الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التسامح الإسلامي:
نظر المسلمين إلى غير المسلمين
ونظر غيرهم إليهم
ــ
يقرر الإسلام بطلان سائر الملل وأن لا دين عند الله إلا الإسلام. ويعرض ذلك في بيان من الاحتجاج والاستدلال على ما انبنى عليه الإسلام من الحق وما جاء به للبشرية من الخير، وعلى ما انبنت عليه الملل الأخرى من الباطل أو ما أدخل عليها منه وما أصيبت به كتبها من الضياع والتحريف حتى يكون المسلم على بينة ويقين فيما أخذ من حق وما رد من باطل، وحتى يمتليء قلبه بمحبة الإسلام والاطمئنان إليه، وبالكره لغيره والنفرة منه، فهو يكره أن يعود إلى الكفر بعد الإسلام كما يكره أن يقذف في النار.
ومن شأن البشر أنهم إذا كرهوا الشيء كرهوا أهله والمنتمين إليه، ودفعهم ذلك الكره إلى مدِّ يد العدوان إلى ذلك الشيء المكروه وأهله، فأوقعوا به وبهم أنواع الأذى والظلم، وإذا لم يستطيعوا مد أيديهم لذلك بقيت صدورهم تتأجج بنيران الحقد والبغضاء وصارت أفواههم فوهات لتلك البراكين تقذف بالحمم والنيران، بالشتيمة والاستنقاص، وما يؤرج تلك الضغائن والأحقاد.
هذا هو حال البشر إذا تركوا سجيتهم الحيوانية دون أن يبصَّروا بسنن الله في الخلق وحكمته في أخلاقهم وحكمه العادل بما لكل منهم من الحق في الحياة على ما اختار لنفسه من دين.
وهكذا مضت الأحقاب على البشرية ورؤساء كل ملة يذكون تلك السجية الحيوانية في الإنسان ويوقعون بين أفراده وأممه بسبب ذلك
الحقد الديني والتعصب على المخالف أنواعا من الشرور والبلايا والفتن تشيب من هولها الولدان حتى جاء الإسلام ينشر راية التسامح العام ويقلع جذور الحقد الديني من قلوب متبعيه ويكفهم عن التعصب على المخالف لهم في الدين.
قرر الإسلام محبة الإسلام في قلوب المسلمين وكره ما سواه ولكنه بيَّن لهم أنه كره يحملهم على مجانبة عقائد غير الإسلام وأعماله التي أبطلها الإسلام دون أن يحملوا حقدا على مخالفيهم أو يمسوهم بأذى من سب أو تحقير لهم أو لمعتقداتهم، أو يكرهوهم على شيء من الدين.
لأجل أن يقتلع الإسلام جذور الحقد الديني والتعصب على المخالف من قلوب اتباعه ويزرع فيها التسامح- عرفهم أن اختلاف الأمم وتباينهم في نحلهم هو بمشيئة الله وما كانت مشيئته إلا حكمة وصوابا فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} . {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} وعرفهم بوجه الحكمة في هذا الاختلاف وهي أن تباين أعمالهم بتباين مشاربهم ومداركهم مما هو ضروري لنمو العمران وتقدم الانسان وظهور حقائق الأفراد والأمم بالابتلاء والاختبار فيما أوتيت من عقول وإرادات وقوى وأعمال. فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} ثم أقر المخالفين على ما ينتحلون ويعتبرونه دينا وسماه دينا وحكم بأن يترك لهم فقال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وأقر معابدهم وذكرها بما يقتضي وجوب احترامها بما يذكر فيها من اسم الله وقرنها بالمساجد تأكيداً لذلك الاحترام فقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} وأقر كتبهم لهم وسماهم أهل الكتاب وأقر ما يعملونه من دينهم وسماه عملا فقال: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} وأقر أحكامهم فيما بينهم ومنع من التعرض لهم إلا إذا جاءوا بطوعهم واختيارهم متحاكمين إلى الإسلام فقال: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} .
فأنت ترى كيف أبقى لهم الإسلام كل كيانهم الديني وجميع مقوماته وأحاط دينهم بسياج من الاحترام بعد ما عرَّف المسلمين أن ما هم عليه من تلك الأديان هو من مقتضى مشيئة الله وحكمته وفي صالح البشرية والعمران وأن الجزاء على ذلك إنما هو لله وحده يوم يرجع إليه العباد فقال: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ثم أمر بعد ذلك كله بالعفو والصفح عنهم مع العلم بحقيقة قصدهم فقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ببيان هذه الحقائق من سنن الله وحكمته، وتقرير هذه الأحكام من شريعته، ربَّى الإسلام المسلمين على التسامح وكوَّن نظرهم لغيرهم من أهل الملل فهم لا يرون في اختلاف تلك الملل إلا شيئاً قد قضاه الله واقتضته حكمته لعمارة هذه الدار وتلك الدار وظهور آثار عدله وفضله وإحسانه ورحمته، فسلمت قلوبهم من الحقد الديني الممقوت والتعصب