الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لو كان لمن يقول بقراءة القرآن العظيم عند التشييع دليل من أثر أو صحيح نظر لأمكن أن يقال: "واعتضدوا بحديث يس"، لكن قد علمنا مما تقدم أنه لا دليل لهم إلا مشاقة الترك النبوي بتخيل الأفضلية ودعوى الاهتداء إلى ما لم يهتد إليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم مما تقدم لنا إبطاله فلا يمكن حينئذ أن يقال فيهم "اعتضدوا" ويبقى النظر في
حديث قراءة يس
نفسه فلنتكم على سنده ومتنه ليتبين أنه خارج عن موضوعنا.
حديث قراءة يس:
عن معقل بن يَسَار قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم " أقرأوا يس على موتاكم" قال الحافظ في التلخيص (153) بنقل الأستاذ محمد حامد الفقي: رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان- وليس بالنهدي- عن أبيه عن معقل بن يسار ولم يقل النسائي وابن ماجة عن أبيه. وأعله ابن القطار بالاضطراب وبالوقف وبالجهالة لحال أبي عثمان وأبيه.
ونقل الإمام أبو بكر بن العربي المالكي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن ولا يصح في الباب حديث ا. هـ، وقد صححه الحاكم وابن حبان وهما معروفان بالتساهل في التصحيح وسكت عنه أبو داود وسكوته يقتضي عدم تضعيفه ولكنه لا يقتضي بلوغه درجة الصحيح وإذا ضم إليه ما ورد في معناه- ولم يبلغ منها شيء إلى درجة الحجة- إرتقى إلى رتبة الحسن لغيره. هذا كلمة موجزة في سنده بينت لنا رتبته. وأما متنه فإن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام:"على موتاكم" من حضرتهم الموت. قال ابن حبان في صحيحه- بنقل ابن حجر وغيره: أراد به من حضرته المنية لا
أن الميت يقرأ عليه- قال وكذلك قوله- صلى الله عليه وآله وسلم: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" ا. هـ، ومما يدل على أن المراد من حضرته المنية ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، قال حدثنا أبو المغيرة ثنا صفوان قال كانت المشيخة يقولون إذا قرئت- يعني يس- لميت خفف عنه بها. وفي مسند الفردوس- بنقل ابن حجر- عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم "ما من ميت يموت فيقرأ عنده يس إلاّ هَوَّن الله عليه" قال الصنعاني شارح (بلوغ المرام): وهذان يؤيدان ما قاله ابن حبان من أن المراد به المحتضر ا. هـ. وحديث أحمد المتقدم رواه جمع من شراح الحديث مختصرا كما رأيت وأصله في المسند هكذا: "حدثنا أبو المغيرة ثنا صفوان بن عمرو عن المشيخة أنهم حضروا غضيف بن الحرث حين اشتد سوقه فقال: هل أحد منكم يقرأ يس؟ قال فقرأها صالح بن شريح السكوني فلما بلغ أربعين آية منها قبض، قال: فكان المشيخة يقولون: "إذا قرئت عند الميت خفف عنه بها". قال الحافظ ابن حجر في (الإصابة): وهو حديث حسن الإسناد. وغضيف المتوفى صحابي وصالح الذي قرأها، له إدراك، فالمشيخة الذين حضروا بين صحابي وتابعي، والحديث وإن كان موقوفا فمثله لا يقال بالرأي، قال الحافظ: فله حكم المرفوع، وما في هذا الحديث صريح غاية الصراحة، بأن قراءة يس إنما هي على المحتضر ففيه (لما اشتد سوقه) والسوق قال أئمة اللغة: هو النزع. وكان المحتضر نفسه هو الذي قال: "هل فيكم أحد يقرأ يس" وقد فهم الأئمة- رضي الله عنهم أنه في المحتضر، فأخرجه ابن ماجة تحت قوله: "باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر" وأخرجه البغوي في (المصابيح) تحت قوله: "باب ما يقال عند من حضره الميت". ومثله التبريزي في (المشكاة)، وكذلك الإمام ابن أبي زيد فإنه
ذكر رخصة بعض العلماء- وهو ابن حبيب- في قراءة يس- في (باب ما يفعل بالمحتضر من رسالته) فقال هكذا: "وأرخص بعض العلماء في القراءة عند رأسه بسورة يس ولم يكن ذلك عند مالك أمرا معمولا به".
