الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نحن والواجهة الشعبية
أدركنا من يوم تأسست الواجهة الشعبية الفرنسية أن روح السياسة الفرنسية نحو الشعوب المتصلة بفرنسا لا بد أن تتبدل- إلى العدل والتسامح- شيئا ما. وعلمنا أن المبادئ التي أنبنت عليها تلك الواجهة أكثر إنسانية، فكنا أول من أعلن ثقته بها ولزوم انتظار شيء منها. وقلنا يوم ذلك: أن فرنسا- بإجماع العالم- في وضعية جديدة فلننظر إليها نظرة جديدة. وشاهدنا بالفعل طغاة الاستعمار عندنا بالجزائر يناوئون تلك الواجهة ويناصبونها العداء، فازددنا يقينا بما اعتقدنا. ولا يشك من له أدنى مسحة من عقل أن أولئك الطغاة ما أبغضوها ذلك البغض ولا عادوها ذلك العداء إلا لما اعتقدوه فيها من شيء من تخفيف وطأة الظلم والإرهاق عن المستضعفين، وشيء من كف يد العتاة الظالين. ونحن نعترف أن الواجهة الشعبية سارت شطرا من ماضي أيامها بالروح التي تأسست عليها وتنفس الخناق عن المستضعفين شيئا ما وانتعشت الآمال في المستقبل بعض الانتعاش.
ولكن ما لبث الطغيان الاستعماري والجبروت الآلي الاستغلالي أن أخذ يتقلب، وأخذت حكومة الواجهة تبعا لذلك تتقلب، حتى انتهت إلى ما انتهت إليه الحكومات قبلها. وحوادث اليوم بالمغرب والجزائر أكبر شاهد.
وقد اعترف رجال هذه الواجهة في صحفهم بحقيقة الانقلاب في حكومتهم والغلب الواقعة عليهم. ففي عدد أخير من جريد "البوبيلير" لسان الحزب الاشتراكي الافرنسي مقال عن المغرب بقلم مادلين بار قال فيه:
"إنه يمكننا الإفصاح بكلمات وجيزة، ذلك أن كامل الساسة الفرنسوية قد توجهت لحد الآن للاهتمام بحالة المعمرين، وصرفت
أموالاً باهظة بصورة تنم عن تكوين جنة- وهذا هو النعت المناسب للمقام- لفائدة ثلاثة آلاف من الرجال. أي المعمرين خاصة لا يحسنون من الفلاحة إلا وسيلة واحدة وهي الاستثمار، ولا غاية لهم إلا تربية الثروة. هذا ما كان، وأما ما يجب القيام به فهو المبادرة بصدق إلى توجيه السياسة الفرنسية نحو سواد الأهالي".
نحن نعرف المبادئ قبل كل شيء، ورأينا في مبادئ الواجهة الشعبية هو رأينا، ولكن رجال تلك المبادئ الحقيقيين- رغم ما كان عندهم في أيامهم الأولى من قوة- كانوا ضعفاء، كانوا صغارا في السياسة أو - على الأقل- كانوا جدداً في كراسي الحكومة.
فهاهم اليوم، الحكومة حكومتهم، ولكن روحها غير روح مبادئهم، إسمها لهم ومسماها في يد غيرهم ولم يبق لهم إلا النصح والقول تقدمه - باحتراس كبير- صحفهم أو بعض صحفهم!
فإزاء هذا رأينا أن الواجب علينا أن نعلن لشعبنا أن "لا نعتمد إلا على أنفسنا وتتكل على الله".
ثم نحن من بعد ذلك سنحتفط للمحسن بإحسانه، وللمسيء بإساءته.
"و" الخير أبقي وإن طال الزمان به
…
والشر أخبث ما أوعيت من زاد {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (1).
عبد الحميد بن باديس
(1) ش: ج 9، م 13، ص 403 - 406 غرة رمضان 1356هـ - نوفمبر 1937م.