الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوحدة العربية حتى أصبحت فكرة اتحادها وتضامنها ليست من الأمور الصعبة والمسائل الخيالية كما كان يتوهم الكثيرون.
ولكن عطوفته يرى أن إثارة الوحدة السياسية بين هذه المجموعة الآسيوية والمجموعة الإفريقية في هذه الظروف العصييبة، مما يثير علينا مشاكل جمة ومتاعب عديدة لا قبل لنا باحتمالها ودرئها ونحن ما زلنا على عتبة الاستقلال والسلطان القومي".
وهذا التصريح جلي في أن الأمير لا يعارض إلا في إثارة الوحدة السياسية في هذه الظروف لما يخشى من مشاكل ومتاعب فأين هذه البراءة التي زعمها الباشا وهول بها؟
نرى واجبا علينا بعد ما نقلنا كلام الأمير واطلع عليه القراء، أن ننقل من مقال الباشا المنشور بعدد "الرابطة العربية" المتقدم ما فيه رمي الأمير بالبراءة من مسلمي المستعمرات ليرى القراء بأنفسهم مقدار مطابقته للواقع ومسافة ما بينه وبين الحقيقة.
قال سعادة الباشا:
1 -
"وأما شكيب فيعلن (بدون داع وبدون أن يسأله أحد عن رأيه في الاتفاق مع المسلمين المصابين بالاستعمار) براءته من المسلمين كافة من المغرب الأقصى إلى نهاية الهند ومن التركستان إلى البلقان إلا عرب الجزيرة ومصر (الغنية بذهبها الوهاج) ".
2 -
"إذ دفع فيها (الخطبة) شكيب بإحدى يديه طرابلس برقة معلنا البراءة منها طلبا لرضاء إيطاليا ودوام ابتسامة موسوليني الذي يتفانى في حبه (وهو لاه عنه) لأدنى مناسبة".
3 -
"ويدفع شكيب باليد الأخرى تونس والجزائر ومراكش والسودان تودداً لفرنسا المسيطرة على بلاده معلناً بذلك براءته من الجميع".
4 -
"فما معنى براءة شكيب اليوم من مسلمي طرابلس برقة وافريقيا كلها (إلا مصر الغنية بالذهب) وما هي النعمة التي ستزول عنهم والنقمة التي ستحل بهم وتجعلهم يحزنون من إعلان هذه البراءة الجوفاء من طرف شكيب أرسلان. وعلى هذا القياس القول في رجال المغرب والمشرق كله الذي أعلن شكيب براءته منهم إرضاء للمستعمرين".
5 -
"وأما افريقيا ففقيرة لا تستحق بعد أن نضب ضرعها الذي كان يدر على كثيرين من دعاة الإسلام لبنا خالصا إلا أن يقال لها اليوم بعداً وسحقا لك فإن رضاء المستعمرين أنفع لنا من رضائك".
6 -
"وأن يعاتبوه (المسوريون) على تعليله براءته من مسلمي المستعمرات بأنه لا يتحمل عداوة المستعمرين في سبيل أولئك المسلمين ناسياً أو متناسيا ما كان يتظاهر به من الإنتصار للإسلام ومعتنقيه في كتاباته وخطبه القديمة أيام كان المسلمون أعزة وكرماء".
7 -
"واضطر فيه (وقت كهذا) إلى إعلان البراءة من صديق قديم".
8 -
"أما وقد تظاهر اليوم بإعلان براءته من المسلمين المستعمرة بلادهم فلم يكن بد من الكلام، إذ قد علل ذلك بأنه لا يتحمل عداوة دول الاستعمار لأجل صداقة مسلمي مستعمراتها ونسي الأخوة الإسلامية التي لا يغفل عن ذكرها".
9 -
"ومما يؤسف له أن يعلن شكيب أرسلان براءته على رؤوس الأشهاد في سوريا من المغرب كله تزلفاً لفرنسا".
10 -
"
…
الإهانة التي صوبها إلى إخوانهم رجال شمال إفريقيا الأخ الارسلاني طلباً لرضا إيطاليا وفرانسا".
ماذا يقول القراء بعد وقوفهم على الكلامين؟ أما نحن فقد قضينا
- والله- عجبا من هذا البهت والتحامل اللذين لا مبرر لهما ولقد وقفنا قبل أن نكتب لفظتي البهت والتحامل وحاولنا أن نجد غيرهما يقوم مقامهما فلم نجد إلا إذا خالفنا الحقيقة وسمينا الأشياء بغير أسمائها. ولكننا- مع هذا- نلتمس لسعادة الباشا العذر من مرضه الذي هو في حالة نقه منه والحمد لله.