فبان بهذا كله أن حديث قراءة يس- على ما فيه كما عبر فضيلته في أصل الفتوى - خارج عن موضوعنا، لأن موضوعنا في القراءة على الميت بعد موته وهو الذي يفعله الناس ويسمونه (فدوة) وعند تشييعه كما يفعل (مروقية) تونس وغيرهم، وهو الذي قصر فضيلته الكلام عليه في التذييل كما تقدم، وبعد دفنه عند قبره. وليس لنا أن نقيس هذه المواطن على قراءة يس عند المحتضر لأن القياس لا يدخل في العبادات، ولأن المعنى الذي قصد من قراءتها- وهو التخفيف، عليه حال النزاع- معدوم في هذه المواطن.
ولهذا فنحن ما زلنا نطالب فضيلته بالإتيان بسنة صحيحة قولية أو فعلية تثبت مشروعية القراءة في موطن من هذه المواطن. وأنَّى له ذلك؟ (1).
عبد الحميدبن باديس
-5 -
حقا لقد صارت مسألة السنة في تشييع الجنازة- وهي الواضحة الجليلة- ذات ذيول ففضيلته قد جعل لفتواه تذييلا فلا تأصيل ولا تدليل. ونحن- بحكم العدوى الكتابية- قد جعلنا لردنا عليه هذا التذييل. ولكنه لم يخل من دليل.
(1) البصائر: س1 عدد 28 الجزائر يوم الجمعة 27 ربيع الثاني 1355هـ الموافق ليوم 17 جوليت 1936م الصفحة 4 والعمود 2 من الصفحة 5.
كل ما يريده فضيلته هو بقاء تلك الحالة المنكرة البشعة من تشييع الجنائز التي نشرنا فيما مضى بيان بعض الكتاب من إخواننا التونسيين عنها، وهو يعلم أن لا بقاء لها إلا ببقاء تلك الفئة من (المروقية) قائمة بها، وأنها لا تقوم بها إلا بثمن فليفت حينئذ فضيلته- ولا بد- بتحليل ذلك الثمن وجواز أخذ الأجرة على القراءة، فلذا قال في تذييله:"وأما أخذ الأجرة على قراءة القرآن فاعلم أن أخذ الأجر على القراءة جائز باتفاق الأئمة الأربعة".
باتفاق الأئمة الأربعة! هذا باطل ما دعا إليه وحمل عليه إلا الحرص على بقاء هذه البدعة والعياذ بالله، والحقيقة هي أن الحنفية والحنابلة- كما هو مصرح به في كتبهم- لا يجيزون أخذ الأجرة على القراءة وحجتهم على ذلك أن الأجر دفع لأجل حصول ثواب القراءة للدافع لكان القارىء ما قرأ إلا لأجل ذلك الأجر فلم يكن عمله خالصا لله فلم يكن له عليه ثواب، فهو آثم لأنه أكل الأجر بالباطل والدافع آثم لأنه متسبب له في عمل بلا إخلاص وفي ذلك الأكل بالباطل، واستدلوا بحديث عبد الرحمن بن شبل:"قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم: اقرؤا القرآن واعملوا به ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به". رواه أحمد بسند قال في مجمع الزوائد رجاله ثقاة، ورواه غيره، وأجابوا عن حديث ابن عباس- رضي الله عنهما: ((إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله". رواه البخاري بأنه محمول على أخذ الأجر في تعليمه أو الرقية به مما يحصل مقابل الأجر لدافعه جمعا بين الأدلة، وقال بهذا بعض المالكية أيضا، وهو قول قوي- كما ترى- نظرا وأثرا، فأين هو الإجماع الذي يدعيه فضيلته؟.
إلى هنا وجب أن ننتهي من الحديث مع فضيلته. وبقيت لنا كلمة
مع جريدة (الزهرة) التي تساءلت عن آداب الإسلام سنقولها لها- إن شاء الله- إذا إبنا من سفرنا مع وفد الأمة الجزائرية إلى باريس، فإلى اللقاء.
عبد الحميد بن باديس
البصائر: س 1 عدد 29 الجزائر يوم الجمعة 5 جمادي الأولى 1355هـ الموافق ليوم 24 جوليت 1936م، الصفحة 3 في العمود 3.