجزائر مسلك
(1) في الأصل: ننهب.