بقي في كلمات سعادته ملاحظات ينبغي التعليق بها وها هي مرتبة على حسب الأرقام.
1) نظن ان الذي دعا الأمير إلى ما قاله عن الوحدة السياسية أنه كان بصدد تقرير الوحدة العربية فأراد أن يبين ما يريد من التفريق بين الوحدة السياسية وغيرها حسب نظريته، وأما مصر فإنما أدخلها في الوحدة السياسية وهي إفريقية لأنها مستقلة إلى حد بعيد. وأما ذهبها الوهاج فنظن أنه لا يقدم ولا يؤخر لو لم يكن ذلك القدر العظيم من الاستقلال.
2) نظن أن الأمير لو كان ممن تستبيه الابتسامات لاستبته ابتسامات انكلترا التي لا نشك أنها ابتسمت له كما ابتسمت لغيره ممن يعيشون في مناطق نفوذها
…
فأعرض عنها فحرَّمت عليه حتى النزول في مصر رغم دستورها واستقلالها.
3) وأما فرنسا فلو كان الأمير يتودد إليها لتودد إليها أيام كانت بلاده تحت نير انتدابها التام وهو مقضي عليه بالإبعاد منها. وكيف يمكن أن يتودد إليها وهو يعلم أن جرائدها إلى يوم الناس هذا تصفه بالعدو وتنسب إليه- زوراً- كثيراً مما هو واقع في مستعمراتها ومن خطاب م سارو أمام لجنة الجزائر والمستعمرات: (شكيب أرسلان ذلك العدو القديم لفرنسا والذي لا تزول عداوته) وكيف يتودد أدنى العقلاء إلى من يصارحه بالعداوة وينسب إليه المناوءة التامة، فكيف بمثل الأمير؟
4) قضى الأمير شكيب أيام غربته في سويسرا محاربا للاستعمار كله في خطبه وكتبه ومقالاته الكثيرة جدا في صحف الشرق والغرب بالعربية والفرنسية وفي مجلته "لا ناسيون آراب" المشهورة في أنحاء المعمور وهو في ذلك كله يغضب المستعمرين ويكربهم ويحز في حلاقمهم هذا وهو طريدهم وبلده في استعبادهم فكيف صار اليوم وقد شاب فوداه وتحررت- إلى حد- بلاده ورجع كما رجع سائر المبعدين إليها يطلب رضا المستعمرين؟ هذا نظن أنه غير معقول.
5) من هم هؤلاء الكثيرون من دعاة الإسلام الذين كانت إفريقيا تدر عليهم لبنا خالصاً؟ أجمال الدين؟ أم محمد عبده؟ أم رشيد رضا؟ أم شكيب أرسلان؟ فإن كان هو شكيب كما قد يزعم الباشا فهو واحد فأين الكثير. إن مثل هذه الكلمة الغالية المتجاوزة تدلنا على أن سعادة الباشا لم يكن يضبط ما يقول.
6) لقد كان شكيب منقطعًا لنصرة المسلمين المستعبدين أينما كانوا كما تشهد بذلك آثاره التي ذكرنا والمسلمون المسعبدون أذلة لمستعبديهم فقيرهم قعد به العجز وغنيهم غل يديه البخل وهم- إلا قليلا- قد فرطوا في واجبهم نحو مشارعهم التي بين أيديهم وأمام أعينهم فضلا عما هو بعيد عنهم كمجلة شكيب الوحيدة في بابها! فمتى كان المسلمون الذين دافع عنهم شكيب طول أيام غربته أعزة كرماء؟ حتى يزعم الباشا أن شكيبا دافع عنهم أيام عزهم وكرمهم يعني وتبرأ منهم اليوم يوم ذلهم وفقرهم. كلا الأمرين بالعكس يا صاحب السعادة فإن المسلمين كانوا أذلة واليوم تنسموا شيئا من العز وكانوا أشحة واليوم نشطت فيهم روح البذل. فما خدمهم شكيب- إذا أنصفنا- إلا أيام ذلهم وشحهم.
7) من المعلوم أن من الواجب في المذهب الإباضي البراءة من المخالفين كما قال صاحب (النيل) في باب فرز دين الله "ويصل لفرزه
باسمه وصفته ومن ينسب إليه من أئمته وولايتهم وبراءة من خالفهم وتخطئته" فلا عجب أن يتبرأ سعادة الباشا من الأمير كسائر المخالفين وإنما نظن أن سعادته يقصد البراءة الخاصة التي توجب الهجران والمقاطعة لارتكاب جريرة. ولكنها براءة في غير محلها لأنه قد تبين أن الأمير لم يقل شيئا مما رماه به الباشا.
8) لم يقل شكيب أنه لا يتحمل عداوة دول الاستعمار لأجل صداقة مسلمي مستعمراتها ولا ينسى الأخوة الإسلامية بل قد صرح بالصلات المعنوية والروابط الروحية واتحاد القلوب وارتباطها في السراء والضراء والوحدة اللغوية والثقافية والدينية والاجتماعية وأننا منهم ولهم ومعهم أفبعد هذا كله يقال عنه- زوراً- إنه: لا يتحمل عداوة دول الاستعمار لأجل صداقة مسلمي مستعمراتها؟ هذا- والله- عظيم.
9) يصمم الباشا على أن الأمير يتزلف لفرنسا بهذه البراءة المزعومة، ولماذا يتزلف لها ولا سلطان لها عليه ولاطمع له في سلطانها، ولمَ يتزلف لها وهي تذيقه علقم البعد عن الأهل والوطن. كيف يتزلف لها اليوم وهو في أهله ووطنه بفضل أمته وحكومتها لا بفضل فرنسا عليه.
10) ليس فيما نقلناه من كلام الأمير شيء تشم منه رائحة الإهانة وكيف يكون من يصرح بتلك الروابط ويشير بالوحدة السياسية لعرب شمالي إفريقيا مهيناً لإخوانه. كلا، وإنما هو خبير مجرب وسياسي محنك يفرق بين ما يمكن وما لا يمكن إلا بعد زمان.
ها نحن لبينا دعوة الباشا فأبدينا رأينا في كلام الأمير وكلام سعادته بعد نقلهما بنصهما ولو وجدنا- علم الله- شيئا مما زعمه الباشا في كلام الأمير لوقفنا معه الموقف الذي يوجبه الحق والشرف وأخوة الإسلام دون أدنى هوادة أو لين.
وقد اقتصرنا من كلام سعادة الباشا على ما يتعلق بالبراءة المزعومة
دون بقية المقال وإن كنا منكرين لكثير مما فيه، لاأننا لم نقف موقف المدافع عن الأمير إذ له من قلمه ما يغنيه عن دفاع مثلنا.
غير أن هناك ملاحظة لا بد من إبدائها وهي أن روح المقال- في نظرنا- روح هدم لماضي شكيب أرسلان برمته وتصويره بصورة الرجل المادي الذي ما كان يحركه إلا حب المال. وعزيز علينا- والله- مثل هذا النكران من رجل عظيم لرجل عظيم، ومحزن لنا- والله- ومفتت لأكبادنا أن نسرع هذه السرعة في هدم عظمائنا سواء أكان الهادم الباروني لأخيه شكيب أو العكس أو غيرهما. وإننا لنعرف هذه الروح الهدامة فينا معشر الشرقيين ولكننا ما كنا نظنها تبلغ المستوى الذي رقيه الباروني ومثله.
فياليتها قومنا يذكرون- دائما- قول أبي الحسن ابن الرومي:
لا تضع من عظيم قدري وإن كنـ
…
ـت مشارا إليه بالتعطيم
فالشريف العظيم ينقص قدراً
…
بالتعدي على الشريف العظيم
ولع الخمر بالعقول رمي الخمـ
…
ـر بتنجيسها وبالتحريم
بل ليتهم يتأدبون بأدب الله في قوله جل جلاله {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} فلا ينكرون الإحسان الكثير لأجل السوء القليل، إن كان هذا السوء القليل.
هذا رأينا فيما بين الأمير والباشا أما رأينا في الوحدة السياسية وفي عروبة شمال إفريقيا فسنبديه في العدد الآتي إن شاء الله.
هذا وكأنني بـ: م. سارو وغيره يضمون كتابتي هذه إلى حججهم على ما يرمون به الأمير وما يرموننا به. ونحن ما أنكرنا يوما بيننا وبين عظماء أمتنا الإسلامية والعربية من روابط متينة وعلائق قوية وإن لم تكن بيننا معرفة شخصية ولا كتابية.
ونحن نكلف بالعظمة وندافع بالحق، ولو لم تكن منا، فكيف بها إذا كانت منا- وقديما قال شاعرنا أبو عبادة البحتري:
وأراني من بعد اكلف بالا شـ
…
ـراف طرا من كل سنخ وجنس
عبد الحميد بن باديس
(1) ش: ج 10، م 13، ص 438 - 446
بسكرة النخيل 1 شوال 1356هـ - 12 دسامبر 1937م.